الفصل 179
تشوّه وجه لوكريتسيا، وانسدل على القاعة صمت خاطف، قبل أن ينفجر من كل صوب لغطٌ مضطرب.
“هذا هراء!”
“أي عبث هذا؟!”
“يجب التحقق من الأمر!”
“فلنسمع أولًا ما الداعي لهذا الادعاء!”
تحوّلت القاعة في لحظة إلى سوق صاخب؛ جدال حاد بين فريق الأميرة فيارينتيل وفريق الأمير باراديف، يتخذ من “نزاع القديسة” ذريعة لصراع نفوذ.
وسط الضجة، تبادلت فيونا ولوكريتسيا نظرات حادة. عضّت لوكريتسيا شفتها واقفةً بعصبية.
“لا أرى سببًا يدعوني إلى سماع مثل هذا الكلام. رئيس الكهنة قد أكّد هويتي، ولن تهتز هذه المكانة بكلمة تُلقيها مجرد عامية.”
“ليست مجرد كلمات عامية.”
“وما هي إذًا؟ قلتِ بنفسكِ إنك لستِ قديسة. مجرد فتاة تمتلك قدرة خاصة، لا أكثر ولا أقل.”
استدارت لوكريتسيا ببطء، وحدّقت في الحضور وهي تفتح شفتيها الحمراء.
“ثم إنكم جميعًا تتمتعون بالحماية التي صنعتُها أنا. الحاجز الذي نصبته حول المعبد.”
ارتفع صوت فيونا مجددًا.
“ذلك الحاجز يستدعي البيلاك إلى المعبد.”
تجمّدت القاعة من وقع الجملة. صدمة انتشرت بين الوقوف والجالسين.
رفعت نينا صوتها قائلة.
“الجدال لن يفضي إلى شيء. ما رأيكم بإجراء اختبار بسيط؟”
سأل باراديف بحدة: “أي اختبار؟”
ابتسمت نينا ابتسامة طفيفة.
“لِم لا تستخدم السيدة فيونا قدرتها في التطهير على السيدة لوكريتسيا؟”
“وما جدوى ذلك؟”
“فيونا قالت إن لوكريتسيا ظلام. ربما لها صلة بالبِيلاك. إن كان الأمر صحيحًا، فلن تحتمل التطهير، وسيظهر وجهها الحقيقي.”
“هذا ادعاء باطل!”
“هذه إهانة!”
“ولِم يكون إهانة؟ إن كانت فعلًا من البِيلاك، فوجودها داخل المعبد هو الاهانة بعينها!”
“هل من سبب يدعوها للتهرب؟”
‘أياً تكن النتيجة، فالميزان سيميل لصالحنا.’
إن تهرّبت لوكريتسيا، ستنتشر الشائعات. وإن قبلت… فالذي يُخضع نفسه للاختبار أدنى شأنًا ممن يفرضه.
‘ما قرارك؟’
نظرت نينا إلى رئيس الكهنة، كان ينظر إليها بنظرة متسلّية.
ثم ضرب مسند كرسيه ضربة خفيفة.
طَقّ.
صوت خافت، لكنه صمت معه الجميع. قال رئيس الكهنة.
“لوكريتسيا، اقتربي. وأنتِ أيضًا يا فيونا.”
خطابه موجّه لكليهما.
نظرت فيونا إلى نينا، فأومأت لها. تقدّمت فيونا أولًا، وتبعتها نينا خطوة بخطوة. اقتربت لوكريتسيا، وخلفها قائد فرسان المعبد.
ثم وقع ما لم يخطر على بال أحد.
انفجر من جسد فيونا نور ساطع.
“!!”
“ما الذي—؟!”
أمسكت نينا كتفي فيونا بسرعة. فقد اندفعت من صدرها، من القلادة التي تحملها، البذرة البلورية، تتوهج بألوان الطيف وهي ترتفع في الهواء.
ما إن لامس النورُ لوكريتسيا حتى صرخت، وغطّت وجهها، وانهارت على الأرض.
احتضنت نينا فيونا، ثم رفعت نظرها إلى رئيس الكهنة. التقت عيناهما، فتشكّلت على شفتيه حركة كلام صامتة.
“أمستمتعة، أيتها الروح العظمى؟”
قطّبت نينا حاجبيها؛ لم تفهم ما يعنيه.
في تلك اللحظة انفجرت نواة البذرة، ملء القاعة، ضوءًا كالبرق، قبل أن تتفتت إلى غبار متلألئ.
“أ… آآه…”
كانت لوكريتسيا ملقاة على الأرض، تئن بصوت مبحوح.
غطّى الصمت القاعة بالكامل. تقدم أحد الكهنة بارتباك.
“الـ… القديسة—”
لكن صوته انقطع، إذ انطلقت صرخة مفاجئة من بين الحاضرين.
تعالت صيحةٌ من الصفوف الأمامية.
“لقد التأم جرحي!”
“ماذا؟ ماذا تقول؟!”
وانتشرت على الفور حركات التفقد بين الجالسين.
“ركبتي… شُفيت!”
نهض نبيلٌ مُسنّ من كرسيه فزعًا.
“وأنا…! الندبة التي جرحتني هذا الصباح اختفت تمامًا!”
تتابعت الهمسات: هنا من استعاد عافيته، وهناك من تلاشى ألمه القديم، وآخرون خفَّ جسدهم، وانجلت رؤاهم، وكأن ضبابًا أزيح عن عقولهم.
التفتت فيونا نحو نينا، مصدومة الملامح. شدّت نينا على يدها، مطمئنةً إيّاها بصمت.
أعادَت فيونا شهيقها إلى صدرها، واستعادت هدوءها.
كان الجو في داخل المعبد غريبًا حدّ الرهبة. لو أنّ لوكريتسيا وحدها تأذت من الضوء، لكان يمكن اتهام فيونا بمحاولة الاعتداء عليها.
لكن الضوء نفسه شفى الحاضرين… جعل أنفاسهم أدفأ، وأجسادهم أخف، وأذهانهم أنقى.
ضوءٌ يفيض بالحياة والشفاء؛ شعورٌ لم يكن بحاجة إلى تفسير، فقد اختبره الجميع بأجسادهم.
ولو كان ذلك كلَّ ما حدث، لوجدت لوكريتسيا ذريعةً للادعاء بأن فيونا هاجمتها.
لكن… هناك من شُفي… وهناك من بُرئ من مرضه…
بينما “القديسة” وحدها تتلوّى متألمة تحت الضوء؟
“ما هذا…؟”
تسرّبت كلمات الذهول من صفّ مؤيدي الأميرة فيارينتيل. فكرة كون لوكريتسيا قديسة مزيفة لم تخطر لهم قط.
قالت فيونا بصوت ثابت.
“تراجعوا، جميعكم.”
التفتت الأنظار إليها على الفور.
كانت نينا قد استدعت روح الشتاء، فشكلت بلورة صغيرة، ثم جعلت ضوء الشمس ينكسر عليها، فينثر وهجًا يتلألأ حول فيونا كهالةٍ سماوية.
تقدمت فيونا خطوة، تحيط بها أنوار ذهبية.
“تراجعوا… قد يصبح الأمر خطِرًا.”
“أنتِ… أنتِ…!”
تمكنت لوكريتسيا من رفع جسدها المرتعش. تحولت عيناها إلى قرمزٍ لامع، وظهرت قشورٌ سوداء على بشرتها. تصاعدت شهقات الرعب من كل ناحية.
وقفت نينا في وجهها، لكن فيونا هزّت رأسها.
“دعيني. سأفعل ذلك بنفسي.”
“ولكن—”
“سأفعل.”
مدّت فيونا يدها، فانفجرت منها موجة تطهيرٍ ناصعة. بدأت لوكريتسيا تلتوي من الألم.
لا! لا! مستحيل!
تلفّتت بقلق، ثم تطلعت إلى رئيس الكهنة. الرجل الذي وثقت به كان جالسًا بلا مبالاة، وكأن الأمر لا يعنيه.
عضّت لوكريتسيا شفتها حتى سال الدم.
‘لا أريد أن أموت هكذا! ليس أمام فيونا! لن أسمح لهم بصيدي كحيوان!’
لا يزال هناك مخرج.
هناك فرصة تجعل فيونا تنغمس في الهاوية قبلها.
‘إن قتلتُ الجميع هنا… وألصقتُ الجريمة بفيونا…’
وفي اللحظة التالية، انحنى جسدها، ثم تمزق عن شكلها البشري، وقد تحولت إلى سحليةٍ هائلة تغطيها قشورٌ سوداء وعيونٌ دامية.
ضجّت القاعة بالصراخ.
“يا أميرة، ابتعدي!”
“سموّ الأمير!!”
كان المخلوق كبيرًا حدّ أنه ملأ القاعة كلها. انفتح فمه، ونفث ضبابًا زهريًّا سامًّا.
شدّت فيونا نورها أكثر، فبدأ الضباب يتبخر تحت قوة التطهير.
لكن نينا كان لها رأي آخر.
لا… لن يصمد المعبد حتى تُطهِّره فيونا بالكامل.
همست.
“فيونا، سأثبتها. اجمعي قوتك، ثم وجهي ضربة واحدة. اتفقنا؟”
أومأت فيونا.
قفزت نينا خارج دائرة التطهير، والسمّ يشتعل في ملابسها شررًا أزرق.
“هيااا!”
انطلقت وركلت ساق الوحش الهائلة.
صرخ المخلوق، وضرب ذيله بعنف، فتهشمت أعمدة المعبد وبدأ السقف يتداعى.
صرخت نينا وهي تمسك بذيله.
“روح الشتاء! انفثي بردك الذي يُجمِّد كل شيء!”
تشقق الهواء بصريرٍ متجمد، وامتد صقيعٌ أبيض، فألصق أرجل الوحش بالأرض.
‘لو كان معي سيف…’
كم كان قطع هذا الذيل سيكون أسهل.
أما فيونا، فقد أغمضت عينيها، تجمع قوتها كلها.
‘لا بأس… يمكنني فعلها…’
حتى لو تحطمت البذرة البلورية، فهذه القوة كانت قوتها منذ البداية.
قوة خالصة، تستطيع السيطرة عليها كما تفعل نينا وروح الشتاء، وكما يفعل راندل بسحره.
صرخت وهي تطلق قوتها دفعة واحدة على لوكريتسيا.
“آاااه!”
انفجرت موجة التطهير الذهبية، وارتفع معها صراخ البيلاك وهو يتفكك، قبل أن ينهار جسده إلى غبارٍ ذهبي يتطاير في الهواء.
التعليقات لهذا الفصل "179"