الفصل 163
فتحت نينا عينيها.
وسرعان ماأدركت أنها تتكأ على أدريان، في غفلة نصف ملتفة على جسده.
أغمضت جفنَيها ثانيةً، وأصغت إلى إحساس التلامس بينهما.
جسده صلب، دافئ، ثابت لا يتزعزع.
خفق قلبها خفقًا سريعًا، ليس حدّ الهرب، بل قدرًا يبعث الدغدغة والطمأنينة… شعورًا دافئًا صافياً.
ارتفع طرف شفتيها رغماً عنها. رغبت في الاقتراب أكثر.
مدّت ذراعيها لتضمه—ثم توقفت فجأة.
رفعت رأسها بحذر، فإذا بأدريان يحدّق فيها بعينين مفتوحتين.
“……”
“……”
وفيما العيون متشابكة، مدت نينا ذراعيها واحتضنته بقوة، تشبثت بجسده التصاقًا كاملاً.
تسللت ضحكة صغيرة من شفتيها بلا قصد، فضحكت أوسع، فتبدّل وجه أدريان بملامح أغرب.
“أدريان.”
ما إن نطقت، أدركت أنّ صوتها مُبحَح.
‘يا الهي.’
لم تعلم كم كانت مرهقة حقًا.
قطّب أدريان حاجبيه، ومدّ يده إلى المنضدة الصغيرة، وناولها الكأس.
فارقت حضنه مرغمة، وتناولت الشراب.
ما إن بلّل الماء حلقها المتشقق حتى شعرت بعودتها إلى الحياة.
لم تنتبه لعطشها إلا في تلك اللحظة.
حين فرغت الكأس، أعاد أدريان ملأها. شربت كأسين متتاليتين قبل أن ترتوي.
“كيف حال جسدكِ؟”
مدّ يده يمسح خصلاتها الأمامية المبعثرة بحذر.
“أتمنى لو أعطتني كيريل جرعة شفاء كاملة… غير ذلك، لا ألم شديد.”
جرح خاصرتها كان قد التأم غالبًا، وكذلك ذراعها المكسورة.
لن تستطيع الحركات العنيفة، لكنها قادرة على الحركة اليومية.
وإن بقي الألم الخفيف ينبعث من خلف الضلوع.
“كيريل نبهتكِ ألا تستخدمي الدواء بلا تهور.”
“صحيح.”
تنهدت تنهيدة عريضة، تتحسر على ذلك. أخذ أدريان الكأس من يدها ووضعه جانبًا.
وفي اللحظة التالية، ارتمت فوقه من جديد بلا تردد.
“نينا……”
تأوه، لكنها لم تعره اهتمامًا.
ضمته أكثر، ودفنت وجهها في صدره، وكتمت ضحكة صغيرة بين أنفاسها.
“أدريان.”
“نعم؟”
“هل يجوز… أن أكون سعيدة الآن؟”
رغم كل ما يحيطهما من مشاكل، ورغم احتمال أن يتهدّم العالم غدًا.
نظر إليها مطولًا، ثم رفع بصره إلى السقف، وعاد يحتضنها.
“ولِمَ لا؟”
‘كوني سعيدة.’
ارتجافة ضحكتها الصغيرة في حضنه وصلت إليه، فامتلأ هو الآخر بسعادة دافئة.
فليكن ما يكون—ما دامت نينا سعيدة، فهو راضٍ.
بعد أن ارتوت باللحظة، رفعت رأسها.
عيناه تنظران إليها بمودة…
لكن ثمة شيء آخر لم يكن هناك من قبل.
دفءٌ خافت، نار لطيفة في حدقتيه… و نينا تحبّه كما هو.
“هل نمتُ طوال اليوم؟”
“نعم.”
شهقت نينا، وانسلت مبتعدة عنه.
“أدريان، ألم تبقَ مستيقظًا بسببي؟”
“لا، نمت قليلًا أنا أيضًا.”
“حتى ثيابك تجعدت كلها.”
“لا بأس.”
كان قميصه وستره اللذان لا يعرفان التجعّد عادة، في فوضى تامة.
نفضهما بيده كأنه لا يأبه، ونهض.
“ارتاحي أكثر.”
“لا، لم أعد أرغب في النوم.”
نظر إليها بدهشة خفيفة.
“لماذا تبتسمين؟”
“هاه؟”
“منذ قليل وأنتِ تبتسمين.”
“حقًا؟” مسّت خدّيها براحتها.
“لا أعلم، يخرج مني الضحك هكذا.”
نهضت، واتجهت نحو الستائر، وفتحتها. شمس الظهيرة اخترقت عينيها بحدة.
“إنه منتصف النهار؟ لقد نمت طويلًا… لا عجب أنني أشعر بالانتعاش.”
قَرْقَر بطنها بصوت مسموع. أمسكت بطنها، ونظرت إلى أدريان بطرف العين.
“الطعام جاهز في قاعة الطعام. أو أستدعيه لكِ؟”
“لنذهب. و… لنتناول الطعام معًا.”
أومأ أدريان.
نظرت نينا إلى ملابسها وقالت منخفضة.
“سأغيّر ثيابي.”
ضحك أدريان بخفة.
***
دبّت الحركة في مطبخ القصر.
فالقول إن السيدة نينا جائعة يعني، في العادة، أنها قادرة على التهام ما يعادل عشرة أطباق كاملة وحدها؛ وهذا كافٍ لإشعال نيران الحماسة في نفس الطاهية.
وفوق ذلك، بما أنّ الدوق سيشاركها المائدة، كان لا بدّ من مضاعفة العناية بالنكهة.
ما أكثر المطاعم التي غادر منها دوق لوفرين بعد لقمة واحدة فقط،
وما أكثر من تحطمت سمعتها إثر ذلك.
ومادام الأمر يمسّ كبرياء الطاهية، فقد تحفّزت، وهتفت، ثم أمسكت المقلاة بنفسها بدل الاكتفاء بإدارة المطبخ.
رغم أنّ الوقت ظهيرة، انهمك الجميع كأنهم يُعدّون لوليمة ليلية كبيرة؛ وانطلقت الأطباق إلى الخارج تباعًا.
جاء أولها: حساء كثيف مُعطّر بعناية.
راقب الخادم سيده بوجه مشدود التوتر، وما إن تذوّق أدريان الملعقة الأولى ثم تابع الثانية، حتى تنفّس الخادم الصعداء وتراجع.
أمّا نينا فكانت ترفع الحساء إلى فمها بلا توقف.
“لذيذ!”
“كنتِ جائعة، وفوق ذلك بذلتِ الكثير من الجهد.”
فأجابت نينا وهي تواصل الأكل.
“لكن الأكل اللذيذ يظل لذيذًا.”
انتشر خبر تناوُلها الطعام في القاعة، فسار لويس وجان إلى هناك وجلسا بمحاذاتها على الطاولة الطويلة.
تأمل جان شعرها القصير وعضّ طرف لسانه.
“يجب أن نقصّ الجهة الأخرى أيضاً.”
“لا بأس. من حسن الحظ أن الشعر هو كل ما احترق.”
كانت تنهي الحساء كله حين توجّه أدريان إلى لويس بسؤال شغله طوال الليل.
“ما حال الآنسة فيونا؟”
تبدّلت ملامح لويس، وامتلأ وجه جان بإزعاج ظاهر.
سألت نينا في ارتباك.
“ما الأمر؟ لمَ هذه الوجوه؟”
وكان الخادم يرفع طبق الحساء الفارغ بسرعة زائدة كأنه لا يعرف هل الطبق التالي حاضر أم لا.
أفصح لويس أخيرًا.
“النتيجة نجاح. اختفت شظيّة سيد الأرواح الفاسد. غير أنّ ما يبدو هو أنّ صدامًا وقع بين راندِل والآنسة فيونا أثناء ذلك.”
علّق جان.
“أيّ صدام؟ من الواضح أنه هو من هاجمها. الآن طريحة الفراش، ورأسها معصوب.”
“ربما بسبب استنزافها الكثير من القوة.”
“أمتأكدٌ أنّ هذا كل ما حدث؟”
تقدم جان بشفتيه ساخطًا، بينما اكتفى لويس بالصمت وانتقل إلى المسألة التالية.
“السير بينزيل عاد أيضاً، وهو الآن في غرفة الضيوف. وتقول فيونا إنها أعادت له الجزء الذي لم يرجع من بيلاك.”
هزّ جان رأسه متعجبًا.
“عجيب… تلك الهزيلة كانت قديسة؟ قديسة حقيقية؟”
“بينزيل هنا؟ وبخير؟”
“أفضل من اللازم… مقارنةً بك.”
لم يجرؤ جان على الإفصاح عمّا دار في ذهنه من كلمات: بخير إلى حدٍ يثير الرغبة في كسر أحد أطرافه،
فمن أجل نينا، التي خاطرَت بحياتها لإنقاذه، لزم الصمت.
ابتسمت نينا ابتسامة خفيفة. “حسنًا إذن.”
جاء الطبق الثاني: مقبلات باردة، لفائف سلطة ملفوفة بعناية مع الصلصة.
وُضِعت أمام أدريان قطعتان فقط، بينما تراكمت اللفائف أمام نينا.
“يجب أن أزور فيونا أيضاً…”
تنهدت تنهيدة طويلة وبدأت تلتهم اللفائف واحدة تلو الأخرى؛ قرمشة منعشة تُوقظ الشهية.
واصل لويس.
“البارون فيردين الهارب أُلقي القبض عليه.”
أضاف جان، وقد أشرق وجهه.
“راجا وكيل هما من أمسكاه. انتشرت أخبار بطولتهما في كل مكان.”
أدهشت نينا نبرة الفخر من كلامه، فسألته.
“البارون فيردين؟ قبض عليه؟ ما الذي جرى؟”
“ألم تسمعي؟ آه… كنتِ مع راندِل في ذلك الوقت.”
وسرد جان ما حدث.
كان الرجل يفرّ مستعملًا شظيّة الروح الفاسدة، وكان الإمساك به بالغ الصعوبة، لكن تحت قيادة شارلوت تمكّنوا من محاصرته، فأمسكوا به.
“ولِمَ يتدخل فرساننا في ذلك؟”
ضيّقت نينا عينيها.
“لأن الجميع اتفق على التعاون لإسقاط أتباع الطائفة الفاسدة.”
أجابها أدريان وهو يحرّك السكين والشوكة برشاقة.
“وثار جدل كبير حول مَن يتولى القيادة.”
“وهل نحن في موقع أفضل الآن؟”
أجابها بإيماءة قصيرة.
“ثم ماذا عن البارون؟”
“لقد مات.”
حرّك جان رأسه نافيًا نجاته.
التعليقات لهذا الفصل "163"