وسماع مثل هذه الكلمات مباشرةً يبعث على الخجل، لكنه في الوقت نفسه لا يخلو من الفرح.
“وأنا أيضًا أشكركِ، نينا.”
أجاب أدريان بلطف. ابتسمت نينا مجددًا وشدّت يده التي تمسك بها.
“لنمضِ أعمق إلى الداخل، ما رأيك؟”
“حسنًا، وهناك شيء أريد أن أُريكِ إيّاه أيضًا.”
لم يكن اقتراح المجيء إلى الغابة الأرجوانية عبثًا.
“ما هو؟”
“لنتوغّل أكثر أولًا. سنواصل السير، صحيح؟”
“نعم، ركوبنا طال كثيرًا.”
“إذًا، هل نُطلق سراحهما ونتابع؟”
وافقت نينا على اقتراحه. نزعا الحقائب والسروج وعلّقاها على شجرةٍ قريبة. وما إن تحرّرت وحيدات القرن حتى بدأت تتدحرج على الأرض.
دلّكت ظهورها طويلًا، ثم اندفعت داخل الغابة كوعولٍ جبلية.
إنها زيارة إلى موطنها بعد طول غياب، فلا بدّ أنها ستتواصل مع قطعانٍ أخرى.
حمل أدريان حقيبةً خفيفة فيها الضروري فقط. حاولت نينا حملها، لكنه رفض.
“قوّتكِ جيدة، لكن قدرتكِ على التحمّل مختلفة، أليس كذلك؟”
ولأن كلامه صحيح، لم تجد نينا سوى أن تقول مبتسمة: “شكرًا لأنك تحملها عني.” فأسعده ذلك.
تقدّما عميقًا داخل الغابة. وحين وصلا إلى الموقع الذي كان فيه الحاجز قديمًا، ابتلعت نينا أنفاسها.
كان هذا هو مصدر الطاقة التي ملأت الغابة بأسرها.
لم يبقَ أثر للحاجز ولا للفجوة الأرجوانية اللزجة؛ نبت العشب في المكان، بل إن الثلج لم يتراكم هناك أصلًا.
“واو، ما هذا؟ إنه مذهل!”
حتى الهواء بدا وكأنه مشبع بالضوء.
بدأ أدريان يحفر الأرض بيده. رغم كونه شتاءً، لم تكن التربة قاسية، فحُفرت بسهولة. في الداخل وُجد صندوقٌ مربّع، وما إن فُتح حتى حبست نينا أنفاسها.
“أثرٌ روحيّ.”
“نعم.”
كان يبدو كأنه يتّقد كياقوتٍ ناري، أو كأن في داخله لهيبًا مثل بذور البلّور، ثم لا يلبث أن يبدو كألماسةٍ عادية أو معدنٍ مصقول.
“ثلاثة فقط.”
“واحد ناقص.”
“اختفى في الانفجار.”
“صحيح، نعم.”
أغلق أدريان غطاء الصندوق وتحدّث.
“ألن نحتاج إليها إن أردنا إعادة الختم؟”
“الختم؟ لنودولو؟”
“نعم.”
“وليس إبادته أو قتله؟ إذا كان قد اتّخذ جسدًا، ألن يموت حينها؟”
“نستطيع قتل رئيس الكهنة بدلًا عنه، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن نودولو سيموت. ولو كان قتله ممكنًا من الأساس، لما اختار سادة الأرواح الختم وسيلةً منذ البداية.”
“صحيح… لكن…”
تذكّرت نينا اللحظة التي أبادت فيها شظية الروح لأول مرة. كانت الذكريات التي مرّت آنذاك أقرب إلى ‘ذكريات الشظية الروحية’ منها إلى ‘ذكرياتها هي’.
لذلك، فالأرجح أنّها كانت ذكريات نودولو.
“هل كان تمكّني من إعدام شظية الروح مجرّد أمرٍ ممكن لأنني أملك القوّة؟”
“ربما. فالقوّة والوجود في الحقيقة لا ينفصلان، لذا أظن أنّ بعض أفكار نودولو كانت متداخلة أيضًا.”
كما أنّه يستحيل أن يُقال لنينا: ‘لا تأتي بنفسك، امنحينا القوّة فقط’، فالأمر نفسه ينطبق على الأرواح.
راندل يكتفي بتسميتها ‘قوّة روحية’، وهي بدورها تقول ‘قوّة الأرواح’ على نحوٍ مريح، لكن ذلك لا يعني وجود الروح في موضعٍ منفصل وجلب القوّة وحدها.
عند استخدام قوّة الأرواح، يكون وجودها حاضرًا معها. كانت نينا تشعر بالشمس والشتاء، وبالرياح الشمالية والصقيع.
ولا بدّ أن أدريان كذلك.
وبالتالي، فالأمر ذاته ينطبق على سيّد الأرواح الفاسد.
لا يمكن استخدام القوّة وحدها. لعلّ خطأ رئيس الكهنة كان محاولته استغلال القوّة دون الوجود.
تفاصيل ما جرى غير معروفة، لكن—
‘كيف يكون الإحساس حين يستولي روحٌ على الجسد؟’
أنزلت نينا بصرها إلى يديها. داخل القفّازين السميكين كان جسدها، هذا الجسد.
جسدٌ صنعته الأرواح.
‘حين أفكّر في الأمر، يبدو غريبًا. كيف تستطيع الأرواح أن تمنح جسدًا؟’
أليس ذلك من مجال الخلق؟
‘وماذا لو كان مؤقّتًا؟ جسدٌ مُعار إلى أن يُحسَم أمر نودولو فقط…’
“نينا؟”
حين ناداها أدريان، وقد استغرقت في أفكارها، التفتت فجأة.
“لا، لا شيء. همم، إذا كان علينا استخدام ما تبقّى من الآثار الروحية لإعادة الختم، ألن تكون الثلاثة غير كافية؟ ثم من سيقوم بالختم، وكيف؟”
“سيكون الأفضل لو أمكن استدراجه إلى مكانٍ ما، ثم الانقضاض عليه.”
“هذا هو الخيار الأمثل.”
أجاب أدريان وهو يُغلق الصندوق.
“المشكلة أنّ الأمر لن يكون سهلًا.”
من غير المعقول أن يخرج رئيس الكهنة وحده إلى مكانٍ ناءٍ بلا حراسة. وحتى لو بدا وحيدًا، فالأرجح أنّه لن يكون كذلك.
“على أيّ حال، لا بدّ من خلق وقتٍ يكون فيه معزولًا وحده.”
الإمبراطور ورئيس الكهنة.
يجب التعامل مع الاثنين، وعزل كلٍّ منهما على حدة. قتل الإمبراطور في المكان ذاته قد يبدو سهلًا، لكن حتى في زمن الحرب، نادرًا ما يُقطع رأس ملك في الميدان فورًا.
إلا إذا سقط بسهمٍ طائش وسط الفوضى.
“ولا يعجبني القتال داخل العاصمة.”
المعارك داخل المدن تخلّف دائمًا عددًا كبيرًا من الضحايا المدنيين. عند قول نينا ذلك، أومأ أدريان موافقًا.
“إن أمكن، ينبغي تجنّب القتال داخل العاصمة. سنجعل ساحة البطولة تُقام خارجها.”
“ماذا؟ حقًا؟ كيف؟”
ابتسم أدريان ابتسامة خفيفة.
“لأن <شركة رومي> ستتولّى رعاية البطولة. ستدفع كامل تكلفة بناء الساحة المؤقّتة، فيما تضع الأسرة الإمبراطورية راياتها.”
“أفهم. لا بدّ من تحمّل بعض الخسائر.”
تكلفة بناء الساحة ستكون باهظة، لكن إخراج الناس من العاصمة أمرٌ مهم.
“خسائر؟ أتظنّين أنّ لوروكومو سيخسر؟”
عند كلامه، أطلقت نينا صوتًا خافتًا يدلّ على الاقتناع.
“صحيح… لا يمكن أن يفعل لوروكومو ما يسبّب له خسارة…”
“يبدو أنّهم سيقيمون منصّات ويأخذون رسوم الأماكن. وسيحجزون أفضل المواقع لمنتجات <شركة رومي> للترويج المكثّف.”
ومع توافد الناس من كل أنحاء البلاد، بدا واضحًا أنّهم يخطّطون لجني أرباحٍ وافرة.
“تتذكّرين الشاعر الجوّال الذي تحدّثتِ عنه سابقًا؟ يبدو أنّ الفكرة نجحت، وهذه المرّة يخطّطون لإقامة عروض كاملة.”
“واو… آه، صحيح. عادةً ما تُدخَل في مثل تلك العروض—”
“عناصر سياسية. هذا يحدث دائمًا.”
قال أدريان مبتسمًا، فأومأت نينا قائلة: “فهمت.”
ما تعرفه نينا لا يمكن أن يخفى على أدريان. جمع الصندوق ووضعه في الحقيبة.
“لنعد.”
عندها ابتسمت نينا.
“أحبّ هذه الكلمة.”
“‘لنعد’؟”
“نعم. معناها أننا نعود إلى المكان نفسه، أليس كذلك؟ يعجبني أن يكون هناك مكان نعود إليه معًا. هكذا.”
شدّت على يده بقوّة.
“أن نمسك الأيدي، وأن يكون هناك مكان نعود إليه معًا. أليس هذا جميلًا؟”
ابتسم أدريان.
“بلى.”
“أليس كذلك؟”
راحت نينا تمشي بخطواتٍ خفيفة، فواكبها أدريان إلى جوارها.
كان الوقت ضيّقًا بعض الشيء، لكنهما واصلا السير ليلًا حتى بلغا قلعة الدرع الأسود من دون مبيتٍ في الحصن.
وصلا بعد منتصف الليل بوقتٍ طويل.
قال كبير الخدم إن الماء الدافئ قد جُهّز ليدفئا جسديهما، ثم سأل:
“هل أقدّم العشاء؟”
نظر أدريان إلى نينا. وبعد ركضٍ طويل على ظهور الخيل، كان وجهها يوحي بأنها قادرة على أكل خنزيرين كاملين.
“نعم.”
وحين أجاب، أشار كبير الخدم إلى أحد الخدم.
في قلعة الدرع الأسود التي أُعيد تجهيزها، وُضع حوض استحمامٍ خشبي.
ما إن غاصت في الماء الساخن حتى سرى الدفء سريعًا في جسدها الذي كان قد برد. وبعد الانتهاء، انتظرتها خادمة تقترح دهن جسدها بالكريم.
“لا، سأضع الكريم بنفس.…”
وهي تفكّر بأنها لن تنجح أبدًا في أن تكون سيّدة نبيلة حقيقية ما دامت لا تطيق تسليم بشرتها العارية لغيرها، راحت نينا تدهن الكريم بنفسها.
بعدها لفّت الخادمة حولها ثيابًا سميكة دُفّئت على الموقد.
“سأجفّف شعركِ أيضًا.”
أشارت الخادمة إلى مكانٍ قرب الموقد، لكن نينا هزّت رأسها.
“لا، سأجفّف شعري بنفسي.”
“حسنًا.”
وضعت الخادمة على صينيّة فضيّة زيتًا عطريًا، ومشطًا، وعدّة مناشف مسطّحة، ثم انسحبت.
رفعت نينا المشط.
‘ألن يكون المشط على هيئة فرشاة أسهل استعمالًا وأفضل بيعًا؟’
كان المشط نصف قمري من الفضّة، مرصّعًا بالياقوت الأزرق والزمرد، في غاية الجمال.
كأنّ القمر نفسه قد يستخدم مشطًا كهذا.
(القمر هو انت يا عزيزي المتابع🌹)
‘لا بأس أن أمشّط شعري المبلّل بهذا، لكن أغلب النساء لن يفعلن ذلك.’
قرّرت أن تتحدّث مع ميمينا في الأمر لاحقًا، وفتحت زجاجة الزيت العطري. انساب منها عطرٌ حلو.
ألقت نينا نظرةً خاطفة نحو الباب. اعتادت أن يتولّى أدريان تجفيف شعرها، ولما همّت أن تفعل ذلك بنفسها، شعرت بثقلٍ خفيّ.
‘هل أذهب وأطلب منه؟ أم أنّه قد ينزعج؟’
وبينما كانت تفكّر بتلك الأنانية الصغيرة — أن ترى انشغالها سببًا لانشغال غيرها — نهضت فجأة.
‘سأسأله على أيّ حال.’
جمعت المناشف والأدوات، وتوجّهت إلى الغرفة المجاورة.
التعليقات لهذا الفصل "233"