الفصل 168
وقفت نينا من مجلسها وأدّت تحيّة مقابلة، واضعةً يدها على صدرها ومنحنية بقدرٍ مهذّب، ثم وجّهت سؤالها.
“كيف دخلتِ إلى هنا؟”
ارتسمت على شفتي جنية الورود، ألكا، ابتسامة مشرقة.
“لا مكان أعجز عن الوصول إليه.”
“لكن… الفرسان يحرسون المداخل الآن…”
رفعت ألكا يديها وهزّتهما كأنهما تلمعان. في اللحظة التالية، تطايرت حولهما آلاف بتلات الورود، ورائحة الورد الثقيلة تكاد تُسكر. تلألأت عينا ألكا بخفة.
“لا أحد يقدر على عصيان كلمتي. فأنا جنية، ألا تعلمين؟”
واو…
حاولت نينا تثبيت خصلات شعرها التي تتطاير في الإعصار الوردي.
“ أظن أن الأمر لا يؤثر فيّ كثيراً.”
“طبعاً؟ فأنتِ متعاقدة مع الأرواح. ومن الصعب أن تعمل حيل الجنيات على من يماثلك. ثم إنّ السيدة نينا —”
“إن لم تتوقفي سأقطعك.”
“يا للعجب؟”
التفتت ألكا خلفها، فظهر بينزيل هناك. حاولت نينا التدخل، إلا أن بينزيل سبقها.
“يجب الاحتياط منها. تُلقي تنويمها على—”
ووششـش—
اختفت ألكا فجأة، متحوّلة إلى زوبعة من بتلات الورد.
‘ها؟’
اتّسعت عينا نينا، لكن ألكا ظهرت بخفة خلف بينزيل، وقد انبثقت من ظهرها أجنحة جنيّة براقة.
أجنحة؟
“يا إلهي، يا إلهي، كلب ضال هنا. تعالَ هنا يا صغيري، تشو تشو تشو—”
رفع بينزيل سيفه مغتاظاً، واندفع بضربة حادة، لكن ألكا تفادت الحركة بخفة ورقصة هواء.
“تحمل بركة الشمس أيضاً؟ مذهل، يبدو أن السير نينا لطيفةٌ معك أكثر مما ينبغي.”
قهقهت بخفّة وهي تقفز خطوتين، ثم تمسكت بجانب نينا كمن يلتمس الحماية.
“ابتعدي عنها!”
زمجر بينزيل وهو على وشك الاندفاع من جديد، فاختبأت ألكا خلف نينا وأخرجت لسانها في وجهه. “كيا~.”
رفعت نينا يدها، مهدّئةً الموقف.
“بينزيل، لا بأس. هذه السيدة ضيفتي.”
أنزل بينزيل سيفه ببطء، لكنه لم يخفض حذره.
وجهت نينا بسؤالها.
“كيف عرفتَ أنني هنا؟”
“ذلك …”
“كان يتجسس عليكِ.”
صدحت ألكا بالنبرة الغنائية نفسها التي تستفزّ أكثر مما تخبر. احمرّ وجه بينزيل حتى الأذنين.
“ليس… ليس تجسساً! كنت فقط… جئت لأنقل رسالة… ثم… رأيتكِ تستريحين…”
تناقصت كلماته تدريجياً، ومعها انحناء رأسه. ضحكت ألكا بخفة، مما جعل نينا تلتفت إليها.
كانت الأجنحة خلف ظهرها تلمع بوضوح. وما إن شعرت بنظرة نينا حتى اهتزّت أجنحتها بتفاخر، متناثراً معها غبار ضوئيّ بألوان الطيف.
“هل خَدَمِي جميعهم بخير؟”
أومأت ألكا بإيماءة جادّة، وقد اختفت من وجهها كلّ دلائل العبث. كان واضحاً بالفطرة أن هذا ليس وقت المزاح.
“نعم. لم يكونوا أعداء. ظنّوني فقط خادمة يعرفون وجهها.”
مع أن مظهرها، ولباسها، لا يدلّان على ذلك أبداً.
تأكّدت نينا عندها من أن قدرات ألكا مذهلة بالفعل.
“ثم إنني لم أدخل خلسة كما يظن الجميع.”
اهتزت ألكا بضيق مفاجئ، كمن يستنكر ظلماً، وهمست.
“لا يمكن الدخول دون أن أدوس على أي ظلال.”
“آه.”
هزّت نينا رأسها بلا وعي، بعد أن فهمت.
“إذاً، دعيني أعرّف نفسي رسمياً. ألكا ميرانتي. أصدقائي ينادونني ألكا، وأعدائي أيضاً ينادونني ألكا.”
أطلقت ابتسامة مستديرة كالهالة.
“لذلك~ ناديـني ألكا.”
“أنا نينا لا ديل، قائدة فرسان الظلام. ناديني نينا فقط. سمعت عنكِ من الدوقة.”
بدت التعابير على وجه ألكا راضية للغاية بلباقة نينا، فمدّت يدها بخفة شديدة كفتاة أرستقراطية مدلّلة.
تماسكت نينا عن الابتسام، وانحنت لتقبل ظهر يدها بتحية فارس، ثم أشارت لها بالجلوس.
في تلك اللحظة هرول جان بخطوات ثقيلة، وما إن وقعت عيناه على ألكا حتى انفغر فاه.
“من هذه المهرّجة؟”
“يا للفظاظة.”
أطلقت ألكا أنفها بازدراء خفيف، فتولى بينزيل التوضيح.
“هذه ألكا، جنية الورود… متعاقدة أرواح.”
“جنية… حقيقية؟ ظننت أن الأمر استعارة لا أكثر!”
بانت المفاجأة على وجه جان، فانفرجت ملامح ألكا بسعادة طفولية، وخفقت أجنحتها عمداً كي تُرى.
‘يا له من شخص سهل القراءة.’
هذا ما خطر في بال نينا.
التفتت نحو جان.
“وكيف علمتَ بوجودي هنا؟”
أشار جان بإصبعه إلى الأعلى.
“آه.”
كان أدريان. وبما أنّ جان كان يقف بدلاً من نينا مرافقاً لأدريان، فلا بدّ أنّه هرع إلى الأسفل ما إن أشار أدريان إلى وجود متسلّل.
كان الاثنان يفهمان بعضهما بلا حاجةٍ إلى كلام.
حدّقت ألكا في جان لحظة، واتّسعت عيناها.
“لم أسمع بوجود مستدعي أرواح آخر.”
انتفخت أكتاف جان افتخاراً، وارتسمت على شفتيه ابتسامة متباهية. فسألت نينا.
“كيف أدركتِ أنّ جان مستدعي أرواح؟”
“أراه ببساطة.”
أشارت ألكا إلى عينيها مبتسمة، وفي تلك اللحظة تساءلت نينا إن كانت تملك عينين حادّتين كلويس، عينين ‘ترى أكثر مما يجب’.
لكنّها سرعان ما أدركت، فشهقت.
“لم يخطر ذلك ببالي قط.”
“يا للعجب، أصبتِ الحقيقة من أوّل محاولة. حقاً مَن اكتسب قوة الروح العُظمى ليس كغيره.”
“ما الأمر؟ ما الذي ترون؟”
تقدّم جان خطوةً وهو يسأل، محاولاً إخفاء توتّره، لكنّ حذَرَه من ألكا كان واضحاً.
شرحت نينا.
“نحن نستعير قُوى الأرواح لاستخدامها… أما هذه السيّدة فقد استخدمت تلك القوّة لتتحوّل إلى… لنِقُل… هيئة الجنية.”
أكان ينبغي القول إنها اندمجت بالروح؟ لم يخطر ببال نينا قط أنّه يمكن استعارة القوّة على هذا النحو.
فتاة تتحوّل بالروح؟ لا، جنية تتحوّل بقوّة الروح…
وهكذا، فمظهر ألكا الحالي ليس بالضرورة مظهرها الأصلي، بل صورتها بعد التحوّل.
التفتت نينا نحو بينزيل.
“أه… بينزيل، أعذرني ولكن—”
“سأُحضر الشاي.”
ثم غادر بينزيل المكان.
‘يبدو محبطًا، أن يتولّى بينزيل مهمة الشاي؟’
شعرت نينا بالحرج، لكنها لم تستطع طلب خادم في حضور ألكا، فقررت الاعتذار له لاحقاً.
دفع جان الكرسي الوحيد المتبقّي لتجلس نينا، وبقي هو واقفاً خلفها.
مدّت ألكا يدها نحو الشاي، فانبعثت منه رائحة وردية عذبة.
“سمعتِ قصتي من دوقة برينان، أليس كذلك؟”
“ليس بالتفصيل. قالت فقط إنها سترسل الآنسة ألكا.”
“هكذا إذن. في الحقيقة، ليست هناك قصة طويلة لأرويها… لكن المؤكّد أنّ الطائفة عدوتُنا.”
أومأت نينا. فتذمّرت ألكا.
“أنا لا أرغب في الموت مرّتين. لذا ينبغي أن نتحرّك بجدّية. ثم… كنتُ أتوق جداً للقائكِ يا سيدة نينا.”
“لقائي أنا؟”
“نعم.”
ابتسمت ألكا، ثم تناولت إحدى قطع البسكويت وبدأت تُقيمها واقفةً في صف.
“دعامة الطائفة هم الحراس، يسمّون أنفسهم حرّاس الخراب. فوقهم جميعاً يوجد الزعيم، لكن ذلك حديث آخر. المهم…”
كلمة الحراس تعني من يحافظون، فأن يسمّوا أنفسهم ‘حراس الخراب’ لهو اسم يوافق فسادهم تماماً.
وقف أحد البسكويتات وبدأ يقفز قفزات صغيرة حتى استقرّ.
لم تتوقّف دهشة نينا أمام هذا الاستخدام الغريب لقوة الأرواح.
“كانوا أربعة في الأصل. أربعة حراس. لكن البارون فيردين أُقصي. وجوده من عدمه سيّان، لم يكن ذا قيمة.”
قفزت قطعة البسكويت المغطاة بالشوكولاتة مباشرة إلى فم ألكا، بينما واصل الباقون قفزهم.
شعرت نينا أنّ الموضوع انقلب فجأة إلى صلب الحديث.
سريع… سريع جداً.
‘هذا مريح من جهة، لكنه مربك أيضاً.’
وألكا واصلت الشرح بلا توقف.
“الثلاثة الباقون ليسوا عاديين. القبض عليهم يتطلّب جهداً ضخماً. لكن من دونهم لن يتحرّك هذا العالم نحو الدمار.”
ثم بدأت تلتهم قطع البسكويت الراقصة واحدةً تلو الأخرى.
“أول ما ينبغي علينا فعله هو العثور على هؤلاء الثلاثة. هل تستطيعين ذلك؟”
“ممم…”
أغمضت نينا عينيها مفكّرة.
طلب ذلك من جاك مغامرة خطرة…
والناس في العاصمة يحاصرون الطائفة الآن بكل طاقتهم، ربما يمكن العثور على خيط هناك.
“سنبذل أقصى ما نستطيع.”
عندها رمقتها ألكا بنظرة مستغربة.
“لكنّكِ يا سيدة نينا حاملة بركة الروح الكُبرى—”
“أحضرتُ الشاي.”
قطعت جملةَ ألكا كلماتُ بينزيل، فعبست قليلاً ثم وضعت أصابعها على شفتيها.
“آه… لا بدّ أن هذا من الأمور التي لا ينبغي التصريح بها.”
همهمت لنفسها، ثم التفتت إلى بينزيل.
“أما زلتَ هنا؟ لم تعد إلى مكانك؟”
ارتجف بينزيل تحت نظرتها. فحرّكت ساقيها ذهاباً وإياباً بخفة وهي تتابع.
“ألن يقلقوا عليك؟ اختفيت فجأة. لا تملك الجرأة لتشهد ضد سيّدك، لكن تملك الجرأة لتتعرّض للتجارب؟”
شحبت ملامح بينزيل، فضحكت ألكا بخفة ونهضت.
“جئت اليوم لألقي التحية فقط، فلا داعي للشاي.”
“تحية…”
تمتمت نينا. أكان ما دار بينهما قبل قليل مجرّد تحية،
إن كان هذا مجرد الترحيب… فكيف ستكون أحاديثها حين تبدأ حقاً؟
وقبل أن تسترسل نينا في التفكير، ابتسمت ألكا ابتسامة مشرقة.
“أرجو أن نلتقي رسمياً في المرة القادمة. ثورة موفّقة… نحن في هذا معاً.”
التعليقات لهذا الفصل "168"