عندما ظهر الماركيز الشاب سبنسر، بدأ الآخرون بالتسلّل خارج الغرفة، تاركين أنا والأرشيدوق ريتشارد وحدنا في غرفة الدراسة. عبس الأرشيدوق، وبدا عليه الاستياء.
“في هذه الأيام، ساءت آداب نبلاء العاصمة.”
“منذ متى وأنتَ تهتمّ بآداب النبلاء؟ ألا تكره هذا التظاهر؟”
“لم يعجبني التذمّر بشأن عدد أدوات المائدة اللازمة للوجبة. لكن هذا لا يعني أنني موافقٌ على مرور الضيوف دون سابق إنذار.”
هزّ ماركيز سبنسر الشاب كتفيه لردّ الأرشيدوق الساخر.
“اليوم، لستُ ضيفًا، بل مستثمرًا في ورشة العمل.”
“خطّة العمل جيدةٌ تمامًا. حتى كمستثمر، لا أعتقد أنكَ بحاجةٍ للتحدث معي.”
أدرتُ رأسي نحو الأرشيدوق، الذي كان يتحدّث بشكلٍ فظٍّ على نحوٍ غير متوقّع. التقت عيناه بعينيّ، فأشاح بنظره بنظرة استنكار.
ابتسمتُ. لطالما كان على وجهكَ تعبيرٌ من الاستياء، لكن في أعماقك، كنتَ تعتقد أن خطّتي مثالية.
“بالطبع، لا أقول إني سأتدخّل في شؤونك. يبدو أن زوجتكَ قد وضعت خطّةً جيدةً جدًا.”
“ثم ماذا؟”
رفع الأرشيدوق حاجبه، وبدا عليه بعض القلق. ثم ابتسم الماركيز بتأنٍّ، وأخرج ورقةً من جيبه، ولوّح بها. كان من الواضح أنها ظرفٌ فاخر.
“جئتُ لأسألكَ إن كنتَ ترغب في استلام مبلغٍ آخر مقابل الاستثمار.”
عبس الأرشيدوق، كما لو أنه لم يفهم. أجبتُ عنه بسرعة.
“لكنني لم أتلقَّ أيّ شيء.”
“هل تقولين أنكِ لم تتلقّي دعوةً لحضور حفل الصيف؟”
عبس الماركيز قليلًا. أومأتُ برأسي.
“أتحقّق من بريد الرسائل يوميًا، لكنني لم أتلقَّ أيّ دعوةٍ كهذه.”
“يا إلهي …”
لمس الماركيز جبينه، وكأنه أدرك ذلك أخيرًا. لم يعد الأرشيدوق قادرًا على كبح فضوله، فرفع صوته.
“ما الذي يحدث بينكما؟”
أجاب الماركيز ببرودٍ على الأرشيدوق الذي عبس.
“قلتُ إنني أريد أن أكون شريك الأرشيدوقة الأول في الرقص.”
“ماذا …؟”
في تلك اللحظة، ارتجف جسد الأرشيدوق وتجمّد، كما لو أنه سمع قصّةً صادمة. أومأتُ برأسي، كما لو أنني توقّعتُ ذلك. بصراحة، كان عرض مبلغٍ كبيرٍ من المال مقابل رقصةٍ واحدةٍ أمرًا غير مواتٍ بالنسبة للماركيز سبنسر لدرجة أنه يبدو وكأنه قد تم النصب عليه.
“أجل، إنه لا شيء حقًا، أليس كذلك؟”
“…..”
توقّعتُ أن ينظر الأرشيدوق بشفقةٍ إلى هذا العرض الباهظ. على عكس توقّعاتي، تحوّل تعبير الأرشيدوق إلى نظرة غضب. شدّ الماركيز الشاب فكّه أيضًا بتعبيرٍ غريبٍ قبل أن يبتسم لي.
“حفل الصيف هو حدثٌ يُدعى إليه معظم نبلاء الإمبراطورية. وتحضره العائلة الإمبراطورية أيضًا. لذا، افترضتُ بطبيعة الحال أن عائلة الأرشيدوق ستتلقّى دعوةً أيضًا.”
“إذا كانت العائلة الإمبراطورية … فهل يعني ذلك أن ولي العهد لورانس سيحضر؟”
كانت هذه ملاحظةً لفتت انتباهه. أومأ الماركيز وتنهّد للأرشيدوق.
“يرسلون الدعوات إلى حضور العام الماضي أولًا … لقد تجاهلتُ حقيقة أنكَ لم تحضر حفلًا صيفيًا إمبراطوريًا من قبل.”
“لستُ متفرّغًا بما يكفي لحضور مثل هذا الحدث.”
ارتفع صوت الأرشبدوق وهو يجيب. بدا وكأنه يرحّب سرًّا بحقيقة أنه لن يتمكّن من حضور حفل الصيف. هزّ الماركيز الشاب رأسه بلا حولٍ ولا قوّة.
“أعلم أن هذا ليس من ذوقك، لكن من الجيد أن تُرى في مثل هذه المناسبات الكبرى. حان الوقت لظهور زوجتكَ لأوّل مرّةٍ في المجتمع.”
“أفهم ذلك، لكن كما ترى، أنا مشغولٌ الآن. إيلينا لا ترغب بحضور حدثٍ لا طائل منه—”
“لا، أريد الحضور! أريد حضور حفل الصيف!”
رفعت يدي بسرعة.
“…..!”
نظر إليّ الدوق الأكبر كما لو كنتُ خائنة.
“ولي العهد سيحضر، تعلم هذا.”
غمزتُ للأرشيدوق بلمحة فكاهةٍ خفيفة. كانت هذه فرصةً ذهبيةً للتحقيق مع المشتبه به الرئيسي. كنتُ أؤجّلُ العثور على الجاني الحقيقي لانشغالاتي، والآن حان وقت استئناف التحقيق.
“… افعلي ما يحلو لكِ.”
أجاب الأرشيدوق بتجهّم. بعد أن حصلتُ على موافقته، لمعت عيناي بحماس.
“كيف يمكنني حضور حفل الصيف؟”
“سيكون الأمر بسيطّا إذا حضرتِ كشريكةٍ لي.”
أجاب ماركيز سبنسر بنظرة رضًا تامّة.
“أوه، هذا مستحيل. لا أستطيع حضور حفلٍ راقصٍ كرفيقة شخصٍ آخر، تاركةً الأرشيدوق وحده.”
لكنني رفضتُ عرضه رفضًا قاطعًا. حضور حفلٍ راقصٍ كرفيقة شخصٍ آخر، تاركةً الأرشيدوق خلفي، أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن مجرّد الرقص مع ابن الماركيز. كيف سأبدو أمام الحضور، وخاصّةً في حفلٍ تحضره العائلة المالكة أيضًا!
أجاب الماركيز الشاب بصوتٍ أكثر هدوءًا من ذي قبل.
“… يبدو الأمر منطقيًّا هكذا. إذًا، هناك طريقةٌ واحدةٌ متبقّيةٌ فقط.”
“ما هي تلك الطريقة؟”
أظهر الأرشيدوق، الذي كان سلبيًّا حتى لحظةٍ ماضية، اهتمامًا مفاجئًا بكيفية الحصول على دعوةٍ لحضور حفل الصيف. لحسن الحظ، بدا أنه انضمّ إلى قضية التحقيق مع ولي العهد. هزّ الماركيز الشاب سبنسر كتفيه في عجز.
“طريقة الحصول على دعوةٍ لحضور حفل دوقة بوفاري هي من دوقة بوفاري نفسها، مُضيفة حفل الصيف.”
دوقة كلير بوفاري.
عند ذِكر اسمها، تبادرت إلى ذهني معلوماتٌ عنها من الرواية الأصلية والصحف.
في شبابها، كانت تُعتبر زهرة المجتمع الراقي، وحتى الآن، في منتصف عمرها، كانت شخصيةً محوريّةً في المجتمع، تُؤثّر في نبلاء الإمبراطورية. في الواقع، يُمكن القول إنها كانت صاحبة ثاني أعلى نفوذٍ في المجتمع الإمبراطوري، بعد الإمبراطورة مباشرةً.
ابتسم الماركيز الشاب ابتسامةً خفيفة، وعقد حاجبيه.
“لن يكون الأمر سهلاً عليكما. أشعر بالتوتر عند التحدّث معها أيضًا.”
تدخل بطلة الرواية الأصلية، فيفيان، هي الأخرى إلى المجتمع الراقي، وتُهان من قِبَل الدوقة بوفاري المُتطلّبة. بالطبع، بمساعدة بطل الرواية، لورانس، تعترف الدوقة بوفاري بها في النهاية.
“المجاملات الاجتماعية تعتمد على الزخم. لا يوجد شيءٌ لا يُمكنني فعله.”
نظرتُ إلى الماركيز الشاب بثقة. لا تسقط شجرةٌ بعد عشر ضربات. في حياتي الماضية، كنتُ سأذهب مع أيّ موكّلٍ وأربحُ قضيته، إن كان مُخطِئًا أم مُصيبًا.
∗ ∗ ∗
وبعد بضعة أيام، علمتُ أن بعض الأشجار في هذا العالم لا تسقط بعد عشر ضربات.
“لا، ما كان يجب أن أقابلكِ!”
لقد كانت الدوقة بوفاري التي قابلتُها في الأيام القليلة الماضية خصمًا عنيدًا بحق.
“… أريد رؤيتكِ احترامًا لشخصكِ النبيل.”
وبطبيعة الحال، لم تُلقِ رسالة صداقتي، المليئة بكلّ أنواع اللغة المنمّقة، آذانًا صاغية.
«أنا آسف، لكن لا يُسمح للضيوف غير ذي موعد بدخول مقرّ الدوق.»
ذهبتُ إلى مقرّ الدوقة، لكن خادمًا رفضني على الفور.
«أنا الأرشيدوقة ريتشارد! لمَ لا؟ لماذا! كيف تجرؤ على أن تكون وقحًا إلى هذه الدرجة!»
«حتى جلالة الإمبراطورة لا تستطيع الحضور.»
حتى استخدام لقب ‘الأرشيدوقة’ للضغط عليه كان بلا فائدةٍ أمام الدوقة، التي كانت ناجحة كالإمبراطورة. لم يكن وضع الأرشيدوق ريتشارد الحالي في الإمبراطورية جيدًا، وقد وُلِدتُ من عامة الشعب، شخصًا وضيعًا.
“هذه فرصتي للقبض على الجاني الحقيقي، ولا يمكنني التراجع الآن.”
صررتُ على أسناني أمام محلّ حلوياتٍ فاخرٍ في قلب العاصمة الصاخب. وحسب معلومات فيكتور، كانت الدوقة بوفاري وسيداتٌ نبيلاتٌ من عائلاتٍ مرموقةٍ يُقيمن حفلًا هناك اليوم.
بينما فتحتُ الباب وكنتُ على وشك الدخول، اعترض طريقي ذراعُ موظّفةٍ في المحل.
“معذرةً، هل لديكِ حجزٌ مُسبَق؟”
“بالتأكيد. أنا مع الدوقة بوفاري.”
ابتسمتُ ببراءة. ثم نظرت إليّ الموظفة من رأسي إلى أخمص قدميّ باحترامٍ بالغ. ثم قالت بابتسامةٍ باهتة.
“أنا آسفة، لكن مرافقي الدقة قد دخلوا جميعًا.”
بام!
طُرِدتُ إلى الشارع. حدّقتُ في باب محلّ الحلويات المُغلَق بإحكامٍ بنظرة استياء.
“إذا كنتِ آسفة، فلماذا لا تسمحين لي بالدخول؟”
لكنني لم أستطع التراجع هكذا. اليوم هو يوم القرار. انتقلتُ بسرعةٍ إلى الخطّة البديلة. بحسب فيكتور، الذي كان يعلم كلّ شيءٍ عن العقل المدبّر، كان هناك بابٌ خلفيٌّ مخفيٌّ مقابل المدخل الرئيسي لمحل الحلويات هذا، يسمح لي بالدخول دون أن يُلاحظني أحد.
“إذن، ليس أمامي خيارٌ سوى التسلّل.”
على عكس المدخل الأمامي الرائع، كان الزقاق الخلفي مظلمًا، واختبأتُ في الظلال كما لو كنتُ أُجري عمليةً سريّة. مع صوت خشخشة، رأيتُ موظّفًا في المحل يخرج من الباب الخلفي لإخراج القمامة. وما إن هممتُ باغتنام الفرصة وانحنيتُ وركضتُ نحو الباب …
“هيك، هيك …”
تردّد صدى شهقات امرأةٍ حزينةٍ عبر الظلال الكثيفة، فتوقّفتُ في مكاني.
‘ما هذا؟’
كان الصوت مُفجِعًا لدرجةٍ يصعب تجاهله. أدرتُ رأسي نحو الصوت. رأيتُ امرأةً نبيلةً تجلس على درجات المحل الخارجية، تمسح دموعها.
فستانٌ رائعٌ مرصّعٌ بالجواهر، وشعرها مُصفّفٌ على شكل كعكةٍ حمراء. أخيرًا، أدركتُ هويّتها، فاتّسعت عيناي.
التعليقات لهذا الفصل " 28"