5
بعد كلمات الأرشيدوق، أمسكتُ بصدغيّ متظاهرةً بالإرهاق.
“لا داعي لأن تُخفي الحقيقة عني.”
“ألم تقولي للتوّ إنه لا يمكن تقديم تصريحاتٍ كاذبةٍ في المحكمة؟”
“بالتأكيد قلتُ ذلك. لكن هذه لم تكن كذبة.”
عقدت حاجبي وأنا أُذكِّرُه بالحقيقة، فتنهّد الأرشيدوق بخفّة.
“لا، إنها كذبة. لهذا السبب أُصحِّحُ سوء الفهم.”
“معظم من يأتون إلي يقولون الشيء نفسه. أنا بريء، إنه سوء فهم، ذلك الشخص يكذب.”
رددتُ بلامبالاة على أعذاره. كانت تلك حججًا مألوفةً من المتّهمين.
“أقول الحقيقة حقًا-“
“إذن لماذا قتلتَ والد فيفيان؟”
بدأتُ أشعر بالانزعاج لأن النقاش طال منذ السؤال الثاني دون الوصول إلى أرضية مشتركة. انفجرتُ غضبًا ورددتُ عليه، عندها تشوّه وجه الأرشيدوق بشكلٍ مخيف.
“ألم تقولي أنكِ ستبرّئينني؟”
“نعم. قلتُ إنني سأُبْرِّئُك، لكنني لم أقل أنكَ بريءٌ حقًا.”
“مـ ماذا؟”
فتح عينيه على اتساعهما كما لو كان مصدومًا. في الحقيقة، لم أكن أهتمّ لبراءته حقًّا، كلّ ما يهمّني هو العمولة التي سيدفعها لي بعد تبرئته في المحكمة.
من الواضح أنه أساء فهم دور المحامي. يا له من ساذج! تنهّدتُ تنهيدةً عميقة.
“لنكن صريحين. عقدُنا هو أنني سأُبْرِّئُك فحسب، وليس أن أؤمن ببراءتك.”
بصراحة، كلّ ظروف القضية كانت كافيةً لاستنتاج أن الأرشيدوق ريتشارد هو مَن قتل والد فيفيان. بالإضافة إلى أن دافع القتل واضحٌ نسبيًا.
كرانش-
في تلك اللحظة، نهض الأرشيدوق فجأةً من مكانه مع صوتٍ قويّ.
“لا حاجة لي لمحامٍ لا يصدّقني. لذلك اخرجي من هنا!”
“انتظر، لا يمكنكَ ذلك! عقدنا ينصّ بوضوحٍ …”
“نعم، هذا كان عقدنا.”
حدّق بي بشراسة. تلك العيون القرمزية، التي كانت تحدّق بي بجديةٍ قبل لحظات، لم تحمل الآن سوى الحذر وعدم الثقة.
“إذا تمكّنتِ من تبرئتي، سأعطيكِ نصف ثروتي. لكن إذا لم أتعاون، فلن تتمكّني من تبرئتي.”
“ماذا، ماذا قلت؟”
أن يرفض المُدَّعى عليه الدفاع! هذا شيءٌ لم أتوقّعه على الإطلاق. لم أستطع سوى التحديق بذهولٍ في ظهر الرجل الذي يبتعد بعينين خائبتين.
وازدادت المشكلة سوءًا. في اليوم التالي، واليوم الذي يليه، واليوم الذي يليه أيضًا، رفض الأرشيدوق مقابلتي.
“ماذا أفعل؟”
في النهاية، كان اليوم أيضًا يومًا آخر مضيعةً للوقت. عضضتُ على شفتيّ بقلق. عندما لم يُبدِ الأرشيدوق، الذي اعتقدتُ أن غضبه سيزول بعد يومٍ تقريبًا، أيّ استجابة، ازداد قلقي تدريجيًا.
بالطبع، لم أستطع الاستسلام، لذا استمررتُ في البحث بنشاطٍ في القضية للدفاع عنه بطريقتي الخاصة. لكن إذا كان موكّلي، الأهم شخص، يرفض الدفاع ويُثبِتُ عدم تعاونه، فلا فائدة من ذلك. إذا اعترف الأرشيدوق بذنبه في المحكمة، فسينتهي كلّ شيء.
بينما كنتُ أخرج من السجن بخيبة أمل، دون أن أحقّق أيّ فائدة، رأيتُ الملازم فيكتور جينوا يقترب من الجانب الآخر. في لحظةٍ ما، أصبح ودودًا جدًا معي وتحدّق
“سمو الأرشيدوقة، هل سمو الأرشيدوق بخير؟”
بذلتُ جهدًا للتظاهر بالهدوء حتى لا يكتشف أحدٌ أنني في خلافٍ مع الدوق.
“بالتأكيد، طبعًا. هل تقومون بالمَهمّة التي كلفتُكم بها سابقًا بشكلٍ جيد؟”
“نعم. لكن، هل هذا كلّ ما علينا فعله؟ باعتباري رجلًا، ألا يبدو هذا ضعيفًا جدًا؟ يبدو وكأننا لا نستطيع قتل حتى نملة.”
يا لكَ من جاهل! هززتُ رأسي بحزم.
“كلا. المظهر الذي يوحي بأنه لا يستطيع قتل أيّ شيءٍ هو الأساس.”
ما أردتُه هو تغيير صورة فرقة ريتشارد. عند القدوم أمام السجن، يجب أن يكونوا بدون أسلحة، ويرتدون ملابس فاتحة اللون، ويحلقون ذقونهم جميعًا، ويصفّفون شعرهم بدقّة. في الواقع، كان الجنود، بمَن فيهم فيكتور، يتمتّعون بنظرةٍ ذكوريّةٍ ووحشيّةٍ مبالغٍ فيها، ممّا جعلهم يبدون كأتباعٍ لعقلٍ مدبّرٍ قاتل.
كان يجب إزالة أيّ عوامل قد تؤثر سلبًا على صورة الأرشيدوق. لحسن الحظ، بعد أن استمعوا إلى كلامي بدقّة، أصبحت هيئتهم مختلفةً تمامًا. بدوا كمجموعةٍ من الشباب المتديّنين.
‘الآن كلّ ما عليّ فعله هو تغيير رأي الأرشيدوق …’
كان غياب الشخص الأكثر أهمية مؤلمًا. أخذتُ نفسًا عميقًا وتوجّهتُ لإجراء مقابلةٍ مع مراسلٍ من صحيفةٍ يوميةٍ مرموقة. كانت علاقتي بعميلي متوتّرة، لكن كان عليّ القيام بدوري بإخلاص.
***
بعد بضعة أيام.
في غرفة الزيارات في السجن تحت الأرض.
عبس بنديكت، الذي رفض جميع زيارات إيلينا، بعد أن سمع أن فيكتور جينوا يزوره.
“تعامِلُني كأحمقٍ الآن.”
تبيع اسم فيكتور مرّةً أخرى؟ ضحك بنديكت ساخرًا. لابد أن إيلينا تحاول خداعه مرّةً أخرى بأكاذيبها الواهية. لكن، عندما سمع بنديكت تصريح الحارس بأن الزائر رجلٌ بلا شك، فرك مؤخرة رقبته بسرعة من الحرج.
بعد فترة، عندما ذهب بنديكت إلى غرفة الزيارات، تجهّم وجهه.
“مظهرك … ما هذا؟”
كان مظهر فيكتور الذي رآه بمجرّد فتح الباب صادمًا لدرجة أن تعليقه خرج على الفور.
“كيف حالك، سيدي؟ ألا تعتقد أنني أبدو لطيفًا للغاية وغير مؤذٍ؟ لقد أوصت به صاحبة السعادة.”
أشار فيكتور بفخرٍ إلى الكتكوت الأصفر المرسوم على قميصه الزهري الباهت. تصلّب وجه بنديكت عندما ذَكَر فيكتور إيلينا.
“هل أتيتَ إلى هنا بتعليماتٍ منها؟”
“لا، أنا فقط قلقٌ من أنكَ قد تكون مصابًا بمرضٍ خطير، سيدي.”
في الآونة الأخيرة، كان فيكتور يشعر بشيءٍ غريب. كانت مدّة زيارات الأرشيدوقة تقصر تدريجيًا. وبدا القلق يخيّم على وجهها في كلّ مرّة. لذا جاء ليتحقّق بنفسه ممّا إذا كان قائده مريضًا.
في هذه الأثناء، بعد أن تأكّد بنديكت أن زيارة فيكتور لا علاقة لها بإيلينا، خفّف من حدّة جوّه قليلاً.
“أنا بخير، كما ترى. بدلاً من ذلك، عليكَ أن تحرق هذه البدلة السخيفة فور خروجكَ من هنا.”
“مستحيل! هل تعرف مدى فعالية هذه البدلة؟ بفضل سعادة الأرشيدوقة هذه الأيام، تسير الأمور بشكلٍ جيدٍ جدًا.”
لوّح فيكتور بيديه رفضًا وهو يقفز من المكان. بدلاً من ذلك، قدّم لبنديكت رُزمةً من الصحف.
“انظر إلى هذا.”
ارتجفت عينا بنديكت وهو يقرأ عناوين الصحيفة اليومية الكبيرة.
[أصدّق سعادة الأرشيدوق تمامًا.] مقابلةٌ حصريةٌ مع أرشيدوقة ريتشارد لـ ‘الليدي آريا’.
“ها.”
انفجرت ضحكةٌ لاذعةٌ من بين أسنان بنديكت. تصدّقه؟ كانت المقابلة بغيضة. وكان المحتوى أكثر سخافة.
“لإنقاذ حياة شخصٍ عاديٍّ مثلي، لم يتردّد سعادة الأرشيدوق في القفز وسط نيران العدو. لقد وقعتُ في حبّه من النظرة الأولى عندما رأيتُه. (إنه يقدّر كلّ الحياة، ليس شخصًا يمكنه إيذاء أحدٍ أبدًا!) أن يُتَّهَمَ شخصٌ لطيفٌ ورائعٌ كهذا بالقتل ظُلمًا. لقد وقعنا في حبٍّ حنون في السجن… (محذوف)”
كانت قصّة الحبّ المُختَلَقَة التي تلت ذلك صادمةً لدرجة أنه لم يستطع إجبار عينيه على قراءة المزيد.
انفجر ضاحكًا بشكلٍ خاصٍّ عند النقطة التي تقول فيها إنه ليس شخصًا يمكنه إيذاء أيّ أحد. كم عدد الأشخاص الذين قتلهم في ساحة المعركة؟
ومع ذلك، كانت الكتابة واقعيةً لدرجة أنه حتى بنديكت، الذي يعلم جيدًا أن القصة كلها محض كذبة، شعر بصدره ممتلئًا بالامتنان قليلاً عندما انتهى من قراءة المقال.
“لم أكن أعلم أن سيدي لديه قلبٌ دافئٌ إلى هذا الحد.”
مسح فيكتور دموعه بوجهٍ مليئٍ بالعاطفة. يبدو أنه كلّما فكّر فيها وتذكّرها، اعتقد أنها قصّة حبٍّ سامية.
تمتم بنديكت بخيبة أمل.
“هذا المقال السخيف …. هل يصدّقه الناس؟”
“بالتأكيد! بعد نشر مقابلة سعادة الأرشيدوقة، قيل أن مبيعات ‘ليدي آريا’ قفزت إلى الضعف. وعلى. وجه الخصوص، كان الدعم من النساء هائلاً.”
“……”
واصل فيكتور الحديث بحماس.
“تستمرّ المقالات اللاحقة في التدفّق، والأصوات التي كانت تعامل سعادتكَ كمجرمٍ حتى قبل وقتٍ قصيرٍ بدأت تنقلب تدريجيًا. حتى أن هناك حديثًا عن أن ولي العهد، الذي كان يعارضك، ربما يكون قد دبّر تحقيقًا مُفرِطًا في العدوانية بالتلاعب بالشرطة.”
كان سعيدًا حقًا وهو يقول ذلك. حكّ بنديكت خدّه المتصلّب بقلق.
“بطريقةٍ ما، فإن اتّباع ما تُمليه عليّ صاحبة السعادة يُعطي نتائج إيجابية. كنتُ خائفًا من مرور الوقت يومًا بعد يوم حتى موعد المحاكمة، لكن الآن أصبحتُ أتطلّع إلى ذلك اليوم.”
شعر بمرارةٍ في فمه. بينما كان يواجه نظرة الأمل على وجه فيكتور، لم يستطع أن يقول إنه يرفض مساعدة تلك المرأة وأنه لن يكون هناك أيّ حديثٍ عن تبرئته في المَحاكمة المستقبلية. داعب منطقة حلقه الضيقة والمختنقة.
“… ماذا تفعل تلك المرأة، إيلينا؟”
“في الواقع …”
عند سؤال بنديكت، أصبح وجه فيكتور قاتمًا قليلاً. رفع بنديكت حاجبيه باستغراب. بعد تردّد، واصل فيكتور الحديث بحذر.
بعد ساعاتٍ قليلة.
بعد مغادرة فيكتور، بقي بنديكت وحده في غرفة الزيارات، يمسك جبهته بتعبيرٍ خطير، كما لو أن كارثةً كبرى قد حدثت. انطلقت تنهيدةٌ عميقةٌ من بين أسنانه، ثم تمتم أخيرًا بجديّة.
“أعتقد أن إيلينا كريستي تحبّني.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 5"