176
“نعم.”
جاء جواب لويس هادئاً، فشعرت نينا كأن قواها خارت فجأة.
“لقد استبعدتموني عمداً.”
“صحيح. اجلسي، آنسة نينا.”
تهالكَت على المقعد، فاستدعى لويس خادماً. ابتسم لويس بلطف لتعبيرها الكئيب.
“أهناك ما يستحق أن تبتسم هكذا؟”
“لكن…”
كادت تعترض، غير أنّ الخادم دخل، فطبقت شفتيها بصمت.
وضع أدوات الشاي ثم انسحب، وشرع لويس في تحضير الشاي.
انساب الماء من الإبريق بصوت رشيق، وتصاعد البخار بحرارة لافحة تدور في الهواء.
لم يحتج لويس إلى ساعة رملية؛ حدّق في لون الماء لحظة ساكنة، ثم صفّى الشاي في اللحظة الدقيقة.
“تفضّلي.”
تسلمت نينا الفنجان والصحن. وحين بلغت منتصفه قال لويس.
“لا تقلقي عليهما. كلاهما متعاقد مع أرواح من أعلى الدرجات، وكلاهما مبارز.”
“أعرف ذلك.”
برزت شفتا نينا في امتعاض طفيف. أكثر من يعرف قوّتهما هي، فهي تراهما كل يوم عن قرب.
“ومع ذلك فالأمر خطير. أنا أقوى منهما.”
“ثم؟”
أمام سؤاله الواضح ترددت ثم تمتمت.
“يعني لو ذهبتُ أنا لكان الخطر أقل.”
“ويبقى الاثنان في مكان آمن يشربان الشاي بينما تذهبين أنتِ إلى الخطر؟”
“ليس هذا ما أعنيه—”
حاولت الدفاع عن نفسها فلم تستطع.
“لا يمكن للآنسة نينا أن تحمي الجميع. ولا يجب عليها ذلك.”
التفت إليها بعينيه نصف المغمضتين.
“جان يسعى بجدّ ليقف إلى جانبك، كتفاً بكتف. لقد تعاقد حتى مع روح. فهل هو ممّن يجب أن تحميهم، أم ممن يسيرون بجانبك؟”
حبست نينا أنفاسها.
“..…”
“وصاحب السمو أيضاً. صحيح أنّه الرأس، وإذا طار الرأس فماذا تجدي الأطراف؟ لكن قراره… يجب أن يحترم.”
وشعرت بطرف نظراته يلسع وجنتيها.
لماذا بدا لها هذا التحديق قاسياً إلى هذا الحد؟
“ثم يا انسة نينا…”
“نعم.”
“سواء كنتِ قوية أم لا، وسواء حمَيتِنا أم لم تفعلي، فأنتِ بالنسبة إلينا شخص عزيز… وخاص.”
اتّسعت عيناها دهشة. ابتسم لويس ابتسامة خفيفة.
“ولا يعني هذا أنك عاجزة عن أداء دورك، أو أنّ مكانتك ستنقص.”
“لم… لم أفكر بهذه الطريقة…”
أطرقت رأسها. فاقترب لويس، رفع الإبريق وملأ فنجانها من جديد.
“ثم فكري جيداً.”
رفعت بصرها نحوه.
“أليس غيابك عن الساحة، مع ذلك سير العمل بدقة كاملة، دليلاً على الثقة بقدرتك؟ أليس هذا أهم من الركض خلفه الآن؟”
لم تجد ما تجيب به. كلامه لا يعيبه شيء.
“لقد اندفعتُ أكثر مما ينبغي. أعتذر، مدير.”
أومأ لويس. تنفست بعمق وأردفت.
“اليوم… جاء بعض النبلاء. أحدثوا شغباً، وحاولوا أخذ فيونا.”
“إذًا حان وقت ظهور صاحب السمو. يبدو أن مجتمع النبلاء مضطرب في هذه الأيام.”
“بسبب… ذلك الفيكونت، صحيح؟”
“البارون فيردين.”
صححها لويس، ثم تابع إيماءة هادئة.
جروح المصابين بهجوم فيردين السابق لم تتلاشى، بل ازداد انتشار البقع السوداء. يفقد المصاب الإحساس شيئاً فشيئاً، ثم يسوَدّ الجسد كله وينتهي إلى الموت.
ثم ظهرت إشاعة “الفتاة ذات القوة الغامضة”.
تقال إنّها تطهّر تلوّث بيلاك.
عندها—
ما من عجب أن يهرع الناس إلى التوسل أو التهديد، فحياتهم على المحك.
“غداً يجب أن يتحرّك صاحب السمو.”
وافقت نينا بإيماءة. أفرغت الفنجان، ووضعته.
“شكراً على الشاي، يا حضرة المدير.”
“العفو. ارتاحي جيداً.”
“حاضر.”
غادرت.
‘سأنجز كل شيء بلا خطأ.’
إن وُكّل إليها الأمر، فلن تتهاون. الخطط جاهزة، ولم يبق إلا التنفيذ.
أما التعامل مع متغيّرات الميدان، فهو مهارة نينا… بل مهارة أفراد دوقية لوفرين بأسرهم.
وإن كان قد سلّمها المهمة—
‘سأظهر له عبوسي.’
تمتمت بغمغمة طفيفة وهي تتخيّل الموقف.
حين ينفرد بها، ستدير ظهرها وتريه كم جرّحها إبعاده لها.
يجب أن ترى ذلك الارتباك اللطيف على وجهه.
وفجأة عاد مزاجها إلى نصابه.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة مبهجة، كأنّها تضيء الطريق أمامها.
***
في صباح اليوم التالي، وصل الأمير باراديف مع مجموعة صغيرة ترافقه.
لم يمتطِ جواداً، ولم يصحب وراءه فرساناً مهيبين، ولا تبعه موكب يليق بأحد أفراد العائلة الإمبراطورية.
اقتصر حضوره على بعض الخدم والحرس، وما دلّ على مكانته حقاً كان شعره بلون الماء اللامع، وتلك العصابة الدائرية فوق عينيه—شارة الملوك.
وحين هرعت نينا نحوه منفعلة تؤدي التحية العسكرية: “صاحب السمو”، لم يعد هناك مجالٌ للشك.
جثا الجميع على الأرض مذهولين.
قال بصوت هادئ.
“لست هنا لأجل هذا. اسمك الآنسة نانا، أليس كذلك؟”
ابتسمت نينا وانحنت. كان من المحرج قليلا سماعه يناديها بـ’نانا’
“هذا ما أُدعى به مؤخراً.”
“أرجو أن تطلبي منهم النهوض. أيها الجميع، قفوا. لم آتِ لتعطيل أعمالكم.”
وما إن رفعت نينا رأسها وأمرت الحاضرين بالنهوض، حتى تجرأ الناس واحداً تلو الآخر على رفع أعينهم.
في تلك اللحظة خرجت فيونا بخطوات رشيقة وأدّت التحية.
“أتشرف بمقابلة سموكم.”
كانت تعلم أنه سيأتي اليوم، فاختارت فستاناً واسعاً غنياً بالقماش، ينتشر من خصرها بطيات متقنة ترفرف كلما تحركت.
مدّ باراديف يده، فأخذتها، أما يدها الأخرى فرفعتها لتجمع طرف الفستان، ثم انحنت بثني ساق واحدة وترفّعت برشاقة كأنها تنزلق فوق الهواء.
لو قيل إن كل تدريباتها الطويلة كانت لأجل هذه اللحظة وحدها، لما كان في ذلك مبالغة.
“تشرفت بلقائكِ، سيدة فيونا.”
لم يستخدم لقب آنسة، بل سيدة المختص لمن لهم قيمة.
همست فيونا بلطف.
“يمكنك الاكتفاء بمناداتي فيونا.”
“لا. ما دمتِ تتولين عملاً كان ينبغي على العائلة الإمبراطورية القيام به، فالأولى بي أن أحييكِ بهذه الطريقة.”
ثم انحنى إلى يدها وقبّل ظهر كفها. شهق الجميع بدهشة ممزوجة بالإعجاب.
أمير شاب جميل… يقبّل يد فتاة بسيطة من عامة الشعب.
‘لوحة فنية.’
اجتاحت نينا رغبة في التصفيق وهي تراهم. التفتت حولها فإذا بالناس مأخوذون بالمشهد، لا يحركون ساكناً.
“جئت لأساعد أيضاً.”
تحدث باراديف، وبإشارة منه حمل الخدم صناديق الأعشاب والمواد الطبية من العربة.
ارتفعت الهتافات من كل جانب.
ثم صاح أحدهم أولاً.
“يحيا الأمير باراديف!”
واتبعه الجمع.
“يحيا الأمير! يحيا الأمير!”
وحين هدأت الهتافات بعد وقت كافٍ، تنحنح الأمير بلطف والتفت نحو فيونا بابتسامة.
“فبمَ يمكنني أن أبدأ؟”
صار حديث الناس في ذلك اليوم واحداً لا غير: الأمير باراديف.
فمتى سنحت الفرصة لعامة الشعب أن يروه عن قرب؟
حتى في الزمن الحديث، ما يزال الناس مولعين بالحكام، فكيف في مجتمع طبقي كهذا؟
النبلاء أنفسهم كانوا بعيدين جداً عن متناول العامة—فكيف بالأمراء؟
وفي وقت الغداء، علا همسٌ خافت بين الناس.
“هل رأيتِ الأمير يعمل؟”
“في البداية بدا غير متمرس، لكنه تعلّم بسرعة مذهلة.”
“وماذا عن السيدة فيونا؟ رأيتها تشير له ببرود وتصدر الأوامر!”
“أليس الاثنان متناغمين بشكل… لطيف؟”
“بلى، جداً.”
كان جاك يتناول رغيفه وهو يسمع انتشار الشائعات بطريقة مدروسة.
اليوم، وحتى لا تُصاب الإمبراطورية بفضيحة، بدا كأن قسم المعلومات التابع لدوقية لوفرين قد حُشد بالكامل هنا.
لو حدث للأمير مكروه، فستحلّ الكارثة.
حتى لو كانت نينا بجواره، لا يمكنها سدّ كل الثغرات وحدها.
كانوا يحرسونه بطريقة غير مباشرة.
هتاف هنا، مدح هناك، توقيت مدروس، اعتراضات محسوبة، ثم توبيخٌ للاعتراض ذاته—كل ذلك لحماية الأمير دون أن يشعر أحد.
على سبيل المثال.
يقول عميلهم الأول بتذمر.
“هاهو يتظاهر بالمساعدة الآن! هل يظن أن جلب بعض الأعشاب يكفي؟”
فيرد عليه العميل الثاني فوراً.
“عجباً لك! وهل تعرف كم أن الأمير مشغول؟ أليس هو من أسقط البارون فيردين؟ ثم يأتي رغم ذلك كله؟ هذا فضل منه.”
تنتشر هذه الحكايات فتُخمد أي شكوى قبل أن تشتعل.
أما عن فيونا، فمكانتها في السماء الآن. وأي شخص يعشق قصة كهذه.
أمير وفتاة من عامة الشعب. قصة تصلح لأغنية شاعر جوّال.
ولم يكن ليكفي يومٌ واحد ليرسخ هذا ‘الخبر الجميل’، لذلك واصل الأمير زيارة المكان يومين أو ثلاثة.
كان يصدّ أحياناً اعتراضات حرّاسه وخدمه بروح مرحة، فيتعلق به الناس أكثر.
ثم في أحد الأيام، وبينما كان متردداً في أمر ما، اقتربت منه فيونا وسألته.
“أهناك ما يشغل بالك؟”
وهكذا بدأت المرحلة الثانية من أسطورة “الفتاة ذات القوة الغامضة”.
التعليقات لهذا الفصل "176"