أومأت فيونا وهي تحدّق عبر المرآة في انعكاس صورة ميمينا خلفها.
كان شعرها يلمع بصفاءٍ رائق، كأن كل خصلةٍ مغلّفة بطبقة زجاجية شفافة، بفضل العناية الخاصة بمنتجات شركة رومي.
أما بشرتها، فبيضاء ندية، تشعّ نعومةً ولمعانًا؛ بدا وجهها خاليًا من أي مساحيق، ومع ذلك بدا مصقولًا بقدرٍ يكاد يكون غير بشري.
الزينة قليلة… لكنها شديدة الأثر.
وخلفها قالت نينا وهي تبتسم.
“لا تقلقي. أنا إلى جانبك.”
نينا كانت نادرًا ما ترتدي ثيابها الرسمية، لكنها اليوم ارتدت زيّ فرسان الظلام الأسود من الياقة حتى الحذاء، وأضافت إليه القبعة التي صُنعت خصيصًا قبل مدة قصيرة.
قبعة ذات مقدّمة وعوارض حادة، أشبه بتصميم قبعات الشرطة الحديثة.
حين رآها جان أول مرة، عقّب في استغراب.
“هذه يجب أن تُصنع من الفولاذ. مثل هذا الشكل، كيف يحمي الرأس لو كانت من قماش؟”
فردّت نينا.
“ليست للوقاية، إنها للمظهر.”
“وما حاجة الزي الرسمي لهذا؟”
“حاجة مطلقة.”
ثم تابعت وهي تشير بفخر.
“ما الذي يجعل فرسان الظلام لافتين من النظرة الأولى؟
المعاطف السوداء الطويلة، أليس كذلك؟”
ظلّ جان يحدّق في القبعة غير مقتنع، لكنه لوّح بيده أخيرًا.
“أنتِ القائدة، افعلي ما تشائين.”
“وهذا ما سأفعله.”
وعندما عرضت نينا التصميم على الفرسان، بدا لهم غريبًا أول الأمر، لكن ما إن ارتدته هي حتى أومأ الجميع إقرارًا.
حتى إن ميمينا علّقت.
“لا أعلم إن كان جمال القبعة بسبب دا نينا، أم جمال دا نينا بسبب القبعة.”
في مقدمة القبعة ثبت رمز فرسان الظلام: صقر أسود منحوت بإتقان.
ولم تكن القبعة للاحتفالات الرسمية، لذا كان الاختلاف اللوني مقتصرًا على الأزرار والخطوط.
لم تصبح حبّ الآنسات الأول في العاصمة من فراغ… إنها نينا.
ابتسمت نينا.
“المهم أن أبدو قادرة على حمايتك. اليوم ندخل قلب معسكر العدو.”
عند كلماتها، وجدت فيونا نفسها تحدّق في صورتها في المرآة.
جمالها بدا غريبًا… كأنها ترى شخصًا آخر لا يشبهها إلا قليلًا.
“ترى… هل ستظهر لوكريتسيا اليوم أيضًا؟”
“الاحتمال كبير.”
استدعا المعبد فيونا رسميًا.
المشرف الأكبر أرسل يطلب لقاءها بنفسه، قائلًا إنه يرغب في الحديث معها حول القوى التي تحملها.
ولم يكن ثمة سبب للرفض… فهذا بالتحديد ما انتظرته.
ولذلك أقيمت جلسة عامة شبيهة بالاستجواب العلني في معبد العاصمة.
وبفضل حركة جاك النشطة، انتشرت الأخبار في كل أنحاء المدينة، وانجذبت الأنظار جميعها إلى المعبد.
كان هذا اليوم أول ظهور رسمي لـ’الفتاة ذات القوى الغامضة’.
بذلت ميمينا أقصى ما يمكن بذله.
حضّرت كل التفاصيل، ورسمت خططًا متعددة، وأجرت تفقدًا شاملًا عدة مرات.
“انتهينا.”
وقفت فيونا وقد اكتمل تنسيقها حتى الكمال.
كانت في المرآة تبدو ككائن طاهر، يحمل نورًا لا يماريه شيء.
أبعدت بصرها عن المرآة، فاقتربت منها نينا منحنية قليلًا، تمدّ يدها إليها.
“هل تمنحينني شرف مرافقتك؟”
رغم التوتر الذي يعتصرها، شعرت فيونا بابتسامة ترتسم على شفتيها وهي تضع يدها فوق يد نينا.
“بالطبع.”
وصعدت عربة الدوق الفخمة، فالتقطت أنفاسها عميقًا.
كان وجه نينا المقابل لها هادئًا إلى حد مدهش، فساعدها ذلك على ضبط نبض قلبها المضطرب.
كان الجوّ غائمًا.
وحين وصلت العربة أمام المعبد وهمّت فيونا بالنزول، انشقّت الغيوم فجأة، وانهمر ضوء الشمس.
صرخ المتجمهرون بدهشة؛ سقط الضوء مباشرة على العربة فاشتعلت زخارفها بوهج يخطف الأبصار.
نزلت نينا أولًا، ثم ظهرت فيونا… فارتفعت الهتافات دفعة واحدة.
بدت فيونا مرتبكة أمام الجموع، تدير رأسها هنا وهناك، فاقتربت نينا تهمس بشيءٍ في أذنها.
عندها استدارت فيونا ولوّحت بيدها بخجل.
فانفجر الحشد بهتافٍ أعلى.
وبين صفوف فرسان الظلام الذين أحاطوا بهما حراسةً، تابعت فيونا خطواتها نحو داخل المعبد.
وما إن وطئت العتبة، حتى انشقّت الغيوم مرة أخرى، وانسكب الضوء فوق المعبد نفسه.
انشقت الغيوم في تلك البقعة تحديدًا، حتى بدا الأمر لكل من شاهدَه ظاهرةً لا شك في سحرها.
“ها قد جرى استغلالي في عرضٍ كهذا.”
تمتم راندِل من فوق سطح أحد المباني المجاورة، وهو يخرج الـبندول بين أصابعه. لم يكن من الصعب عليه شقّ الغيوم في اللحظة المناسبة.
ثمّة دعم مالي هائل يتدفّق من قصر دوق لوفرين، وهذا أقل ما يجب عليه فعله مقابله.
تنهد راندِل وهو يترقب الإشارة التالية.
وفي داخل المعبد، اضطرب الواقفون مع دويّ الهتاف المنفجر من الخارج.
كانوا يعلمون أن فيونا محبوبة… لكن ما سمعوه تجاوز حدّ المعقول.
لم يعرف أحد ما الذي حدث بالخارج، فخيم الارتباك على الوجوه.
عندها تقدمت فيونا ببطء نحو القاعة الكبرى.
أطلق النبلاء والكهنة الذين كانوا في الداخل شهقات إعجاب. بدت وكأن هالة من ضياءٍ تحيط بها.
وكانت في الحقيقة تتلألأ بالفعل—إذ سخّرت نينا روح الشمس لتضفي عليها بريقًا خافتًا لا يلفت الشبهات، لكنه يصنع أثر هالة مقدسة.
كانت القاعة المستطيلة عادةً تعجّ بالمصلّين، لكنها اليوم لم تضمّ سوى رئيس الكهنة،كبار الكهنة، القديسة، وعدد من أفراد العائلة الإمبراطورية ونبلاء معيّنين.
حضر باراديف وفيارينتيل كذلك.
قالت فيونا وهي تنحني بخفة.
“أنا فيونا. أشكركم على دعوتي.”
كان انحناؤها بسيطًا، غير متكلّف، منسجمًا مع مقامها بلا مبالغة في الأرستقراطية.
ثم انتصبت في مكانها، تنظر إليهم بثبات لا يوحي بأي شعور بالنقص.
هزّت نينا رأسها سرًّا: أحسنتِ. ثم وقفت خطوة خلفها، إلى جانبها.
جالت نينا بنظرها على الوجوه إلى أن استقرّت على رئيس الكهنة.
‘الشرير الأخير.’
لم تستطع رؤية ملامحه بوضوح لبعد المسافة، لكنها شعرت أنه لا يحدّق في فيونا بل فيها هي.
ولما التقت عيناها بعينيه، تبسّم برفق، ثم حول نظره إلى فيونا.
نهض رئيس الكهنة من مقعده.
“المعبد يرحّب بكِ. وقد استدعيناكِ اليوم لما يُتداول مؤخرًا من شائعات.”
ابتسم ابتسامة هادئة، فتقدمت فيونا خطوة.
“وقد حضرت لأن لدي شيئًا أودّ قوله. هل لي أن أبدأ؟”
لم يكن بمقدوره أن يجيبها: لا، استمعي لكلامي أولًا.
فاكتفى بإيماءة.
“تفضّلي بالكلام.”
قالت فيونا بصوت ثابت.
“أنا لست قديسة.”
ضجّ المكان بهمهمة. وضعت يدها على صدرها وتابعت.
“نعم، أملك قوة خاصة. إنها هدية من الإله. لكن هذا لا يجعلني كائنًا مقدسًا ولا يجعلني قديسة. أنا فتاة عادية ليس إلا.”
سأل أحد كبار الكهنة.
“وتلك القوة الخاصة… ما هي؟”
“قدرة على شفاء الجراح، وتطهير الأماكن الملوّثة ببيلاك.”
“أوه…!”
“إذن فهو حق!”
“هل يمكنكِ إثبات ذلك؟”
رد أحد النبلاء على الفور: “أنا شاهد.”
كشف ساعده وتحدث.
“جرحٌ التهمه السواد بسبب هجوم البارون فيردين، وقد طهّرته السيّدة فيونا وشفته. وهناك كثيرون غيري ممن ساعدتهم. هذه قائمتهم.”
اقترب النبيل وقدّم القائمة لرئيس الكهنة. ارتسمت على وجه باراديف ابتسامة راضية.
ازداد الهمس بين الحضور. تصفّح رئيس الكهنة الورقة سريعًا ثم مررها إلى من يليه.
“هذه القدرة دليل على أن الإله قد اختاركِ. وبالتالي—”
“لا.”
هزّت فيونا رأسها.
“الإله يمنح الجميع قُدرات بالتساوي. منها الكبير ومنها الصغير. كلنا مختارون، وكلنا مخلوقات الإله. قوتي المميزة لا تجعلني أرقى من غيري.”
لم ترتجف نبرتها، بل علت بثقةٍ هادئة، كمن ينقل وحيًا تلقّاه قلبه مباشرة.
رفعت فيونا رأسها فجأة.
“ولي أيضًا ما أبلّغه للمعبد. في هذا المعبد… ظلمة.”
عمّ السكون. نهضت فيارينتيل مذعورة:
“ظلمة في المعبد؟! كيف تتجرأين—أأنتِ، يا فتاة من عامة الشعب، تسيئين إلى الإله؟!”
“لا أسيء إلى الإله. فالمعبد ليس هو الإله.”
دوّى صوت فيونا في القاعة صريحًا واضحًا.
ثم امتدت إصبعها، مستقيمة كإصبع مفسّرة وحي، تشير مباشرة إلى أحدهم.
“أُدين هنا… من ينتحل صفة القديسة.”
وانتقل نظر الجميع، بلا وعي، نحو الجهة التي كانت أصبعها تشير إليها.
التعليقات لهذا الفصل "178"