دخل جان إلى قاعة الطعام متأخرًا، وهو يجرّ خطواته بكسل، فارتطم بجوّ غريب يسود القاعة.
لوّحت له نينا قائلة.
“أهلاً، جان.”
وبجوارها، كعادته، جلس الدوق.
“أوشكت أن أموت جوعًا.”
جلس جان بمحاذاة نينا. بدا أنّ مائدةً كاملة قد جهزت لتوّها، إذ كانت تتناول تارت الفاكهة بهدوء.
رفع أدريان يده فأسرع الخادم بالانسحاب.
كان طاقم المطبخ سيشتمهم على الأغلب: ما لزوم أن يُحضَّر الطعام مرتين بدل أن يأكلوا دفعة واحدة؟
لكن لا مفرّ.
لاحظ جان أنّ نينا تكتم ضحكًا خفيفًا، وما كان منه إلا أن ألقى نظرة تحت الطاولة ليرى ما يحدث؛ كانت تركل ساق الدوق بخفة، في لعبة سرية بينهما.
همم.
حين تصبح تلك الحماقات الصغيرة ممتعة، لا يكون أمامك سوى استنتاج واحد.
وصل الحساء أولًا، ربما لأن النار ما زالت مشتعلة في المطبخ، أو لأن الطبق كان مجهزًا مسبقًا.
أمسك جان الملعقة وسأل بلا اكتراث.
“إذًا… أنتما الآن معًا؟”
ارتجف أدريان كطير أصابته سهام. أما نينا فأسندت ذقنها إلى كفها ثم ابتسمت.
“نعم. وهذا بفضلك، جان.”
لم تنسَ أن تُسند الفضل لصاحبه. ضحك جان وتحدث.
“حقًا… أخيرًا. كنت أتساءل متى سيحدث هذا. كدتُ أتحوّل إلى رماد وأنا أنتظر. يا إلهي.”
رفع رأسه لينظر إلى سيده، فرأى على وجهه تعبيرًا لم يره يومًا؛ مزيجًا غريبًا بين الخجل والحرج والدهشة.
ضحك جان من عمق قلبه.
في مثل هذه اللحظات، يشعر فجأة بدور الأخ الأكبر.
“تهانيّ، سيادتك.”
قالها بنبرة رسمية، لا يُعرف أهي سخرية أم تهنئة صادقة؛ لكن طرفَي فمه المرتفعَين فضحا نيّته.
لم يستطع أدريان الرد إلا بزفرة طويلة.
“شكرًا لك، جان.”
ثم التهم جان الحساء كما لو أنّه يشرب ماءً. ومع ذلك، لم يحاول إطالة المزاح كي لا يخسر الجولة.
تحوّل مجرى الحديث.
“سمعتِ بما حدث معنا؟”
“لا، سأبدأ بسرد ما جرى لنا أولًا.”
التفت جان إلى نينا بملامح تقول: هاتِ ما لديك.
فروت بإيجاز ما وقع بينها وبين فيونا، وما دار بينها وبين المعبد.
وعلى الرغم من قولها بإيجاز، كان الطبق الرئيسي قد وصل قبل أن انتهت.
تنهد جان حين بلغ حديثها إلى موجة الضوء الأخيرة.
“هل أنتِ بخير؟”
“نعم. استُنزف جزء من قوتي، لكن ليس كثيرًا.”
أم يُسمّى صدى؟
لم تعرف نينا كيف تفسّر الأمر، وكذلك فيونا على الأرجح.
لكن ما جرى في العاصمة كان مشهدًا لا يُنسى، هذا ما استطاعت نينا قوله.
تذوّق جان شريحة اللحم، وكانت المرة الأولى منذ زمن طويل التي يتناول فيها وجبة حقيقية.
اللحم، المشويّ بإتقان، كان يذوب في الفم.
راقبت نينا تعبير السعادة على وجهه، ثم التفتت إلى أدريان.
“والآن، حان دورك يا سيدي الشاب … تَحدّث.”
فكر أدريان قليلًا في أين يبدأ، ثم دخل مباشرة في صلب الأمر.
“قابلتُ حارس الخراب.”
“حارس الخراب؟ ثاني أعلى رتبة في تلك الطائفة؟ ذاك الذي قالت ألكا إن علينا الحذر منه؟”
“نعم.”
نظر أدريان إلى نينا.
الرجل ذو الرداء الأبيض الذي رآه في الظلام اتّسع بصرُه حين لمح أدريان.
“كنتُ أتوقع وصول السيدة نينا.”
هذا ما قاله.
تغيّر وجه نينا للحظة.
“كان… ينتظرني؟”
“قلتُ لكِ هذا منذ البداية! من حسن الحظ أننا نحن من ذهبنا.”
اغتنم جان الفجوة ليعلّق، ثم عاد إلى صحنه.
أعاد أدريان ترتيب أفكاره، ثم واصل روايته.
***
أدريان وجان بلغا قمّةً وعرة من السلسلة الجبلية.
وحيث إنّ المكان نفسه كان مسرحاً لظهور الشظيّة في المرة السابقة مع نينا، فقد راح الاثنان يتحسّسان محيطهما بأرواح الطبيعة، بحثاً عن كهفٍ يقود إلى باطن الجبل.
الجرف يكاد يكون عمودياً، لا يُصعَد إلا بتسلقٍ محفوف بالهلاك، وفوق ذلك كلّه مغطّى بطبقة ثلجٍ ناصعة تحجب موطئ القدم.
ما من مكان ثابت يُستند عليه.
“في… في مكان كهذا… ولسببٍ ما… الشظيّة هنا… تباً—.”
في بردٍ يقضم العظام حتى يُصطكّ معه الفكّ، أطلق جان غضبه.
لولا عقده مع الروح لما صمد عشر دقائق.
لم يعثرا على شيء طوال ساعات النهار.
لكن حين يحلّ الليل، تكون الأرض كلّها لأدريان؛ فحيثما تصل الظلمة، تصل سلطته.
كان كلاهما يظن أنّ العثور على الشظيّة سيكون أسهل بعد الغروب… لكن ما رأياه عند غروب الشمس كان شيئاً آخر تماماً.
“هاه؟”
أشار جان بإصبعه. غير بعيدٍ عنهما، وميض نارٍ يرتجف في العتمة.
“هل نتجنّبه؟”
سأل جان. حدّق أدريان بنظرة حادّة.
“في مكانٍ كهذا…من الذي يوقِد ناراً ويتهيّأ لسهرة ليل؟”
تبادلا النظر.
قال جان وهو يخرج رمّاحه ذات النصل الحاد.
“لنقترب.”
لولا النعال المثبّتة بمخالب جليدية، لكانا تزحلقا وسقطا منذ الخطوات الأولى.
عند اقترابهما من النار، لاح لهما رجل جالس أمامها.
رداؤه الأبيض الطويل بدا شبيهاً بأثواب المعبد، وإن اختلف في تفاصيل دقيقة.
وشَعره أيضاً أبيض بالكامل. ليس هذا لباس من يصعد إلى هكذا مكان.
وما إن أبصرهما حتى نهض بهدوء.
مواجهة غريبة تفصلها ألسنة النار.
كان هو أول من بادر. رفع يديه من داخل الكمّين في إيماءة مكشوفة.
“أنا الحارس الثاني للخراب. ليريميا.”
بشرةٌ بيضاء، عينان بلون الرماد، اسمٌ لا يخطئه أحد.
من قوم بليكا.
أخرج يده ببطء من ردائه وأظهر شيئاً صغيراً في راحته.
“جئتم تبحثون عن هذا، أليس كذلك؟”
كانت خرزةً سوداء صغيرة، يتلوّى حولها شعورٌ مزعج.
ارتجف جان دون إرادة منه.
“هذه خُلاصة الشظيّة المتناثرة في هذه المنطقة. كنت أعلم أنكما ستأتيان.”
قال أدريان مبتسماً ابتسامة هادئة.
“لم أتوقّع أن تنتظرنا عمداً، أيها الحارس.”
ابتسم ليريميا ابتسامة واسعة تكشف أسنانه.
“وما الذي يفاجئكم؟ ألم تَعلموا؟ لولا ذلك، لما أتيت أنت نفسك.”
كاد جان أن يلتفت نحو أدريان مستنكراً، لكنه كبَت الحركة بصعوبة.
تظاهر بثباتٍ بارد، كأنه هو أيضاً على علمٍ بما يحدث.
“للأسف. تمنّيت لو ألتقي بالسيدة نينا. كان لابدّ أن أراها بنفسي.”
رفع الخرزة السوداء على كفّه.
“أردت الحديث مع الروح العظمى.”
ابتسم وهو ينظر بينهما.
“نينا منشغلة.”
هزّ ليريميا رأسه على رد ادريان.
“طبيعي. وجودٌ مثل وجودها. لا بدّ أن يكون مثقلاً بالمسؤوليات.”
تقدّم أدريان بخطٍّ مباشر.
“ولماذا تبحث عنها؟”
نظر ليريميا إليه بدهشة خفيفة.
“ألستَ تعلم؟ السيّدة نينا —”
قطع كلامه فجأة. أطبق شفتيه.
“في الحقيقة… لا سبب يجعلني أخبركما. بل أنا من يريد أن يسأل.”
ارتسمت على وجهه ملامح التسلية.
“هل تبدو لكما نينا بشرية؟”
قال جان بحدّة.
“وإن لم تكن… فماذا إذن؟”
نبرة أشبه بشجار سوق، لكن ليريميا ظلّ يبتسم كأن شيئاً لم يحدث.
ثم حوّل نظره إلى أدريان.
“وأنت؟ ما رأيك؟”
قال أدريان مبتسما بهدوء.
“نينا هي نينا. لا شبيه لها في هذا العالم، ولن يكون.”
تكسّر شيء في وجه ليريميا، ثم أطلق زفرة طويلة.
“فهمت. إذن لا معنى لإجابتي. فلتنتهِ هذه المحادثة العبثية.”
سأله أدريان بصوت منخفض.
“لماذا تريدون فناء العالم؟”
ابتسم ليريميا ابتسامة رقيقة.
“لأنه الطريق الأمثل للجميع. ألمُ الموت لحظةٌ عابرة.”
رفع جان رمّاحه.
“ومن يوافق أن يموت من أجلك؟”
دارت حول نصل الرمح قطيرات الماء ترسم قوساً رشيقاً في الهواء.
قال ليريميا بنبرة وداع.
“من يقاوم يطيل عذابه لا أكثر. فلتعبروا بسلامٍ إلى ما وراء بحر الزجاج.”
ثم… ابتلع الخرزة السوداء.
“ها؟”
تفجّر الصوت من جان بلا وعي. ضغط ليريميا على صدره وهو يبتسم مرة أخرى.
وفي لحظة، انفجر محيطٌ أسود من حوله. رفع جان جدار ماءٍ لحماية نفسيهما، لكنه لم يكن محكماً.
العتمة انقضّت عليه مثل فوهة هاوية.
يموت.
لمع في ذهنه خاطرٌ واحد.
‘تلك الفتاة ستبكي.’
وفي اللحظة نفسها… قبض أحدهم على مؤخرة عنقه بقوة وجرّه خارج الدوّامة.
“ك—!”
انفلت صوتٌ غريب منه، ثم وجد نفسه يفلت من الظلام.
“تماسك.”
حدّق جان في يد أدريان التي ما زالت تمسك بعنقه.
“اعتذر.”
كانا على تلّة جليدية بعيدة نسبياً عن مركز الانفجار.
الليل كان نعمة وقتها.
أدريان جكع أفكاره.
أربعة أجنحة ضخمة تشقّ السواد. وحين انكمش المحيط الأسود، ظهر التنين.
حراشف زرقاء صارمة، مخالب بطول ساعد رجل وسماكةٍ تفوق الفخذ.
انسلخ جزء من الجبل الجليدي تحت وطأة قدميه، كأنما تخدشه مخالب عملاق يعبث بكتلة من الثلج.
فتح التنين فمه.
كان الصراخ أشبه بعاصفة صدعت السماء. وانطلقت منه ومضة برق زرقاء هادرة.
ارتفع من الأرض عمود ظلام ابتلع الصاعقة.
“تفو.”
انقبض وجه أدريان. القوة تتسرب من جسده بسرعة. لكن البرق… يحتاج إلى شيء آخر.
“جان. احذر حين تستدعي الروح. تجنّب ملامسة الماء لجسدك أثناء البرق.”
“حاضر.”
لا يعلم لماذا، لكن لا مجال للاعتراض.
فتح التنين أجنحته الأربع وارتفع إلى السماء.
مشهدٌ مهيب… حتى إن جان، وسط هذا الهول، وجد نفسه مأخوذاً بجلاله.
جسدٌ بهذه الضخامة يعلو في الهواء كأنما سُفينة عملاقة شُدّت إلى الريح.
التعليقات لهذا الفصل "182"