الفصل 175
“السيدة فيونا.”
تبنّت نينا سلوكاً في غاية التهذيب. أحسّت فيونا بوخزة خجل، لكنها رفعت رأسها بثبات.
استدارت فجأة نحو لابيرتو.
“هل التلويح بالسيوف على مرضى عزّل هو ما يليق بفارس؟”
كان موقفها صريحاً واثقاً. ورغم أن ثيابها عادية، إلا أنها تحمل مسحة نبيلة لا تُخطئ.
صورة تجسّد النبالة.
‘هذه هي!’
خفض لابيرتو حدّ سيفه، لكنه لم يُعده إلى غمده.
“من بدأ الشجار هم أولئك.”
ضيّق عينيه، ثم سأل.
“أأنتِ القديسة فيونا؟”
“لستُ قديسة، لكن فيونا اسمي.”
“عليكِ أن ترافقيني.”
رفعت فيونا أطراف أصابعها إلى خدّها في دهشة خفيفة، وأمالت رأسها.
“ما الأمر؟”
“هناك مريض بحاجة لرؤيتك.”
“أنا هنا دائماً. أحضروا المريض إلى هذا المكان.”
صرخ بغتة.
“كيف لسيدة مثلك أن تطأ هذا الوكر القذر للخنازير!”
لم ترتجف فيونا، ولا رمشت.
حدّقت فيه بعينيها الخضراوين اللامعتين، كأنهما تخترقانه.
“هذا ليس وكراً للخنازير. هذا مكانٌ للعلاج. ولن أغادره قبل أن أعتني بجميع المرضى.”
صرّ لابيرتو على أسنانه ومد يده نحوها، غير أنّ نينا اندفعت بينهما في لمح البصر.
تمتم لابيرتو. “لا مفر… أنتِ من جلبتِ هذا على نفسك! اضربوا!”
“يا للعبارة الشريرة حقاً.”
انطلقت كلمات نينا بصوت عالٍ، فوبّختها فيونا تلقائياً. “نانا.”
قهقهت نينا، ثم تفادت سيفه بخفة، وانطلقت إلى الداخل لتسدد لكمة إلى خاصرته.
“كَهـ!”
طار لابيرتو، وهو يخرج زبداً من فمه، وقد دوّى صوت كسرٍ منفّر.
تحوّلت أنظار الفرسان جميعاً نحو نينا.
كانت ترتدي قميصاً أسود، وتُعلّق ربطة عنق ببروش ذي جوهرة روبي حمراء متألقة.
هيئة غير مألوفة، لكنها لم تبدُ غريبة؛ بل أضفت هالة ضغط يصعب تفسيرها.
ابتسمت نينا ابتسامة هادئة.
“هيا.”
انطلق الفرسان بخيولهم، وغرزوا رماحهم بقوة زخم الهجوم. تفادت نينا النصال، وقبضت على عصا أحد الرماح.
“!!”
حاول الفارس استعادة رمحه فجذبه للخلف، فأضافت نينا قوتها إلى قوته، ورفعت الرمح للأعلى.
“كخ!”
ارتطم عقبه بفكّه، فانفجرت دماء من فمه—لا شك أنه عضّ لسانه.
انتزعت نينا الرمح، ثم دفعت خصمها بعيداً. صاحت فيونا من الخلف.
“لا تقتليهم!”
“آه يا إلهي.”
نقرت نينا بلسانها.
“حسناً، حسناً.”
عدم قتلهم ليس صعباً… لكن الألم؟ سيكون وافراً. القتل ضربة واحدة، أما الإصابة… فليست كذلك.
هكذا حدثت نفسها وهي تبدأ بتدوير الرمح. ومادامت لا تقتل أحداً، فليس عليها أن تتردد في الطعن.
جرحٌ في الكتف، ثقبٌ في الفخذ—الناس لا يموتون من هذا، أليس كذلك؟
‘سأتجنب الشرايين احتراماً للطلب.’
وبينما راحت تطيح بالفارس تلو الآخر، فقد آخرهم—الواقف في الخلف—كل رغبة في القتال.
“مـ… مستحيل. هذا… هذا وحش…”
فالخيل وحدها كائنات ضخمة تبعث الرهبة، فما بالك بفارسٍ مدرّب على القتال من فوق ظهرها؟
ومع ذلك، كانت نينا تصدّ ضربتهم وتخطف أسلحتهم كأنها تنتزع غصناً من شجرة.
كانت تنفّذ تلك الأفعال بيسرٍ مريب.
“هذا آخرهم.”
وما إن اقتربت نينا حتى ابتلع الفارس ريقه مذعوراً: “هِئك…!”
وحين وجهت نحوه الرمح الذي انتزعته من أحد الفرسان، صرخ.
“أستسلم!”
رمشت نينا. ويبدو أنه ظنّ هذا التوقف قبولاً لاستسلامه، فسقط سلاحه على الأرض بسرعة، وقفز من على جواده رافعاً كفيه.
قالت نينا. “تصرفٌ حكيم.” ثم رمت الرمح جانباً.
“وااه!!”
“نانا! نانا!”
“السيدة نانا، أنتِ الأفضل!”
تعالت الهتافات، وتصاعدت الضربات على الأرض والتصفيق. وارتفع اسم نانا في أفواه الجميع.
فمن وجهة نظر هؤلاء، من كان يعذّبهم دائماً، ومن لا يستطيعون حتى رفع رؤوسهم أمامه، قامت نينا الآن بإبراحه ضرباً؛ فلا عجب أن ينفجروا فرحاً.
استغلت فيونا اللحظة، وطلبت من الحاضرين نقل المصابين.
وبخبرةٍ واضحة، حملهم الناس إلى داخل الخيمة.
بدأت فيونا معالجة جروحهم، تدهنها بالأدوية، وتربط الضمادات، ثم تعيد أسلحتهم إليهم وتُرجعهم من حيث أتوا.
صرخ لابيرتو وهو يُسحب.
“لن أنسى هذا أبداً! سأرسل فرقة الفرسان!”
أجابته نينا. “ارسلهم.”
وودّعتهم بنظرة هادئة.
“لقد شاع الخبر جيداً بين النبلاء الآن. حتى من كان بليداً لدرجة مهاجمتنا دون معرفة من يقف خلفنا… فقد سمع باسم فيونا على الأقل.”
ابتسمت نينا بخفوت.
الآن سيحضر الأمير.
الأمير الذي يحمي فتاةً ذات قوة غامضة—لا، “القديسة” المتلألئة بنورٍ سماوي.
لوحة مكتملة الألوان.
كان الأمر مضحكاً بعض الشيء، ومثيراً للإعجاب في الوقت نفسه، كيف يسير كل شيء وفق الخطة.
اقترب البعض منها بقلق.
“هل… هل سيكون الأمر بخير؟ لقد ضربتِ نبلاء…”
“ألن تأتي شرطة العاصمة؟”
هدّأتهم نينا بابتسامة.
“لا بأس. هم من أشهر سيوفهم أولاً. وفوق ذلك، مجموعة فرسان هُزموا على يد فتاة واحدة… لن يفخروا بإخبار أحد بهذا.”
وحين فسّرت الأمر واحداً بعد الآخر، بدا عليهم الاقتناع.
خرجت فيونا وقد بدّلت مئزرها المتسخ بآخر نظيف، وسألت.
“ما الذي تتحدثون عنه؟”
“في الحقيقة، السيدة فيونا…”
وبعد تبادل نظرة مع نينا، أخبروها بمخاوفهم. فابتسمت فيونا.
“لا بأس. لا تقلقوا. سأعتني بكل شيء.”
أوه… تمتمت نينا بإعجاب.
“سأتولى الأمر وحدي”—
جملة خطيرة أحياناً، قد تثير قلق السامع: وكيف ستتولين ذلك؟
لكن حين قالتها فيونا، خيّم الهدوء على الوجوه.
وهذا وحده يثبت مقدار الثقة التي تبعثها فيهم.
كما هو متوقع من القديسة… من البطلة.
ثم شطبت نينا في ذهنها كلمة “البطلة”.
‘لا، هذا ليس تجسيدا، ولا يبدو رجوعا بالزمن تماماً، فذكرياتي غير مكتملة.’
لِم كان الأمر أشبه بتجسيد؟ بسبب تلك الأحلام، فهو أقرب إلى عودة… لكن بلا ذاكرة؟
شعرت وكأنها تحمل لغزاً لا ينفكّ.
فلديها أجزاء باهتة من عالم آخر، وذكريات عن كتاب قرأته، واضحة وضوح النهار.
‘لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا أنا؟’
أسئلة لا جواب لها، مهما فكّرت. لكن الواقع أمامها أهم من كل ذلك.
رفعت نينا بصرها.
لا يزال الناس متجمهرين أمام الخيمة. ومع تدفق مزيد من الوافدين، ظهر بعض المشاغبين الجدد.
وعلى الفور كانوا يهتفون. “السيدة نانا!”
ولم تكن نينا تكره ذلك النداء.
تؤدب الأشرار، ترتّب الصفوف، وتطرد مثيري الشغب من مؤخرة أعناقهم.
ولا يزال هناك مصابون بفساد البيلاك أيضاً…
أما فيونا، فكانت تبذل الكثير من الجهد. ومع حلول المساء بدا عليها الإرهاق.
تناولتا عشاءً خفيفاً، ثم ظلّتا تعالجان المرضى حتى ساعةٍ متأخرة، قبل أن تعودا أخيراً إلى القصر.
ولأن أدرِيَان يعلم بلا شك أن نبلاءًا هاجموا المكان، رغبت نينا بإخباره بنفسها، فبحثت عنه.
ليس هنا؟
لم يكن في مكتب العمل، ولا في غرفته. فاتجهت إلى لويس.
“سيد لويس، أتعلم أين ذهب السيد الشاب؟”
رفع لويس رأسه.
“ذهب للتعامل مع الشظايا.”
“آه، إذن سيعود… ماذا؟”
“الدوق، مع نائب القائدة، ذهب لمعالجة شظايا الروح الفاسدة. ويبدو أن الأمر سيستغرق وقتاً.”
اندفعت نينا نحوه كأنها تهاجمه بجسدها كله.
“إلى أين؟ وحدَه معه؟ كيف؟ لماذا تركاني؟ لماذا لم يخبرني أحد؟”
“آنسة نينا، اهدئي.”
“أه… أهدأ؟ كيف؟ من يدري ماذا يوجد هناك! كيف يذهبان وحدهما؟ لا، سأذهب حالاً. قل لي أين!”
“آنسة نينا.”
أعاد لويس قلمه إلى الحامل ببطء متعمد، حتى بدا فعله استفزازياً. عضّت نينا شفتيها.
كيف يتعاملان مع شظايا روحٍ فاسدة… وحدهما؟
‘كان يجب أن ترافقهما فيونا على الأقل.’
“أليس من الأفضل اصطحاب الآنسة فيونا؟”
“إن كان في المنطقة خطر، فسيقومان أولاً بتطهيرها ثم يصطحبان الآنسة فيونا.”
“ولماذا يتكفلان بالخطر وحدهما؟ تعلم جيداً كم هو مرعب البيلاك ذوو الهيئة البشرية!”
“آنسة نينا، اجلسي. سأُحضِر لكِ كوب شاي.”
“ليس وقت الش—”
كانت على وشك الانفجار، لكن صوتها انقطع فجأة.
وبَردت الحرارة التي كانت تغلي في صدرها كأن دلواً من الماء المثلج سُكب عليها.
تمتمت بصوت مكسور، كمن تلقى طعنة خيانة.
“لقد استبعداني عمداً…”
التعليقات لهذا الفصل "175"