كانت فيونا تلتقط أنفاسها بصعوبة. لم يسبق لها أن استخدمت قوّتها في مثل هذا الظرف.
وحين تلاشى الغبار المضيء، بقيت لوكريتسيا مطروحة على الأرض. اقتربت منها فيونا، فرفعت لوكريتسيا عينيها الحمراوين نحوها، وابتسمت.
“لم أخسر.”
“بل خَسِرتِ.”
أعلنت فيونا، لكن لوكريتسيا تجاهلت ذلك وتابعت.
“سأكون كابوسكِ. سترين ليالٍ تعيسة، ولن يزول من ذاكرتك ذلك التعذيب. الألم يخلّف ندوباً، والندوب لا تُمحى.”
وكان هناك أمر آخر لم تكشفه… ستدّخره، وتتركه لخيالها، وللمتعة التي يمنحها.
قالت لوكريتسيا ببرود.
“ثم إنكِ قتلتِ صديقتكِ بيديكِ.”
“أنتِ لستِ صديقتي.”
انطبقت أسنان فيونا غيظاً، فقهقهت لوكريتسيا بخفوت.
“سأظل عالقة في ذاكرتك إلى الأبد. لستُ عابرة سبيل، ولستُ واحدة ممن تغدقين عليهم دفئكِ بلا تمييز.”
حين كنتُ سأغادر ذلك الميتم البغيض، كنتُ أريد أن آخذكِ معي.
فيونا. فيونا.
لكنّكِ قلتِ إنكِ لا تحتاجين إليّ.
ولأنكِ لا تحتاجينني… أخذتُ منكِ كل شيء. وها أنتِ تعودين للبحث عنه.
على المرء أن يستعيد نصيبه بنفسه… أليس كذلك؟
لكن تلك الكلمات لم تستطع الخروج من شفتيها.
اكتفت لوكريتسيا بالنظر إلى فيونا.
“أنا أكرهكِ.”
توقّفت فيونا عن الكلام.
رأت لوكريتسيا ذلك التغيّر العابر على وجهها، فارتسمت على شفتيها ابتسامة رضا.
نعم… هذا هو الوجه الذي أرادت رؤيته، مراراً.
أغمضت عينيها، ثم تفتّت جسدها إلى ذرّات تطايرت وتلاشت.
انعقد وجه فيونا.
أرادت أن تمحوها.
أرادت أن تمحوها حقاً.
لكن لماذا لا يندفع من صدرها فرح النصر؟ لماذا لا تشعر بالابتهاج؟
لم يكن يلفّها سوى خواء غريب يسحب ما تبقى من قوّتها.
“كيااااه!!”
“آاااه!”
في تلك اللحظة دوّى صراخ خارج المعبد. في البداية ظنّوه هتافات، لكنه كان صراخاً حقيقياً. تبادلت فيونا ونينا نظرة دهشة، ثم اندفعتا إلى الخارج.
شهقت فيونا. كان ثلج أسود يهطل.
أو بالأحرى… نور أسود؟ رقائق تشبه الثلج، لكنها مظلمة، تتساقط من السماء.
قالت نينا وهي تمسك يد فيونا. “الحاجز الذي أقامته لوكريتسيا قد انهار.”
كانت قوّة الأرواح تتدفّق في يد فيونا بخفقان واضح، كأنها تطيع النداء.
حدّقت فيونا في يدها، فرأت العلامة ذاتها المنقوشة على معصم نينا من قبل، وقد ظهرت على معصمها هي أيضاً.
القوة المقدّسة في جسدها ترقص مع قوّة الأرواح…
القوة التي ظنّت أنها زالت بالكامل، عادت فجأة، وبكمية هائلة.
كان عليها أن تُفرغ هذا الفيض. إن لم تفعل، فسيتمزّق جسدها.
رفعت فيونا يدها بقوة.
لوّحت ميمينا بإشارة الاستعداد، ثم اندفع راندل يشقّ الغيوم عمودياً.
انبثقت من يد فيونا موجة نور، متموّجة، تجتاح كل من حولها.
وتحوّل الثلج الأسود إلى ثلج ذهبي.
كانت موجات النور تتقدّم، طبقة بعد طبقة، تغطي كل شيء وتطهّره.
انتشرت الموجة حتى أقصى العاصمة، ثم خمدت، غير أنّ الثلج الذهبي ظلّ يتساقط طوال ذلك اليوم.
***
حدّقت نينا في لويس بوجه عابس، ولويس بدوره نظر إليها بملامح حائرة.
“قلتُ لك إنّ شيئاً ما قد حدث، أليس كذلك؟”
“الآنسة نينا…”
“كم مضى من الأيام؟ بلا خبر، بلا رسالة!”
من جهتها، كل شيء كان قد انتهى على نحو أفضل مما توقّعته.
لم يعرف أحد لماذا لمعت البذرة اابلورية في تلك اللحظة بالضبط، لكن النتيجة كانت في ذروتها.
كادت هيبة المعبد تنهار بسبب فضيحة القديسة المزيفة، غير أنّ موجة النور الذهبية أنقذت الموقف.
من لامسهم ذلك النور تحسّنوا، ومن كان مرضه خفيفاً تعافى تماماً. نور يشبه المعجزة.
أما الذين سُكِّروا بسمّ بيلاك، فقد عادوا إلى رشدهم جميعاً.
لم تستطع نينا تنفيذ خطّتها بإرسال القديسة قرباناً سياسياً إلى المعبد، لكن القضاء السريع على المزيفة أضعف سلطة المعبد لحظة واحدة، ثم هوى نفوذ الأميرة فيارينتيل، وانقلبت الموازين.
أصبح باراديف أبرز مرشّح لعرش الإمبراطورية، يسير مرفوع الرأس، وبدت السعادة على وجه ناف.
وفوق ذلك… فتاة تجري في جسدها قوة المعجزات، تقف إلى جانب الأمير باراديف.
نامت فيونا أياماً، ثم استفاقت قبل فترة قصيرة، من غير أيّ أثر جانبي.
وانتشرت الحكاية ‘فيونا، القديسة الحقيقية، التي أسقطت القديسة الشيطانية لوكريتسيا’.
لكن اسم نينا غاب تماماً عن المشهد، وهذا ما كانت تفضّله.
أرسل المعبد إلى فيونا مرات عديدة يدعوها للعودة إلى نشاطاته، لكنها رفضت كل شيء رفضاً قاطعاً.
ولم تعلم نينا إلا لاحقاً أنّ إدغار قد استعاد وعيه بعد أن لامسه النور، فاستقال من منصب قائد الفرسان، وغادر المعبد ليلازم فيونا.
وهكذا طويت صفحة الاثنين.
‘لكنّ أدريان ليس هنا!’
لم تجد من تشاركه هذه البهجة.
منذ تلك الحادثة، لم يصل أي خبر من أدريان أو جان.
هذا خطر كبير.
هذا ما فكّرت به نينا.
“أكرهك يا جان.”
نطقت نينا، فأطبق جان شفتيه بخجل. رفعت نينا رأسها بعناد، وقد تلألأت الدموع في عينيها.
“وأنت أيضاً أكرهك.”
“آسف.”
اعتذر أدريان بصوت لطيف، لكن نينا لم تجبه. وضعت رأسها من جديد على كتفه، دون أن تبتعد قيد أنملة.
كانت الخدم يطرفون بعيون حائرة، لا يعرفون كيف يتصرّفون.
التعليقات لهذا الفصل "180"