استحضرت نينا صورة أدريان. شيء ما تغير في علاقتها به. وكان هذا التغيّر مخيفاً.
لكن…
انتظر راندل، بنظارته، تفكيرَها الهادئ بصبرٍ مريح.
“خفتُ لأنني شعرتُ أن تغيّراً قادماً. وإن حدث التغيّر… ستنهار العلاقة المستقرّة التي بيننا الآن.”
“همم، ثم؟”
“الوضع الآن مريح… وجميل. لكن إن تغيّر… ألم يبدو مخيفاً؟”
“مخيف؟”
“ربما، أدقّ لو قلتُ إنه مقلق. أعلم أن الحجارة تحت قدمي الآن ثابتة. لكن، ماذا لو كانت الحجرة التالية مهتزّة؟”
وما إن نطقت بذلك حتى شعرت بأنها أخيراً بدأت تفهم سبب قلقها. لذلك ابتسمت.
نعم… كانت تخشى ذلك.
إن تغيّرت علاقتها بأدريان، فستضطر لترك كل ما كان مستقراً وبناء شيء جديد تماماً.
وفي ‘ذلك’ النوع من العلاقات، كان القلق رفيقاً دائماً.
“ربما، أردتُ أن أبتعد قليلاً. أن أهرب من التغيّر.”
همست نينا بذلك، فراح راندل يتأملها في صمت.
عيناها الذهبيّتان لمعَتا.
عينان باركتهما من روح الشمس؛ تبدوان ذهباً عادياً من بعيد، لكن من قرب، لا.
دوّامات من نور، كأنّ الداخل يغلي، وكأنّ توهّج الشمس ينبثق لحظة بعد أخرى.
عينا شمس حقاً.
“إذن، هل وصلتِ إلى الجواب؟”
عندما تلفّظ بسؤاله، ارتسم على شفتيها ميلٌ من ابتسامة.
“أدركتُ أنني لم أكن بحاجة إلى القلق أساساً.”
وخالج راندل شعورٌ غريب بخيبة لم يستطع كبتها.
صحيح أن زوال قلقها أمرٌ حسن… وباعث على الفرح…
إلا أنّ في حلقه مذاقاً مراً.
كانت نينا قد أدركت ذلك بنفسها. فهمت.
لم يكن هناك داعٍ للقلق.
‘حتى في الحلم كان الأمر كذلك. كنتُ أقول لنفسي إنه يحبّني، ومع ذلك شعرتُ بعدم الأمان. لذلك بكيت. تألمت. وحتى بعد استيقاظي بقي ذلك الشعور.’
بينهما، كصديقين… كشخصين مميّزين لبعضهما… كانت علاقتها بأدريان كاملة.
ظنّت أنها لا تستطيع أن ترجو أكثر من هذا.
‘وإن تجاوزنا هذا الحدّ ربما يتعثر كل شيء. وربما أضطر لترك هذه الأرض الصلبة.’
لكن اتّضح أن الأمر لم يكن كذلك.
عندما احتضنها أدريان أولاً، فهمت. لن يؤذيها أبداً. وسيلقي كل شيء جانباً من أجلها.
التغيّر لم يكن انهياراً… بل باباً جديداً يُفتح.
وخلفه، لم يكن هناك قلق… بل نشوة علاقة جديدة، ومتعة اكتشافها.
ثم…
ظنّت أنها بلغت أقصى ما يمكن أن تبلغه علاقتهما. لكن ربما… لم يكن ذلك صحيحاً.
فها هو التوق يتسرّب إلى قلبها.
وبينما كان راندل يراقب ترتيبها لأفكارها، أطلق زفرة ثقيلة. رفعت نينا رأسها نحوه.
“نينا.”
“نعم؟”
ألقى ببصره على البندول. النجم الكبير في المركز يدور، مشرِقاً بضوئه.
“لن أصبح جزءاً من حياتك اليومية.”
شهقت نينا بخفوت. ارتسمت على ملامحه ابتسامة باهتة.
“لن أكون شمسكِ أو قمركِ. لكنني أيضاً لن أكون أحد النجوم الكثيرة.”
لا يستطيع أن يكون الشمس التي تشرق وتغرب يومياً. ذلك ليس مكانه.
إذن أين يجب أن يكون؟
أين تكمن مكانته؟
اجتاحتْه موجة مفاجئة من الوحشة.
ترك الجزيرة، وترك الرفاق، وتحرّر من كل ما كان يقيده… أصبحت حريته كاملة.
لكن… هل الحرية تصحب معها الوحدة دائماً؟
هل سيظل بلا مكان خاص؟
غرق راندل في تفكيره. وعند رؤية ملامحه، أخذت نينا بدورها تفكّر.
هل يقصد أنه لا يحب رؤية الشمس والقمر والنجوم يومياً؟ لكن… لو اختفت تماماً، ألن يكون ذلك محزنّا؟
آه…
“إذن، كنْ يوميّاً غير يوميّ. كنْ عادياً بشكل استثنائي.”
قالتها نينا بلا تمهيد.
فتح راندل بصره نحوها، فنهضت من مكانها، ومدّت أصابعها.
وانبثق منها بصيص ضوء صغير.
قذف النور نفسه فوق كرة السماء، ودارت حولها دورة واسعة مذهلة.
اتّسعت عينا راندل.
حدّق في ذاك الضوء الصغير الذي يرسم مداراً هائلاً بسرعة مدهشة.
يبدو كأنه يختفي في البعيد، ثم ينجذب فجأة نحو النجم المركزي، يمرّ بمحاذاته حتى يكاد يصطدم به… ثم يعود ليفلت من جديد.
“…ألا يمكن…؟”
تمتمت نينا بتردّد، فالتفت إليها.
كان وجهها كافيا ليدرك ما تفكر به. كان يبدو وكأنها تفكّر. “هل طلبتُ منه أمراً يحرجه؟”
ارتسمت ابتسامة على فم راندل.
ضحك بصوت مرتفع، ثم جذب ذراعها نحوه بخفة. اقتربت نينا منه وتنظر إليه من أعلى. نزع راندل نظارته ووضعها جانباً.
“صحيح. هذا سيكون مناسباً.”
شِهابٌ استثنائيّ، يثير فضول كل من يراه، لكنه في الحقيقة جزءٌ من دورة ثابتة… حدثٌ غير يوميّ، ولكنه يعود بأوقاته المنتظمة.
نظر راندل مباشرة إلى نينا.
“إن ضاقت بك الحياة، فأخبريني.”
إن مللتِ من شمسكِ، وأثقلتكِ أشعتها، وإن فقدتِ متعتكِ بسماءٍ تتناثر فيها نجوم لا تُحصى…
“سآخذك حينها إلى اللامألوف. سأخطفك نحو مكانٍ لم تطأه قدماكِ قط، إلى أقصى أطراف هذا العالم.”
عبر مسارات النجوم كلها، إلى الموضع الذي لا تبلغه أشعة الشمس.
سأبقى دائماً إسثنائِيكِ.
طبع قبلةً خفيفة على ظهر يدها. احمرّ وجه نينا، ومسّت خدّيها بحرج. وبرغم حدّته المعتادة، شعرت بفرح خافت لأنه قبل اقتراحها.
“لو ظل راندل هكذا، لاكتسب المزيد من الأصدقاء.”
“لا حاجة لي بالكثير.”
“لا تقل ذلك.”
“لا أحد مثلكِ.”
قطّبت نينا جبينها. أجل، صحيح أنها تفهم حدّته وتتحمّلها، وربما امتلكت موهبة في ذلك بطريقتها الخاصة… لكن أن تكون البداية والنهاية معاً؟ هذا غير معقول.
“عليك أن تلتقي بأناس مختلف–”
ضغط راندل بأصابعه المضمومة على شفتيها برفق.
“ثرثرة.”
اتسعت عيناها استنكاراً. كانت تحاول مساعدته، فكيف يصبح هذا ثرثرة؟
“أنا…”
توقّف راندل، فسحبت نينا يده وسألته.
“ما الأمر؟”
“نينا لا ديل.”
عندما ناداها هكذا، ارتسمت على وجهها ملامح الضيق. انفجر هو بضحكة قصيرة، وانحنى ليلتقط نظارته. مدّها إليها، فأعادتها إلى موضعها فوق عينيه.
أثمن ما في حياته، وأثمن شخص.
وجودكِ يكفيني.
راقب ملامحها المرتبكة مليّاً، ثم همس.
“لن أخبركِ بأكثر من هذا.”
***
كانت الشمس حارّة، لكن حدّة الحر قد انكسرت.
مع اقتراب الخريف، كان من المفترض أن يكون دوق لوفرين قد عاد إلى قصر البحيرة الفضية، غير أنه بقي في القصر داخل العاصمة.
ومع تراجع حرّ الصيف، استعادت نينا نشاطها. شعرها الذي قصته أصبح يصل إلى عظم الكتف، وإن أنزلته على شكل ضفيرتين من الجانبين التفّ طرفاه إلى الداخل في قوس لطيف.
وفي تلك الفترة، تم التبادل بين فرسان قصر العاصمة والقصر الرئيسي كتناوب لمراعاة ارهاقهم.
وبفضل تحرّك شارلوت، والأدلّة التي عاد بها باراديف، تمكن الجانبان فيارينتيل وباراديف من تقوية خطتهما للإيقاع بالطائفة.
عُثر في منزل البارون على أدلّة كثيرة، فقبضوا على أفراد الطائفة، وداهموا المختبر.
“لكننا لم نعثر على الحرّاس الثلاثة الآخرين.”
كان باراديف قد وجد وقتاً قصيراً ليقول ذلك، وعلى وجهه ثقلٌ واضح.
ظاهرياً، كانوا يحققون نجاحات متتالية، لكنّ الرؤوس الحقيقية ما تزال طليقة.
وفي الوقت نفسه، كانت التحضيرات لظهور فيونا تسير بسلاسة. أما بينزل، وبعد أن استعاد عافيته تماماً، فكان يتعرض لوخزات متتالية من كيريل، من غير أن يفهم أحد إن كانت فحوصات طبيّة… أم شيئاً آخر تماماً.
وفي يوم لامع كحدّ السيف، جلست نينا على الشرفة تستمتع بالشاي. لحظة نادرة من الهدوء.
الشمس مصقولة كحدٍّ جديد يخرج من النار، والحرارة التي طالما كرهتها نينا باتت الآن كنزاً ذهبياً.
تمدّدت تحت الدفء كقطةٍ تتقلب في الشمس، حين شقّت خطى خفيفة الأدغال. خطوات رشيقة… كخطوات طفل.
وفي اللحظة ذاتها، نسمة وردٍ تعبق في الهواء.
التفتت نينا.
كانت فتاة صغيرة تقف بين أزهار الحديقة، ترتدي ثوباً فاخراً.
القبّعة مُثقَلة بطبقات من الدانتيل، وثوبها تتراكم طبقاته كوردة مقلوبة، لا يصل إلا إلى منتصف الساق.
التعليقات لهذا الفصل "167"