بل أوسعت الرجال ضرباً ضربة بعد ضربة، حتى صار حال كلٍّ منهم يُدرَك كما يُدرَك المطرُ الهاطل من دون النظر إلى السماء.
عظام مكسورة في مواضع عدّة، ومفاصل منزاحة؛ ولن ينهض أحدهم سيراً على قدميه بسهولة بعد اليوم.
تمتمت نينا وهي تنفض عن مفاصل قبضتها الدم المتخثر.
“يا للعجب… تبسط السيدة فيونا رحمتها حتى على هذه الحثالة. ما أوسع رقتها.”
واتخذ وجه فيونا تعبيراً غريباً.
‘أهذه رحمة حقاً؟’
وبينما أعادت التفكير في معنى ‘الرحمة’، جرّت نينا أولئك الرجال واحداً تلو الآخر، ثم رمتهم كأكياس بالية في ركن بعيد.
“حسناً… إذا أفاق أحدكم فليصطف في الدور ويأتي ليأخذ دواءه.”
خاطبتهم هكذا، وهم ممددون في غيبوبة الألم، ثم رجعت إلى داخل الخيمة.
“اصطفّوا من جديد.”
وبمجرد أن صدح صوتها المفعم بالمرح، اصطفّ الناس بوجوه أبهى مما كانت قبل قليل.
اقترب بعضهم بنبرة ناصحة جادّة.
“سيذهبون الآن، لكنهم سيعودون مع رجالهم. يحسن بكم أن تتوخّوا الحذر.”
لوّحت نينا بيدها.
“لا تقلقوا. أنا سأتولى أمرهم جميعاً.”
“نعرف أنّ الآنسة نانا قوية… لكن…”
تردّد بعضهم، وهزّ آخرون رؤوسهم.
ومع ذلك، بدأ أناسٌ يتقدّمون طوعاً للمساعدة.
من ينظّم الصفوف، و من يعقم الضمادات، ويطحن الأعشاب، ويُركّب الأدوية.
وبادر آخرون إلى نصب خيمة لمن لا يقوى على الحركة.
وتزايد عدد المتطوّعين يوماً بعد آخر.
كانت فيونا، التي عليها أن تستقبل المرضى كل يوم، ترهقها الأعباء. كان مئزرها يتلطّخ على الدوام ببقع لا تجفّ.
لكن وجهها بقي مشرقاً.
“لم يعد يراودني أي شرود.”
قالت هذا وهي تحتسي الشاي الذي أعدّته نينا لها خلال استراحة قصيرة.
“ويسعدني أنّ ما نفعله ينفع الجميع. لم يخطر لي يوماً أن تكون قواي نافعة بهذا الشكل.”
نظرت إلى الفنجان، ثم إلى نينا.
“هذا كله بفضلكِ، نانا.”
“وأي فضلٍ لي؟ أنت من تقومين بكل شيء يا سيدتي فيونا.”
“لا، حقاً… بفضلك.”
وضعت الكوب، ونهضت فجأة.
“لنعد إلى العمل؟”
“نعم، هيا.”
ابتسمت نينا على اتساع.
وفي تلك الأثناء أخذت شائعات جاك تتسرّب بهدوء بين الناس.
“تقولون إنها من ميتم المعبد؟”
“خرجت بسبب نزاع ما هناك، ثم قصدت دوق لوفرين بسبب ذلك.”
“هاه… دوق لوفرين؟ ولماذا؟”
“لأن الدوق أغنى رجل في الإمبراطورية طبعاً. ويُقال إنها توسّلت إليه ليُعين المصابين.”
“يا للدهشة…”
“ولهذا تبرّع سموه بكل الخيام والمؤن. السيدة فيونا لا تملك مالاً، وكل هذا من جيب الدوق نفسه.”
“مذهل… لم نظنّ أن أصحاب المراتب العليا يلتفتون إلينا. خصوصاً في هذه الأحداث…”
“حتى قديسة المعبد تعالج النبلاء وحدهم. يا للعار.”
“نعم… وكلما زارت أحد النبلاء خرجت محمّلة بالهدايا.”
“ياللجشع.”
“تمهّلوا… إن كان دوق لوفرين يساعد السيدة فيونا…”
“قلت لكم هذا.”
“فماذا عن حارستها… الآنسة نانا؟”
وعند هذا السؤال اتخذت الوجوه جميعاً النظرة ذاتها.
لقد راودهم جميعاً ذات الظنّ، لكن أحداً لم يجرؤ على النطق به.
أشار أحدهم بيده سريعاً.
“إلى هنا لنتوقف فقط. الآنسة نانا هي الآنسة نانا.”
“صحيح!”
واتفقوا، صامتين، أن يكون الأمر سراً بينهم.
فالصقر الفضيّ، ملكة الأرواح، وسيّدة السيف نينا… تلك الشخصية بعيدة، بعيدة جداً عن عالمهم.
أما ‘الآنسة نانا’، فهي الإنسانة التي أحبّوها جميعاً.
طيبة القلب، عفوية، محط إعجاب الجميع.
ولو انكشف سرّها، ربما تختفي من حياتهم كما تختفي الجنيات حين يُكشف أمرها في الحكايات.
وكم من قصة ينتهي فيها فضل جنّية برحيلها؟
لذلك تجنّبوا الحديث عن الآنسة نانا، وعادوا إلى حديث ‘السيدة فيونا’.
ثم قال أحدهم، وهو يلتفت حوله، بصوت خفيض.
“لكن… هناك أمر آخر…”
“يُقال إن السيدة فيونا تُداوي الجراح الملوّثة بفساد بيلّاك… أهو حقّ؟”
“أوهه! لا تذكر ذلك، لا تذكره.”
“لكن، إن صحّ الأمر… فهي، السيدة فيونا، تكون…”
أومأ بعينيه إلى الأعلى بخفوت، وبدت على الوجوه من حوله علامات الموافقة الخفيّة.
إنها خلاص أرسل من الإله.
غير أنّ فيونا طلبت منهم كتمان الأمر، فلا يستطيعون التصريح به علناً. وعلى الرغم من ذلك، كانت الشائعات قد انتشرت في كل اتجاه.
وبفضل الحكايات الدائرة عن الآنسة نانا، لم يجرؤ أي أوغاد على الاقتراب بعد الآن.
وبعض المتحمّسين ممّن تجرؤوا على الاصطدام بنينا، وجدت نفسها تتعامل معهم بخفّة تجعلهم في النهاية يقفون في طابور العيادة.
أصبحت تلك المناوشات مجرّد تسلية يتابعها الناس بابتسامة.
أما السيدة فيونا، الجميلة دوماً، فقد غدت موضع توقير من نوع آخر.
ترددت همسات عديدة تشبّهها بـ “الروح العظمى” التي تظهر في القصص الخرافية، تلك الكائنات المهيبة الموصوفة عادة بجمال أخّاذ، وبثلاث أو ستّ أزواج من الأجنحة.
وعندما يحلّ الليل وتصرّ فيونا على النوم داخل الخيمة، كانت نينا تعيدها معها كل مرة.
والناس بدورهم كانوا يلحّون على عودتها، خشية عليها من الأخطار. وما إن يطلع الفجر حتى تعود فيونا، وتفتح الخيمة من جديد.
هناك، كانت نينا قد أنهكها التعب تماماً.
“جائعة.”
فُتح طبق الطعام المعدّ خصيصاً لها عند عودتها في ساعة متأخرة من الليل.
على خلاف فيونا التي تسقط نائمة حالما تغتسل، كانت نينا مضطرة لتعويض طاقتها.
لكن في حيّ يقطنه الفقراء، لم تستطع أن تُظهر كمّ الطعام الهائل الذي تحتاجه، فكان سدّ الجوع ببضع قطع من الخبز يومها أمراً شاقاً.
“يبدو أنك نحفتِ.”
ارتسم القلق على وجه أدريان وهو يتأملها. ولو سمعت كيريل ذلك لقالت فوراً “لا تكن سخيفا”.
لكن في عيني أدريان، بدت نينا هزيلة بالفعل. جعلها ذلك تضحك، وهي تتناول الدجاج المشوي الذي أعدّه الطاهي لوجبتها الليلية.
“لم أنحف. ربما لأنني آكل ليلاً، صار جسمي يثقل قليلاً. ثم… إن جعتُ لا أستطيع النوم.”
وضعت عظم الدجاج المجرّد من اللحم في صحنٍ فضي، ومسحت يديها.
“كيف حال الشوارع؟”
كان يتلقى التقارير، لكنه أراد سماع رأيها مباشرة منها.
أمالت نينا رأسها إلى الجانب، وأرجعت الكرسي حتى صار يستند على قائمتيه الخلفيتين فقط، وضعاً خطيراً لم يُعره أيّ منهما اهتماماً. ثم ضمّت ساقيها فوق المقعد المرتفع.
“يبدو أن الاضطرابات تهدأ، لكن التذمّر يتراكم. هناك قلق من حاجز العاصمة… وقلق من “القديسة” أيضاً.”
ابتسمتْ له.
“وفكّرتُ بشيء.”
“ما هو؟”
“لو أن أدريان لم يكن دوقاً.”
انتظرها بصمت.
“فماذا كنّا سنفعل؟ نظل معاً، بالتأكيد… لكن ربما كنّا سنعيش بحرّية أكبر قليلاً. ثم…”
نظرت إليه نظرة غائرة، كأنها تتأمل أعماقه نفسها.
“أظن أننا كنّا سنكون سعداء… أينما كنّا، وأيًّا كان ما نفعل.”
عجز عن الجواب لحظة، ثم نطق ببطء.
“أكان الأفضل لو لم أكن دوقاً؟”
“لا. ليس هذا ما أعنيه. الأمور جميلة الآن أيضاً. لستُ أقارن بينهما.”
شدّت ربطة العنق السوداء عند عنقها.
“أحبّ الزيّ الرسمي، وأحبّ قصر الدوقية، البحيرة الفضية… وأعشق هذا القصر الجميل كذلك.”
ثم عقدت حاجبيها.
“لكنك تعرف أن هذا ليس جوهر الأمر. ما أعنيه هو…”
— أننها سعيدة، معك، في أي مكان، وتحت أيّ ظرف… ما دمنا معاً.
ابتسم ابتسامة صغيرة.
“أعرف.”
يعرف، لكنه كان يريد سماعها تقولها.
أخرجت نينا صوتاً خفيفاً يوحي بالضجر، وأسندت ذقنها إلى يدها.
” الشائعات تنتشر بدقّة كما خططنا. إذا استمر الأمر هكذا، سننتقل إلى المرحلة الثانية قريباً.”
أومأ.
“أعرف. حتى بين النبلاء وصلت الأخبار.”
“إذن سيكون الأمر قريباً جداً.”
تمتمت بذلك، ثم رفعت رأسها فجأة.
“أدريان… ألا يجدر أن نضمن أحدهم في جانبنا من داخل المعبد؟”
كان الهرم الطبقي للمعبد بسيطاً.
كاهن… كاهن أكبر … رئيس الكهنة.
أما كبار الكهنة السبعة، فكلٌّ منهم يشرف على معبد منفصل في منطقة مختلفة.
“لو ضمَمْنا واحداً منهم فقط، لكان الأمر ممتازاً.”
“أبحث الآن بالفعل. إن وُجد كاهن كبير مناسب، فسيكون أفضل خيار.”
فالمعبد لا يمكن هدمه، ولا يرغبون بذلك أصلاً.
“بما أنّه رجل دين… لست متأكدة كيف نكسبه.”
تمتمت بهذه الكلمات، ونهضت من مكانها واقتربت من أدريان حتى صارت شديدة القرب منه.
التعليقات لهذا الفصل "172"