أهو يتوهم؟
أم أنّ تغيّراً خفيفاً طرأ على قلب نينا؟
لم يعرف.
ورغم التعب الذي يثقل جسده، ظلّت الأفكار تدور برأسه كدوامة، تمنع النوم عنه.
نهض أخيراً من السرير.
جلس إلى مكتبه، وسحب الأوراق. إن لم يأتِه النوم… فليعمل.
فتح أدريان الدرج فوقع بصره على تاج صغير.
كان بالحجم المناسب تماماً لقطعة شطرنج بالحجم الكامل. التقطه، واقترب من رقعة الشطرنج.
كانت الرقعة أشبه بساحة حرب سوداء وبيضاء؛ القطع مبعثرة في مواقع مضطربة.
وضع التاج على رأس الملكة السوداء، فاستقرّ عليها بدقة.
دارت الرقعة بين يديه؛ انزلقت بسلاسة، تتلوى دوائر لامعة تحت الضوء.
ظل يحدّق فيها طويلاً، ثم عاد إلى مكتبه.
***
“أنتِ حيوية على غير العادة مؤخراً.”
حوّلت نينا نظرها إلى جان الذي كان يراقبها.
كانت فيونا لا تزال نائمة، وقبل انبثاق الفجر كانت نينا تحرص على ألا تهمل تدريبها، ولو لدقائق.
واليوم انضم جان إليها في هذا التدريب النادر.
لم يكن لدى أحد خبرة كافية في المبارزة باستخدام الأرواح سوى نينا وأدريان، لذلك لم يكن أمامه كثير من الخيارات.
وفي هذا الوقت من الليل، كان مقرّ التدريب الصغير في منزل البلدة ساكناً تماماً؛
فالفرسان، وحتى الخادمات، جميعهم غارقون في النوم.
وكان واضحاً على أفراد فرسان الظلام أنهم يتململون، ويتمنون العودة إلى مقرهم في قصر البحيرة الفضية، لكن طالما لم تنتهِ خطة “الفتاة ذات القوى الغامضة”، فلا مجال للنزول.
“أنا دائماً حيوية.”
“لا يشبه هذا من كانت تبكي قبل أيام بسبب كابوس.”
اتسعت عينا نينا، ثم ضحكت.
ارتاح قلب جان؛ قدرتها على الضحك من ذكرى ذلك اليوم دليل على أنّ الأمر حُلّ.
أدار رمحه الملوّن بلون البحر، متلألئاً تحت الضوء كالمدّ الهادئ.
حين تعاقدَ مع الروح، أصيب الفرسان بالذهول.
“كيف فعلت ذلك؟!”
“علمنا السر، نائب القائدة!”
اكتفى جان بهز كتفيه.
“حدث ذلك… صدفة؟”
فصاحوا جميعاً.
“هذا غير معقول!”
قد تبدو القائدة قوية بشكل لا يضاهى، لكن نائبها كان بالتأكيد مختلفًا.
القائدة يصعب اللحاق بها، فهي هادئة حين تبتسم، ولا توبّخهم إلا نادراً، لكنهم يخافون منها خوفاً يجعل رؤوسهم ترتجف.
أما نائب القائدة—جان— فهو فظّ اللسان، حادّ النظرات،
يضربهم أحياناً، لكنه على الأقل لا يجعلهم يشعرون بأنهم سيموتون من ضربة واحدة.
وكان بين الفرسان من سأل بجدية، فأجابه جان بالجدية نفسها.
وهي تراقب دوران رمحه، قالت نينا.
“كنت محقاً يا جان.”
“أنا دائماً محق. ولكن… في ماذا هذه المرة؟”
نظرت إليه مبتسمة.
“أن أدريان لن يؤذيني.”
“هذا يراه أي أحد يملك عينين.”
“هؤلاء لا يعرفون ما بيني وبين أدريان.”
حكّ جان رأسه وقال.
“إذاً؟ هل وصلتِ إلى جوابك؟”
“نعم.”
قالتها بنوع من الخجل الخفيف.
ثم أضافت.
“لكن لا أعرف ماذا أفعل.”
“ما الذي لا تعرفينه؟”
“تلك المحادثة مع أدريان… انتهت بلا نتيجة. لا أعرف كيف أتابعها من جديد.”
زفر جان طويلاً.
“الصراحة هي ميزتك يا نينا. اذهبي إليه، تحدثي معه، ثم… تواعدا، وتزوجا إذا لزم الأمر.”
قفزت نينا غاضبة.
“جان راكا!”
“ماذا؟ ما المشكلة؟”
“ألا تظن أنك تتجاوز الحد؟”
“تجاوز ماذا؟ إن لم تتحملا بعضكما، فمن سيتحمل من؟ لا تجرّي غيركما إلى المتاعب.”
هز رأسه رافضاً، فأعلنت نينا باحتجاج طفولي.
“لديّ قلب رقيق أيضاً، للمعلومية!”
“طبعاً. وبذلك القلب الرقيق… اذهبي وأنهي الأمر بسرعة.”
قالها بلهجة منزعجة، فوضعت نينا يديها على خصرها بتحدٍّ.
كان الأمر مضحكًا.
لكن حين سحبت سيف التدريب، زال الضحك.
“يبدو أننا بحاجة لجولة أخرى من المبارزة.”
“لا مانع لدي.”
“لا، لابد من جولة.”
“مهلاً! لا تلوّحي بالسيف بلا إشارة!”
“لا بأس، لا بأس. تدريب كأنه معركة حقيقية، أليس كذلك؟”
“حقاً…”
ورغم الكلمات المتبادلة، تناغمت حركاتهما بسلاسة.
تجنّبت نينا هجوم جان السريع وقد بات أكثر مهارة باستخدام الروح.
وكما في كل مرة، فازت نينا، لكنّ النتيجة لم تكن ساحقة كما في السابق.
التعليقات لهذا الفصل "173"