الفصل 163
“أنا… لست أعرف تماماً.”
تمتمت نينا.
وما إن وقعت عيناها على وجوههم حتى انحلّ التوتر كله، وغطّى جسدها دفء طمأنينة باغتها من كل صوب.
أومأ لويس بإقرار.
“لا بد أنك استنزفت الكثير من قوتكِ. ارتاحي أولاً.”
“لا تتركوني هنا وحدي.”
لوّحت كيريل بلسانها بضيق على كلمات نينا.
“أأبدو كمن سيأكلكِ؟ هاه؟”
“غرفتي أريح… هذا كل ما في الأمر.”
“سأوصلكِ بنفسي.”
وبهذا رفعها أدريان بين ذراعيه، وهي ما تزال مرتدية ثوب المرضى.
كانت خفّة جسدها كفيلة بإزاحة قلبه عن موضعه، حتى بات كل احتضان لها يوقظ فيه قلقاً دفيناً.
فجسد أُعيد بفضل الأرواح؛ ولو خبت طاقتها، ولو عجزت عن استدعاء قواها، ألن تتلاشى… كما لو انفرطت إلى غبار؟
ذلك الهلع كان مقيماً فيه على الدوام.
قلقٌ لا علاقة له بقوتها، بل بجذرٍ أعمق لا يزول.
كانت المسافة بين غرفة العلاج وغرفتها طويلة، فراحت تتحرك بأصابع يديها وتنظر إليه.
وفي الظروف العادية لكانت تطوّق عنقه بذراعيها، لكنها تعرف جيّداً أنه سيصدّها هذه مرة.
ولهذا لم تعد تجرؤ على التصرّف بجرأة الماضي.
ولديها ما لا يُعدّ من الكلمات… لكنها لا تملك القدرة على البدء.
وضعها على السرير، ثم جذب الغطاء إليها بلطف.
ظلّ جالساً عند حافة الفراش يتأملها. أحد جانبي شعرها احترق حتى اضطروا لقصّه.
كان يصل إلى لوح كتفيها، نعم، لكن بالمقارنة مع الجانب الآخر بدا قصيراً حدّ الألم.
ابتسمت نينا بارتباك عند شعورها بنظراته.
“بما أن الأمر صار هكذا… أفأقصّه كله؟ أعود إلى الشعر القصير، كما كنت؟”
لوّحت بيدها قرب أذنها، غير أن أدريان لم يُبدِ تعليقاً. وصمتت هي أيضاً.
كان داخله يمور بصراع عنيف. لكن ما إن رفعت إليه تلك العينين المبللتين حتى رفع كفّيه مستسلماً.
استسلم بالكامل.
وهمس وهو ينظر في عينيها.
“كنتِ خائفة، أليس كذلك؟”
وفور سماعها تلك الجملة تفجّر الدمع من عينيها. وكان هو من مدّ ذراعيه أولاً، فاندفعت إليه مطمئنة كمن يلقي بثقله على ملاذ.
“أ… أدريان، أنا… أنا… كنت… أخشى… أن… أن أقتل… بينزيل… كنت خائفة جداً—”
قتلُ إنسان…
لا أحد يستمتع بذلك.
ومع ذلك، لم تتردد نينا يوماً حين يتعلق الأمر بالعدو.
فهي أقوى من الجميع، وإن لم تُجهز على خصمها، فسيُضطر شخص آخر لفعل ذلك.
وبقدر القوة تأتي المسؤولية.
لكن قتل شخص تعرفه… شيء آخر بالكامل.
ماذا لو لم تُعطِ بينزيل نواة البذرة الملوّنة؟ ولو صار بيلاك… واضطرت إلى قتله؟
ربما تكفّل راندل بهذا عوضاً عنها، ومع ذلك لظلّ الألم ينغرس كشوكة في صدرها.
ولهذا اندفعت بلا لحظة تردد حين ظهر بصيص أمل في إمكانية إنقاذه.
لكن… ماذا لو لم تستطع إعادته؟
ماذا لو أصبحت هي من يجب أن يقتله؟
كانت تلك الفكرة وحدها كافية لإرعابها حتى النخاع.
“أفهِمتِ الآن… حسناً. كل شيء بخير.”
ضمّها أدريان إليه. وحين هدأ بكاؤها وانطفأت قواها، غرقت في النوم بين ذراعيه.
مسح عن خدّها بقايا الدموع، وعن رموشها النداوة العالقة، ثم تنفّس بعمق.
كان ثوب كيريل الطبي عبارة عن نصف كمّ وسروال قصير، أقرب إلى الملابس الداخلية. أثارت فيفيان ضجّة حول الأمر، لكن كيريل لم يرفّ لها جفن.
“أفأخلع ثياب المريض كلما أردت لفّ ذراعيه وقدميه بالضمادات؟”
وحين طالبت فيفيان بثياب طويلة وأخرى قصيرة، تجاهلتها كيريل تماماً.
ولهذا بقي الثوب على حاله: نصف كمّ وسروال قصير، والكثير من الجلد المكشوف.
انزلق أدريان إلى صراعٍ من مشاعر متناقضة.
والسبب في تجنّبه ملامسة نينا كان بسيطاً.
كان عليه أن يتغيّر.
علاقتهما لم يعد يحق لها البقاء في حدود صداقة الطفولة.
ولهذا وضع بينهما مسافة.
لكن… ألهذه المسافة قيمة حين تكون على حساب جرحها؟
كانت عينها تتسع دهشةً كلما ابتعد عنها، وكان صدره يتقلّص في كل مرة.
وفي النهاية… خسر المعركة.
لم تعد مشاعره ذات أهمية أمام الحزن الذي ملأها.
إن رغبت في الارتماء إليه، فعليه أن يفتح ذراعيه. وإن رغبت في الإمساك به، فعليه أن يسمح لها.
لكن هذا لا يعني أن كل شيء عاد كما كان.
فمشاعره تغيّرت… وقلبه تغيّر.
لم يعد يستطيع لمسها كما كان يفعل، ولا ضمّها بالطريقة نفسها. ورغم أن حضورها بين ذراعيه ما يزال أعزّ ما يملك… فإن رغبات أخرى تصعد معه في الظلّ ذاته.
رغبة في تذوّق هذه البشرة الناعمة، والغوص أعمق.
رغبة لا يرضيها مجرد احتضان ذلك الجسد الذي ينطبق تماماً على صدره.
رغبة في عضّ ذلك اللحم الرقيق وتذوّقه.
شهوة إلى قبلة.
وإلى لمس، احتضان، انسياب، امتزاج، و وهزّة تمحو كل ترتيب.
زفر نفساً يختلط بالحرارة.
كان أدريان يتأمّل وجه نينا الهانئ، وقد نامت مستندةً إلى صدره.
عينان غاصتا في سكونٍ عميق، وملامح تلاشى عنها كل توتّر، كأنها سكبت آخر قطرة من مشاعرها وبقيت روحًا لينةً وادعة.
قبضتها المتشبّثة بطرف ياقة ثوبه جعلت وجهها غايةً في العذوبة، حتى ضاق صدره من شدّة ما شعر به نحوها.
“أحبكِ، نينا.”
ومسح خصلةً من شعرها المتدلّي على جبينها المستدير، ذلك الجبين الذي لا يزال يحمل براءة قديمة تثير ابتسامة لا إرادية على شفتيه.
ما جدوى الحب إن تحقق بثمن جَرحها؟
كان يعرف الظلمة القابعة في أعماقه، ويخشى قبل كل شيء أن تمد يداه جرحًا إليها… لأنه يدرك أنه قادر على ذلك حقًا.
‘بينزيل…’
عاد فكره إليه، وانقبض قلبه حين تذكّر أن نينا اقتسمت معه قوتها.
مثل هذه المواقف ستتكرر ما دامت إلى جانبه، وإن تعقّب كل تفصيل فسيتهالك.
هل يعني ذلك أن الأميرة فيارنتيل أجرت عليه تجربة؟ إن صحّ هذا…
سيكون وجود بينزيل سلاحًا للضغط به على الأميرة.
‘إذا تعاون بينزيل، طبعًا.’
لم يبقَ أمامه سوى أن يأمل أن يتكفّل باراديف بإقناعه. فلم يعد يحتمل فكرة ترك نينا قربه لحظة أخرى.
من البداية لم يرتح له.
‘ألا يعرف حدّه؟’
عاد ببصره إلى نينا الساكنة على صدره.
كيف يجرؤ أحد على المساس بها؟
لو اتّبع غريزته لفتّته إلى شذرات، لكن ذلك الرجل حياةٌ انقذتها نينا من الموت، ولا يمكنه الاستهانة بها.
كل ما هو ثمين لنينا ثمين له كذلك.
وكان راندل قد اصطحب فيونا ليتحقق مما إذا كانت قادرة على تطهير شظايا الأرواح التالفة.
راندل لا يترك أمرًا بلا حسم.
‘إن ثبت ذلك…’
سيبدأ بإزاحة غابة البنفسج أولًا؛ فهناك نسجت نينا حواجزها، وقد يتربّص بها أتباع الطائفة في أي لحظة.
إزالة الخطر الواقف خلف ظهرها تأتي أولًا.
‘لكن ثمّة ما لا أفهمه.’
ظنّ سابقًا أن بعض أفراد الطائفة رسّخوا جذورهم داخل المعبد.
لكن ما يجري لا يشبه ذلك.
المعبد هو من كان يُسيّر الطائفة.
ومع ذلك… لا يبدو أن المعبد يحرّكها رغبةً منه في توسيع نفوذه.
حين يعيد النظر في ما حدث حتى الآن، لا يجد تفسيرًا إلا كون المعبد والطائفة جناحين لجسد واحد.
انهيار الحاجز العظيم، والحاجز الجديد الذي أقامته القديسة… كلّها تشير إلى هذا.
ما يطلبه المعبد هو ما تسعى إليه الطائفة نفسها: فناء العالم.
نزول سيد الأرواح الفاسد.
‘لكن… لماذا؟’
الجواب ظاهر، غير أن الدافع يظل مظلمًا، وكلما جهل الدافع تعذّر التنبؤ بما سيأتي.
الوحيد الواضح هو أنهم… أعداء.
المعضلة التالية. هل كانت الأميرة فيارنتيل تعلم؟
أكانت تتعاون معهم علنا وقصدًا؟
لم تكن من أولئك الذين يهوون زوال العالم. الرغبات التي تتوهّج في عينيها متجذّرة في واقع دنيوي، لا في فراغ عدمي.
‘أتراها تظن أنها قادرة على التحكم بهم؟’
ربما جاهلة بحدود نفسها ومتعصبة للقوة.
عاد إلى نينا، ثم تراجع قليلًا ليسندها على الفراش براحة.
حان وقت المغادرة والعودة إلى العمل.
“آممه…”
تململت بصوت خافت، وأطبقت أصابعها بقوة على ياقة ثوبه.
توقف.
جرّب أن يحرّر نفسه، لكنها كانت تمنعه كل مرة.
تنهد مرة ثانية.
لم يكن أمامه إلا البقاء.
التعليقات لهذا الفصل "162"