وإذا كان جان قد انهار من شدة التعب ونام، فأدريان بدوره لا بدّ أن يكون بالمقدار نفسه من الإرهاق.
أن تمسك به الآن وتُبقيه مستيقظًا، بينما من حقّه أن يترك رأسه على كتفها ويغفو، ليس أمرًا صائبًا.
مرّ صوت جان في ذهنها.
“صراحتكِ هي ما يميزك.”
أما أدريان فكاد وعيه ينسحب منه قبل أن يعود ببطء. ظنّ أنه غفا لثوانٍ. الإرهاق كان يعبث بعقله، يتلاعب بحدود يقظته. لو أنه أغمض عينيه فقط، لانجرف إلى النوم مباشرة.
“نينا. كيف أرضيكِ؟ همم؟”
كان يتكلم ببطء كي لا يغفو.
تمدّدت نينا بخفة، رفعت رأسها تنظر إليه. بدت حركتها كحيوانٍ صغير يخرج من صدَفته، فوجد أدريان نفسه يحدّق بها شاردًا، مأخوذًا بطرافتها.
عيناها الذهبيتان ثبتتا على وجهه.
“إذن قل إنك تحبني.”
لم تُسجَّل الجملة في رأسه مباشرة.
لم يعِها فورًا. لم يسأل: ماذا؟، لأنه ببساطة كان بطيئًا حدّ البلادة.
ومع ذلك، كان وقع الكلمات كافيًا ليزيل قليلًا من نعاسه.
راقبها مليًّا، بحثًا عن ظلّ مزاح، لكن ملامحها كانت جادّة بلا تردّد.
‘حتى وجهها الجاد جميل.’
تسلل إليه هذا الخاطر، فابتسم. وما الذي يصعّب الأمر أصلًا؟
هو لا يختلق شيئًا، بل يبوح بما يحمله قلبه.
اقترب منها وهمس وهو ينظر في عينيها.
“أحبك يا نينا.”
أغمضت جفنيها كأنها تُصغي إلى مقطوعةٍ على الكمان، تتذوق وقع العبارة، ثم اندفعت نحوه فجأة.
“…؟!”
لم يخطئ الإحساس. شفاهها لامست شفتيه.
حدّق بها مذهولًا، فرفعت حاجبيها بثقة لا تشي بوجود أي خطأ.
“مرة أخرى.”
تعثّر تفكيره.
مرة أخرى…؟ ماذا؟
“أحب—”
وما إن بدأ حتى طبعت شفتيها فوق شفتيه ثانية، بخفةٍ لا تكاد تُلمس، ثم تبتعد.
“مرّة—”
لم ينتظر أن تتم كلامها. أدريان جذبها بسرعة وضغط شفتيه على شفتيها.
لامسها، وشعر بها. خصلاته الباردة مرّت على جبهتها. القبلة كانت ناعمة، غارقة في دفءٍ حلو. جذب شفتها قليلاً، ويده تحيط بمؤخرة عنقها، بينما الأخرى تمسك خصرها كأنها تمنعها من الفرار.
ثم قبلها مرة أخرى.
“!!”
اتّسعت عينا نينا صدمةً.
‘ما… ما الذي يحدث بجدية…؟’
كانت تعرف النظرية، لكن التجربة شيء آخر تمامًا.
كانت قبلة تلتهم أنفاسها، تزلزل جسدها، تبث رعشة في كل خلية. احتبست أنفاسها.
متعة.
متعة خالصة من قبلة وحدها… لم تعرف أنها ممكنة.
وحين تفتح فمها طلبًا للهواء، كان يغوص أعمق. وعيها يتلاشى، وقواها تنساب من أطرافها. أصابعها ترتجف، وكأن موجات كهرباء تتصاعد من أطرافها.
أهناك شيء كهذا في العالم…؟
قبلة واحدة نسفت كل ظنٍّ سابق بأن اللمسات بينهما بلغت حدّها.
لم تعرف كم مرّ من الوقت.
ثم خفّت قبلاته، صارت مداعبة أكثر منها هجومًا. ومع ذلك شعرت أنها قد تظل هكذا زمنًا طويلًا.
وحين ابتعدت شفاهه أخيرًا، أخذت تلهث. ضحك بصوت خافت.
تحرّجت من النظر إليه، لكنها رغبت في رؤيته، فرفعت عينيها… ثم أسقطتها بسرعة.
يا إلهي…
كان ينظر إليها بوجهٍ يكاد يذيب نبضها، كأن ساقيها توشك على الانهيار بالفعل.
أحاطته بذراعيها بقوة. دفؤه، صلابته، دقات قلبه… كل شيء فيه منحها طمأنينة لذيذة. هدّأت خفقانها ثم تمتمت.
“لنذهب إلى السرير.”
ارتجّ جسده كله، فقهقهت.
عندها فقط خارت قواه، واستعادت هي هدوءها.
ابتعدت قليلًا لتنظر إليه.
يا للعجب…
كم تغيّر كل شيء.
ما قبل القبلة وما بعدها كانا عالمين مختلفين.
هو لا يزال أدريان خاصّتها، وهي نينا خاصته، لكن الخط الفاصل بينهما… تلاشى.
انعطفا في زقاقٍ جديد، وفتحا بابًا مغلقًا. فتبدّل كل شيء.
“أنت متعب.”
“لست متعبًا.”
“كاذب.”
همست بذلك بمكر، ثم ابتعدت عنه. مدّ يده إليها آسفًا، فقبضت على يده وسحبته. نهض من الكرسي، واتجهت به نحو السرير.
“لدينا أحاديث كثيرة غدًا، أليس كذلك؟”
“لا أظن أني سأنام.”
“ستنام.”
طرقت على السرير وهي تدعوه.
تمدّد أدريان، ولم يستطع التخلص من رغبته فيها.
“ما زلت أريد… المزيد—”
“يكفي. نم الآن.”
تزحلق أدريان بزفرةٍ مستسلمة حين جاء صوت نينا يحمل نبرة آمرٍ لا تقبل نقاشًا.
وحين أطفأت النور تمتمت: “نم هنيئًا، يا سيدي الشاب.”
فأجابها أدريان: “نامي جيدًا، نينا.”
وبرغم قوله إنه لن ينام، أغمض عينيه وما إن مرّت ثوانٍ حتى غرق في النوم.
حدّقت به طويلًا. عادةً لو شعر في الظلام بأن أحدًا يراقبه لانتبه فورًا، أما الآن فقد نام دون أن يتحرك.
‘لابد أنه منهك فعلًا.’
انتبهت فجأة لفكرةٍ أزعجتها قليلًا. هل أصيب؟ هل تعرّض لشيء؟
لم يظهر عليه أي أثر، لكن الاحتمال قائم.
ظلت تتأمله لحظة، ثم زحفت رويدًا رويدًا حتى تسللت إلى جانب السرير.
‘هذا القدر مقبول، أليس كذلك؟’
سمعت أنفاسه من قرب، فارتسمت على شفتيها ابتسامة راضية، وأطبقت عينيها.
***
استيقظ أدريان متأخرًا عن المعتاد. هو الذي ينهض دائمًا في الدقيقة نفسها، لكن حتى هو لم يستطع التغلب على التعب حين بلغ اشدّه
ثم شعر بشيء ما.
شيء يجذبه.
جرس إنذار داخلي دوّى في عقله، ففتح عينيه على اتساعهما وكاد يركل من أمامه لولا أنه ضبط نفسه في اللحظة الأخيرة.
كانت نينا تطوّقه بكلتا ذراعيها، نائمة بين أحضانه.
‘لماذا؟ نينا؟ هنا؟’
تطلّع إليها مذهولًا، ثم انهمرت عليه ذكريات الأمس.
‘آه…’
يا الهي.
أيمكن أنّ هذا يحدث له حقًا؟
غطّى وجهه بكلتا يديه.
تخيّلاته وأحلامه كانت دومًا باهتة مقارنة بما جرى على الحقيقة.
الحقيقة… كانت أفضل بلا حدود.
ضحكة خافتة انفلتت منه فعضّ على أسنانه ليكتمها.
شعر كأن كل ما مرّ به من ألمٍ طوال حياته لم يعد يعني شيئًا. قلبه يقفز، ورأسه يدور.
طبعًا، كان يتمنى أن تنتهي الأمور بهذا الشكل. وأن تبادله نينا المشاعر نفسها… سيكون ذلك سعادة حقيقية.
لكن ما حدث فاق كل خياله الساذج.
تنفّس ببطء، وانحنى قليلًا يتأملها.
لسببٍ ما، كانت ترتدي ما كانت ترتديه ليلة أمس بالضبط.
خصلات شعرها الطويل تخفي عينيها، فمدّ يده برفق وأزاحها.
خدّها الأبيض المستدير كان شديد العذوبة.
رموشها الطويلة المنتظمة غاية في الجمال.
وحتى الزغب الناعم الذي انعكس عليه بريق الشمس لا يوصف.
‘هذا ليس حلمًا… صحيح؟’
وعند هذا الحد فتحت نينا عينيها فجأة، كأنها شعرت بنظراته.
عيونه الوردية التقت بعيونها الذهبية.
“استيقظتِ؟”
نطقها أدريان أولًا.
تمتمت “نعم…” ثم دفنت رأسها في صدره أكثر.
“أريد أن أنام… قليلًا فقط.”
ضمّها بحذر. جسدها الرقيق انساب تمامًا في أحضانه.
“نامي.”
“لكنّك ستنهض الآن.”
تجمد للحظة… ودخل صراعًا عنيفًا.
كان يريد أن يقول ‘لا، لنبقَ هكذا. فلننم معًا.’
وكان على وشك أن ينطقها فعلًا.
لكنّه منع نفسه.
نينا رفعت رأسها قليلًا، رأت تردده، فابتسمت. ثم مددّت جسدها لتطبع قبلة سريعة على أسفل ذقنه، وابتعدت.
“هيا بنا ننهض.”
ولمّا حاولت مغادرة السرير، أمسكها أدريان ونهض معها نصف جالس. راحت عيناه تلاحقانها، يرصدان كل تفصيل.
أمالت رأسها باستفهام لطيف.
اقترب منها.
عيناه اخترقتا عينيها، تبحثان، تسألان.
هل ترين أننا… بخير هكذا؟ نحن… معًا؟
بطء حركته كان أشبه بطلب إيضاح، أغمضت نينا عينيها.
تنفّس أدريان بارتياح، وطبع قبلة خفيفة على شفتيها.
ملامسة خفيفة ما لبثت أن انفصلت، فتنفست نينا بعمق. ثم ابتعد عنها قليلًا وقال.
التعليقات لهذا الفصل "181"