“ماذا؟”
اتّسعت عينا أرشيدوق ريتشارد عندما قلتُ أنني وجدتُ الخنجر. انفجرت همهمةٌ من الحضور. حتى ولي العهد الذي بدا حتى الآن غير متأثّرٍ كثيرًا، نهض هذه المرّة فجأةً من مقعده وحدّق بي بعينين واسعتين.
لذا ابتسمتُ له. لم يكن ذلك يعني فعليًّا أنني وجدتُ خنجر الأرشيدوق المفقود.
“وأيضًا، والكثير غيره.”
عندما فتحتُ الحقيبة التي كانت بجانبي وقلبتُها، انسكبت عشرات الخناجر، التي تشبه تمامًا الخنجر المُقدَّم كدليل، على الأرض بصوتٍ عالٍ.
“تجوّلتُ في متاجر الأسلحة في العاصمة، وكان الخنجر المذكور قطعةً جاهزة، تكفي الجيش الإمبراطوري بأكمله. هذا يعني أن أيّ شخصٍ يستطيع الحصول على واحدٍ يُمكن أن يكون مُشتَبهًا به. هل لديكَ أيّ دليلٍ على أن سلاح الجريمة يخصّ المُتَّهم؟”
لم يكن هناك اسمٌ مكتوبٌ على الخنجر، وفي عصرٍ لم تتطوّر فيه التحقيقات العلميّة، لم يكن من الممكن اكتشاف بصمات الأرشيدوق أو الحمض النّووي. كيف سيثبتون أنّ الخنجر المستخدم في الجريمة هو خنجر الأرشيدوق؟ هذا هراء.
عندها احتجّ رئيس الشرطة.
“المُدّعى عليه لا يملك خنجرًا! لابدّ أن هذا لأنه استخدمه كأداةٍ للجريمة!”
“لم يُستخدَم كأداة جريمة، بل سُرِق لذا فهو مفقود. حتى القاضي أقرّ بعدم وجود دليلٍ يدعم هذا الادّعاء.”
بدا القاضي وكأنه قد صُدِم. لأن تصريحه الذي أدلى به ببرودٍ بسبب اعتقاده أن الدّعوى محسومةٌ مسبقًا، أمسك بتلابيبه. للحظة، بدا الارتباك على رئيس الشّرطة، ثم رفع ذقنه.
“كيف تفسّرون حقيقة أنّ المُتَّهم أعسر؟”
ضحكتُ بسخرية.
“إن كنتَ تعرف عدد الأشخاص العُسر في الإمبراطوريّة، لما كنتَ واثقًا إلى هذا الحدّ.”
المحاكمة ليست مسرحيّةً استدلالية. يُحدَّد الإدانة أو البراءة بدليلٍ واضح. مشاهد استخراج اعتراف المجرم باستدلالٍ عشوائيٍّ مثل أن المجرم أعسر، أو لماذا فقد متعلّقاته في هذا التوقيت بالذات، مسموحٌ بها فقط في روايات المحققين مثل شارلوك هولمز.
“هل تُخطّط حقًا لاستهداف كلِّ أعسرٍ حضر تلك المأدبة كمشتبهٍ به؟”
ثم رفعتُ رأسي مباشرةً نحو بطل الرواية الجالس في أعلى القاعة، لورانس. عندما رأيتُ ولي العهد لورانس يدخل قاعة المحكمة، عرفتُ فورًا أنّه أعسر. لأنّ سيفًا يرمز إلى العائلة الإمبراطوريّة كان مُعلَّقًا على جانبه الأيمن.
فجأة، انعقدت شفتا لورانس بابتسامةٍ مشوّهة. تظاهرتُ بأنني لم أرَ ذلك التعبير، ونظرتُ مرّةً أخرى إلى رئيس الشرطة. أدرك رئيس الشرطة الذي فهم نيّة سؤالي عن ما إذا كان سيجعل حتى ولي العهد مشتبهًا به، فاكتفى بتصفية حلقه وظلّ صامتًا لفترة لفترة.
لكنه استجمع قواه حتى آخر قطرة.
“للمُتَّهم دوافعٌ قويّةٌ للجريمة. إنه انتقام لرفض وليّة العهد له!”
“إذا كان هذا ما تقصده، فأودّ أن أُشير إلى أن هذا نهجٌ خاطئٌ للغاية. لم يُحِبّ جلالة الأرشيدوق صاحية السموّ وليّة العهد قط. لذلك، ليس لديه سببٌ للانتقام.”
يا للأسف. نظرتُ إلى رئيس الشرطة الذي كان يلعب أسوأ خطوةٍ بعيونٍ متعاطفة. عندئذٍ رفع بتعبيرٍ جادً عدّة صحفٍ بيده.
“هذه مقالاتٌ فاضحةٌ تقول إنّ المُدّعى عليه يعشق وليّة العهد صاحبة السّمو. إنّها حقيقةٌ معروفةٌ جدًّا في الإمبراطوريّة بالفعل.”
“آه، إذًا تريدون التّأكيد على أن ما نُشِر في المقالات صحيح.”
وضعتُ كتاب قصاصاتٍ سميكًا جدًّا على مكتبٍ جانب رئيس الشرطة بصوتٍ عالٍ. كان سمكه أكبر بعشرة أضعاف المواد التي قدّمها رئيس الشرطة.
“ماذا عن هذا إذًا. وفقًا لهذا المنطق، تبدو هذه المقالات أكثر صحّةً من خاصتك.»
كانت نتائج حرب الرأي العام التي عملتُ عليها بجدٍّ خلال الأسابيع القليلة الماضية.
تُصنَع الأدّلة. إذا نُشرت الشائعات في الصحف وأصبحت وثائق، فهي بحدّ ذاتها دليل. يثق الناس غريزيًّا في القصص المطبوعة بالحبر. يعتقدون أن القصة المنشورة في الصحيفة حقيقية. هكذا تصبح القصة التي يؤمن بها الكثيرون حقيقيةً بشكلٍ طبيعيّ. ويزداد الأمر وضوحًا عندما يُشاهِدوها بأنفسهم.
“ألم يكن الشخص الذي أحبَّه الأرشيدوق ريتشارد هي زوجته الحالية؟”
“لقد رأينا ذلك سابقًا. لقد أعلنا حبّهما هنا.”
“ما مدى قربهما من بعضهما البعض ليُظهِرا ذلك …”
وكما توقّعتُ، تدفّقت أصواتٌ تتّفق مع كلامي من مقاعد المتفرّجين. كان الحضور الّذين سمعوا اعترافي سابقًا أكثر تأثّرًا بادّعائي. كانوا أكثر اهتمامًا بالفضيحة الحاليّة من الفضيحة التي مضت.
“آآه …”
تقدّمتُ خطوةً نحو رئيس الشرطة، الذي كان يتأوّه في صمت، وسألتُه.
“والآن، دعني أسأل مجدّدًا. هل هناك أيّ دليلٍ على أن المُتَّهم قتل الضحية؟”
عند كلماتي، ظهرت نظرةٌ غريبةٌ على وجه لورانس. كانت فيفيان بجانبه تزمّ شفتيها بإحكامٍ وتحدّق بي فقط. في هذا الوضع غير المتوقّع، تنهّد القاضي بعمقٍ ممسكًا صدغيه.
أخيرًا، أشار رئيس الشّرطة الّذي احمرّ وجهه كثيرًا نحوي بغضب.
“مهلاً! لنفترض أنكِ محقّة. مَن تعتقدين أن يكون الجاني إذن؟ إذا كنتِ واثقةً إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تخبريني الآن!”
ابتسمتُ بثقة.
“حسنًا … أنا أيضًا لا أعرف.”
“ماذا؟ ومع ذلك تؤكّدين على أن الأرشيدوق ليس الجاني؟”
“هل يجب عليّ كشف مَن هو المجرم؟ أنا مجرّد محاميةٍ دفاع.”
“……!”
“من واجب إدارة الشرطة كشف وتحديد هويّة الجاني.”
“أيّ هراءٍ هذا؟ إذا أطلقنا سراح المشتبه به هكذا، فأين ستذهب العدالة؟ ألا يجب على أيّ شخصٍ يقف في المحكمة أن يحترم القانون ويقف إلى جانب العدالة؟”
أملتُ رأسي ببطءٍ عند صراخ رئيس الشرطة بتوبيخ. ثم هززتُ كتفيّ.
“يبدو أن هناك سوء فهم، أنا لستُ إلى جانب العدالة. ولم أكن كذلك قطّ.”
“مـ ماذا…!”
“أنا إلى جانب الأرشيدوق ريتشارد فقط. الذي أحبّه كثيرًا.”
لم تكن كذبةً تمامًا. المحامي دائمًا إلى جانب موكّله. ويحبّ المال الذي سيدفعه المُوكِّل أيضًا. بينما كنتُ أتحدّث، التقت عيناي بعيني الأرشيدوق ريتشارد. كان تعبيره معقّدًا بعض الشيء. أدرتُ نظري مرّةً أخرى نحو القاضي.
“المادّة 17 من دستور الإمبراطوريّة، يجب أن يُبنى الحُكم بالإدانة على الدليل.”
لذا لا يمكن لأيّ قاضٍ في هذا الوضع إدانة الأرشيدوق. لأن جميع الأدلّة التي تُثبِت إدانته قد أُبطِلت. نظر القاضي بصعوبةٍ نحو وليّ العهد. كان وليّ العهد يهمس شيئًا في أذن خادمه بوجهٍ متصلّب.
أخيرًا، فتح القاضي فمه بتعبيرٍ جازم.
“سأُعلن الحُكم الآن.”
تجمّعت كلّ الأنظار في قاعة المحكمة على فم القاضي. سرعان ما قرأ القاضي وثيقة الحُكم بصوتٍ كئيب.
“يُعتَبر اتّهام المُدّعَى عليه، بنديكت ريتشارد، بقتل الضحية، ديفون هايدين، دون وجود دليلٍ على وقائع الجريمة، وبالتالي قرّرت المحكمة إطلاق سراح المُدّعى عليه.»
أخيرًا!
من شدّة فرحي، أمسكتُ يد الأرشيدوق على الفور. ملأتني فكرة الحصول على راتبٍ ضخمٍ والتمتّع بحياةٍ مُترفةٍ في هذا العالم بعد تبرئته فرحًا.
“لكن.”
‘ماذا أيضًا …؟’
توقّفتُ عن الحركة فجأةً عند الكلمة المشؤومة التي تلت ذلك.
“هذه القضيّة جريمتها خطيرةٌ جدًّا، والحاجة إلى كشف الحقيقة مُلِحّةٌ للغاية …”
مسح القاضي، الذي تلقّى شيئًا من خادم وليّ العهد، عَرَقَه المتدفّق على جبهته مرارًا وتكرارًا. حدّقتُ بالقاضي بنظرةٍ فارغة.
“حتى يتمّ تحديد هويّة الجاني الحقيقي، سيتمّ تأجيل الحُكم بالبراءة، ولن تُعاد الممتلكات المصادرة بل سيتمّ الاحتفاظ بها كضمان.”
فتحتُ فمي مذهولةً من هذه الكلمات التي لم أستطع استيعابها، حتّى بعد سماعها مباشرة.
‘لا يوجد … ممتلكاتٌ ستُعاد؟’
في لحظة، اهتزّت السماء ودارت بي الأرض. وأُغمي عليّ.
***
في غرفة نومٍ هادئةٍ وخاليةٍ من أحد.
كان بنديكت يحدّق بهدوءٍ في وجه إيلينا النّائمة كالميّتة.
«جسدها ضعيفٌ للغاية، يبدو أنها أجهدت نفسها بشدّة وبعد أن زال التّوتّر فقدت وعيها. إنها نائمةٌ فقط الآن، لذا لا تقلق يا صاحب السعادة.»
كان هذا تشخيص الطبيب الذي فحص إيلينا، التي انهارت فجأةً في قاعة المحكمة.
وقعت نظر بنديكت على معصمهت النحيل البارز المكشوف من تحت الغطاء. كانت آثار كدماتٍ زرقاء لم تختفِ بعد مرئيّةً على بشرتها البيضاء الشّاحبة. عبس فجأة.
‘لم تكن في حالةٍ جيدة، لكنّها أجهدت نفسها أيضًا.’
كانت المحاكمة صعبةً حتى عليه، الذي تجوّل في ساحات القتال وعانى كلّ أنواع المصاعب. علاوةً على ذلك، بخلاف جانب الشرطة الذي كان مدعومًا من العائلة الإمبراطوريّة وعشرات الأشخاص ااذين يتمركزون معًا، كانت إيلينا وحدها، بدون أحدٍ يساعدها.
“ومع ذلك، لقد فازت في النهاية.”
تمتم بنديكت بصوتٍ منخفض. كانت في الأصل مُحاكمةً كان من المفترض أن يُحكَم عليه فيها بالإعدام. لكنه الآن جالسٌ في غرفة نوم قصره حرًّا بدون سلاسل حديديّةٍ أو حبال. على الرّغم من أن هناك شرطًا، فإن التخلي عن ممتلكاته يعني عمليًّا البراءة.
‘أن تفعل كلّ ذلك إلى هذا الحدّ من أجلي فقط …’
على الرّغم من أنه يجب أن يرسم خطًّا مع إيلينا، لكن إدراكه لمشاعرها دفعه إلى الشعور بالقلق. هذا الصباح، برّر لنفسه أنه يهتمّ بمظهره أكثر من المعتاد فقط من أجل المحاكمة. لكنّ النتيجة جعلت إيلينا تقع في غرامه مرّةً أخرى. لذا لم يكن خاليًا من الذّنب.
حتى عندما نظرت إيلينا إلى لورانس بعيونٍ مشتعلة، شعر بقلبه يغرق دون وعي. ظنّ أنها وقعت في حبّه من النظرة الأولى. لطالما كان لورانس، وليس هو، هو صاحب اليد العليا في الأوساط الاجتماعية. كانت الفجوة بين ولي العهد والابن غير الشرعيّ طبيعية.
«رأيتُ مدى روعته، لكنه ليس بشيءٍ يُذكَر.»
لحسن الحظّ، بدا أن إيلينا تعتقد أنه أكثر جاذبيةً من لورانس. على الرّغم من أنه كان مُستهانًا به في المجتمع الأرستقراطي بسبب كونه ابنًا غير شرعيًّا، إلّا أنه كان رجلاً جيدًا أيضًا. على الأقلّ من وجهة نظره، كان أكثر رجولةً من لورانس. كما أن كتلة عضلاته أكبر.
في النهاية، لم تستطع إيلينا إخفاء مشاعرها وأعلنت حبّها أمام الجميع.
«أنا إلى جانب الأرشيدوق ريتشارد فقط. الّذي أحبّه كثيرًا.»
فرك أصابعه ببطء. منذ لحظة ولادته، لم يكن هناك أحدٌ إلى جانبه في هذا العالم.
كان الآخرون يعتقدون أنه التحق بالجيش ليحظى بإعجاب الإمبراطور، لكنهم كانوا مخطئين. على الأقل، كان الجنود الذين يقاتلون معه في ساحة المعركة إلى جانبه. هذه الحقيقة هي التي جعلته يبقى في ساحات القتال الخطرة.
لكن إيلينا قالت إنها إلى جانبه. وأضافت كلمة ‘حبيبي’. في اللحظة التي أعلن فيها القاضي إطلاق سراحه، ظلّ شعور يدها الصغيرة وهي تضغط على يده يتردّد إلى ذهنه. مدّ يده لا شعوريًا إلى أصابع إيلينا النحيلة، ثم هزّ رأسه بقوّة.
“إنه مجرّد ضعف.”
قبض على يده بقوّة. لم يكن لديه رفاهيةٌ للعب بالعواطف مثل مشاعر الحبّ. كلّ يومٍ يعيشه كان حربًا وتهديدًا. أدار بنديكت رأسه نحو الوثائق على الطاولة كأنه يهرب. كان هناك العقد الذي أبرمه مع إيلينا.
‘يجب إنهاء هذه العلاقة الكاذبة في أسرع وقتٍ ممكن. من الصّواب أن ترتّب المرأة مشاعرها غير المتبادلة.’
وضع بنديكت أوراق الطلاق التي ملأها فوق عقدهما، كما لو كان يرميها جانبًا. ثم، كما لو كان يُقدِّم وعدًا، تمتم في نفسه.
“حالما تستيقظ، سأُعطيها نصف الممتلكات المتبقيّة وأُطلِّقُها—”
“لا!”
في تلك اللحظة، نهضت المرأة فجأةً من السرير.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"