يبدو أن سمع الإمبراطور حادٌّ للغاية. كنا نعتقد أننا نتهامس، لكن بما أنه سمع كل شيء، فلابد أن أذنيه تلتقطان أدق الأصوات.
صرير–فُتِحَ بابُ غرفة نوم الإمبراطور.
مرَّ وقتٌ طويل… هذا المكان…
كأن الأمس فقط حين أُلقي بي هنا دون أن أفهم شيئًا، بيد سيسيا التي سحبتني إلى الداخل.
حين فُتِح الباب، تدفّأت الممرات الباردة بنسمةٍ دافئةٍ تسلّلت من داخل الغرفة.
كانت غرفة نوم الإمبراطور مظلمة، غير أن شمعةً على الطاولة الصغيرة بجانب السرير كانت تنير المكان بضوءٍ خافت.
وبما أن الشمع قد ذاب كثيرًا، بدا أنها لم تُشعل حديثًا.
قالت وهي ترفع الصينية:
“جئتُ بالدواء، جلالتك تبدو مصاب بالحمى.”
رفعتُ الصينية لأُظهر أن نيّتي طيبة وأنني لا أنوي أذًى.
كان الإمبراطور متكئًا على لوح السرير، إلا أنه بدا خائر القوى بشكلٍ واضح. يبدو أن حالته ازدادت سوءًا عمّا كانت عليه قبل قليل.
قال بصوتٍ خافت وهو يشير إلى الإبريق على الطاولة:
“هلّا أعطيتِني الماء أيضًا؟”
فأسرعتُ إلى وضع الإبريق والكأس على الصينية، ثم سحبتُ كرسيًّا وجلستُ إلى جوار السرير.
بما أن هناك الكثير مما يجب إعداده، فقد تولّيتُ أمر تقديم الدواء بنفسي.
“ها هو، الأصفر خافضٌ للحرارة، والأبيض منوّم، آه… وهذا منشّطٌ للجسد. يبدو أنكم فقدت الكثير من الطاقة بسبب الزكام.”
سأل بصوتٍ أجشّ:
“هل أنتِ من صنعه؟”
“بالطبع.”
“يبدو أن ذاكرتك بدأت تعود بعض الشيء.”
‘أخطأ تمامًا.’
“ليس ذلك، لكن ذاكرتي جيدة، فاستعدتُ المهارة بسرعة.”
قلتُها وأنا أفتح غطاء القارورة بثقةٍ تامة.
وللحق، لم يكن ما قلتُه بعيدًا عن الحقيقة.
ابتسم وقال بنبرةٍ خفيفة:
“إذن فأنتِ تُجربين دواءك عليّ.”
لم أدرِي أهي مزحة أم اختبار.
“صُنعتْ وفق الوصفة الدقيقة، فلا خطر منها.”
“لكن يبدو أنكِ من تحتاجينها أكثر مني.”
“ماذا؟”
أشار إلى القوارير الصغيرة وهو يقول:
“أنتِ.”
‘آه… هل بدت الهالات السوداء تحت عينيّ واضحة إلى هذا الحد؟’
يبدو أنه لاحظها أيضًا.في الحقيقة، كنتُ قد صنعتُ هذه الأدوية من أجلي أصلًا.
“اهتمّ بصحتك أنت، جلالتك.”
من يقلق على من؟ هذا الرجل يغلي كالمرجل ثم يتحدّث عن القلق عليّ! أي أجواء عملٍ دافئة هذه؟
على أي حال، ناولتُه خافض الحرارة بيدي. نظر إلى الدواء وقال:
“شاكرٌ لك، لكن لا أظن أن له أثرًا يُذكر.”
“لا تحكم بهذه السرعة. يداي لم تزل ماهرتين أكثر مما تظن.”
لوّحتُ بيدي أمامه، فابتسم ابتسامةً باهتةً كأن الهواء تسرب منها.
“يبدو أن لا تقدم في المثبّط بعد.”
‘سرعة بديهته لا تطاق.’
يبدو أنه أدرك أنني جئتُ بهذه الأدوية بدافع الذنب لأنني لم أفلح بعد في صنع مثبّط الفيرومون.
قال بصوتٍ منخفض:
“ما ينفعني الآن هو كبح الفيرومون، فالأمر ليس مجرد حُمّى…”
توقّف كلامه فجأة، وأخذ يدحرج القارورة بين أصابعه ببطء.
ثم رفع بصره نحوي بدلًا من الدواء.
“إنه مثل غريزة الوحش.”
“…عفوًا؟”
شعرت أن في كلماته نبرةً موحية على نحوٍ غريب.
فجأةً خطر ببالي “داميون” من الرواية الأصلية — ازدراؤه لتحوّلات جسده التي يفور فيها الفيرومون ورفضه التام للتوجيه.
لكن تلك المرحلة كانت قد انتهت تمامًا بعد لقائه بـ”جوشوا”، لذا لم تُذكر إلا باقتضاب في بدايات القصة.
“ألم تري بوادر انفلاتي؟”
أكان يقصد اليوم الذي فتحتُ فيه عينيّ أول مرة في هذا العالم؟
“آه… هل، هل كانت نوبات الانفلات دائمًا بهذه الكثافة؟”
عندما قرأتُ القصة لم أتصوّر أنه يمرض بهذه المتكررة.
“عادةً لا تكون بهذه الوتيرة. حين تنهار القوة تمامًا ثم تُعاد بناؤها، يهدأ الجسد لفترة. لكن… يبدو أن مثبّطك سرّع بلوغ الحدّ الأقصى.”
“آه…”
‘بصراحة، لا أفهم شيئًا.’
كيف لي أن أدرك طبيعة قوة الإسبرات ما لم أختبرها بنفسي؟
“لكن إن لم تستخدم قوتك… فهل لا يحدث الانفلات أيضًا؟”
عند سؤالي، ارتسمت على وجه الإمبراطور ابتسامة غامضة.
“هل تعرفين ما هي قدرتي الخارقة؟”
همم، تذكّري… ما كانت قدرة داميون أصلًا؟
“أمم…”
آه، تبًّا. كل ما أتذكره هو مشاهد غرامه الحارّة مع جوشوا…
“آه!”
تذكّرت فجأة.’بركة الحاكم.’
إنها قدرة تمكّنه من حماية كيان أو منطقة يختارها، بحيث تُبطل أي قوة أو تهديد موجه نحوها.
بالطبع، من يملك قدرة مساوية لداميون قد يتمكن من مقاومته، غير أن قوته في الأصل كانت شبه أسطورية.
بمجرد أن يدخل أحد نطاقه، فليُعتبر في حكم الميت.
بل إن قدرته تطورت بعد أن صار إمبراطورًا، فتحوّلت من مجرد “بركة” إلى “بركة الحاكم” — قدرةٍ أعظم نطاقًا وأشدّ تأثيرًا، وهي ما جعلت هذه البلاد أرضًا لا يجرؤ أحد على غزوها.
‘صحيح… بهذه القدرة كان يقيد خصومه ويصدّهم… ويخلق تلك اللحظات الثمينة المليئة بالدراما.’
تلك كانت سمة روايات “الأبطال المفرطين في القوة والرومانسية” — إسراف قدراتهم الخارقة على أمورٍ عاطفية تافهة.
تمامًا كذلك.
كان داميون يستخدم قدرته ليمنع جوشوا من الرحيل.
يومها كنت أقرأ وأصرخ: “آه! يا للرومانسية!” لكن الآن، وأنا أمامه كإمبراطور، لم أستطع إلا أن أفكر: يا للإهدار المروّع للقدرة!
قال بهدوء:
“أستخدم قوتي بلا انقطاع لحماية الحدود.”
“آه!”
أن يستخدم قوته في نطاقٍ واسع كهذا باستمرار… فلا عجب أن يعاني الألم.
شعرتُ بشيءٍ من الشفقة عليه. لو كان مثل الدوق آرس، يملك قدرة هجومية بسيطة، لكان الأمر أهون.
لكن، مهما شعرتُ بالأسف، لا يمكنني فعل شيءٍ من أجله.
“حتى لو رغبتُ بالتوقف، لا أستطيع.”
يا للأسى… غير أن شفقتي سرعان ما تلاشت.
ولماذا؟
‘لا تقلق، يا صاحب العمل العزيز. قريبًا سيظهر مرشدك اللطيف.’
على أية حال، لن يطول الأمر حتى يظهر البطل “جوشوا”.
سيقعان في حبٍّ ناري، يتغلبان على المحن، ثم يعيشا مستقبلًا ورديًا.
قلت بابتسامةٍ صادقة:
“كل شيءٍ سيكون بخير.”
عندها نظر إليّ الإمبراطور مطولًا.هل كنتُ بلا ذوق وأنا أبتسم أثناء حديثه المؤلم؟ همم.
“أعني، أنك ستلتقي بمرشدٍ رائع.”
على الأقل هذا التلميح الصغير لا يضر بمستقبل البطل، أليس كذلك؟
ابتسم الإمبراطور وهو يرفع الدواء إلى فمه.
“يبدو أن هذا ما سيفيدني الليلة.”
تناول فقط المنوّم، تاركًا بقية الأدوية دون لمس.
وبعد أن ابتلع الحبوب، شطف فمه بالماء.
حتى الإمبراطور يكره طعم الدواء مثلنا تمامًا.
“أنا أُعلّق آمالي على دوائك أكثر من المرشد.”
“آه، لا داعي لأن تقولوا ذلك بهذا الشكل…”
كنا نمرّ بلحظةٍ لطيفة، لكنه فجأة ألقى بكلمةٍ تُشعرني بالضغط!
وضعت ما تبقّى من الأدوية — خافض الحرارة والمنشّط — في صفٍ مرتب على الطاولة بجانب السرير.
“إذن، الآن استلقي براحة، جلالتك.”
وبما أنني هنا، قررت أن أرتّب غطاؤه أيضًا.
استجاب الإمبراطور بهدوء، لكنه ما لبث أن عبس وهو يغيّر وضعيته.
“ما الأمر؟ هل تشعر بألمٍ ما؟”
“…آه، رأسي يؤلمني قليلًا.”
أتراه من دوائي؟ يا إلهي، أتمنى ألا يكون السبب أنا!
“تحرك ببطء إذًا.”
وضعت يدي خلف عنقه أسانده برفق، فشعرت بحرارة جلده تلسع راحتي.
‘يا للنعومة… شعره ناعمٌ بشكلٍ مذهل.’
كانت خصلات شعره تداعب كفيّ، تُثير فيه إحساسًا غريبًا.
وضعت رأس داميون على الوسادة بعناية، وسوّيت الوسادة حتى لا يتحرك رأسه كثيرًا.
“سأضع غطاءً خفيفًا فقط.”
فكرتُ أن العرق إذا برد على جسده فسيؤذيه أكثر، لذا غطّيته ببطانيةٍ رقيقةٍ واحدة فقط.
بينما كنت أفرد الغطاء بعناية دون أن أترك تجعيدة واحدة، كان داميون مستلقيًا بهدوء، يتابع حركاتي بعيونٍ ساكنة.
يا للعجب… يبدو معتادًا على أن يخدمه الآخرون. لا غرابة، فذلك يليق بمن في مقامه.
“كيف تشعر؟ هل أصبحت أكثر راحة الآن؟”
أومأ داميون برأسه بهدوء.
“هل تظن أنك ستستطيع النوم قليلًا؟”
رغم أني أنكرت كونه مجرّد “عينة تجربة”، لم أستطع كبح فضولي.
ابتسم داميون وأغلق عينيه ببطء.
أوه، هذه علامة جيدة. يبدو أنه بدأ يشعر بالنعاس.
رفعت يدي عن الغطاء الحريري، وأخذت أراقبه بصمت.
كان مظهره وهو مستلقٍ هكذا، متألمًا وضعيفًا، يثير شيئًا دافئًا في صدري.
بدا كشخصٍ مختلف تمامًا عن ذلك الإمبراطور المخيف الذي رأيته قبل أيام.
أتمنى حقًا أن يلتقي بالبطل قريبًا… ليجد سعادته سريعًا.
يبدو أن قلبي قد بدأ بالفعل يتعلّق به قليلًا.
جلستُ مجددًا على الكرسي الذي كنت عليه قبل قليل.
أن أترك الغرفة فورًا بعد أن ناولته الدواء بدا قاسيًا أكثر مما ظننت، خاصة وأن غرفة الإمبراطور الشاسعة هذه بدت موحشة على نحوٍ غريب.
لو أنه استخدم غرفةً أصغر… الغرفة الكبيرة تجعل المريض يبدو وحيدًا أكثر.
آه، يا لي من شخصٍ طيّب القلب.
حبست أنفاسي وجلست بهدوء أراقب داميون، أنتظر أن ينام.
‘جبينه المستدير جميل فعلًا… وأنفه شامخ…’
حتى رموشه أطول من رموشي! رغم أن عينيه مغلقتان، إلا أن زواياهما تبدو حادّة.
حقًا، أول مرة في حياتي ألاحظ أن أحدهم يملك “منطقة بين الأنف والشفة” جميلة… لحظة، متى أصبحت أتمعّن في هذه التفاصيل الغريبة؟
وشفاهه… لمَ تبدو بهذا الشكل الجذّاب؟
كنت أتأمل وجهه كأنني أستعرض عملًا فنيًا، مبهورةً بمهارة الخالق الذي نحت هذه الملامح.
“ستُحدثين ثقبًا في وجهي إن واصلتِ التحديق هكذا.”
“يا إلهي!”
التمثال تكلّم!
“ه، هممم… كنت فقط أتفقد إن كان هناك موضع يؤلمك لا أكثر.”
“لم أكن أعلم أن موضع إصابتي هو وجهي.”
“آه، لا، ليس هكذا. فقط… لأن جلالتك وسيم جدًا، فوجدت نفسي أحدّق دون قصد. وجهٌ كهذا لا يمكن أن يوجد له مثيل في هذا العالم، أليس كذلك؟”
كنت أمزح لأخفف الجوّ، لكن عينيه اللتين فُتحتا ن
صف فتحةٍ لم تبدُ مسلّية.
ثم قال بصوتٍ خافتٍ يشوبه الحنين:
“كان هناك مثيل له.”
“عفوًا؟”
ماذا؟ ماذا قصد؟
ساد صمتٌ قصير، ثم همس بعينين أثقلتهما الذكرى:
“أخي.”
آه، لا… ليس مجددًا! لماذا تحوّل كل شيءٍ فجأة إلى دراما عائلية؟!
التعليقات لهذا الفصل " 16"