“لا. يجب أن تتألّمي قليلاً، لعلّك تتوقفين عن فعل مثل هذه الحماقات.”
نبرته كانت حادة. فتحت نينا عينيها الواسعتين وهمست.
“يا قاسي القلب…”
معطفها الطويل تركته منذ زمن، بعد أن تلوّث تماماً.
التصاقها الطويل بـبينزيل وقد صار بيلاك، وهي تحاول بنقاءٍ كامل تحريك قوة الروح بداخله، جعل تركيزها ينفلت مراراً، وكل مرة كانت تترك نفسها مكشوفة تتلقى ضرباته.
ازدادت قوتها، لكن جسدها لم يتحوّل إلى فولاذ.
أخرج راندل من حقيبته ضمادات ودواءاً.
“هل تريدين أن أريك كيف ستبدو أحشاؤك وهي تتدلى؟”
“لم تتدلَّ.”
احتجّت نينا بخفوت.
الدواء الذي جلبه لم يكن من النوع القادر على وصل العظم واللحم فوراً.
كيريل جرّبته على لوروكومو وطوّره لاحقاً، لكنها منعت نينا من استخدام النسخة الأقوى.
كانت تحدّق في بينزيل، الذي كان ينظر إليها بارتباكٍ وصدمة.
ابتسمت بخفّة.
“بينزيل… نجونا من راية الموت… أليس كذلك…؟”
“لا أعرف ما معنى هذا، لكن لو مات لكان أفضل.”
تفوّه راندل بذلك وهو يسرع في تضميد جراحها وإجراء الإسعاف الأولي، ثم رفعها بين ذراعيه.
“سنعود حالًا.”
“لا… لا يمكن. ما زالت… شظية الروح…”
قبضَت نينا بيدها الواهنة على ياقة ثوبه.
“أتخرج منك هذه الكلمات في ظرف كهذا؟! أترغبين بالموت؟ أحياتك رخيصة إلى هذا الحد؟ ماذا تظنين بمن يثمّن حياتك؟ ماذا تظنين بمن يراك عزيزة لديه؟! أأكون أنا الأبله والغبي الذي يلهث خوفًا عليك؟!”
حدّقت نينا فيه مذعورة، ثم خفضت رأسها ببطء.
“لم يخطر ببالي…”
امتلأ راندل بالاشمئزاز من نفسه وهو يثور على امرأة لا تقوى حتى على التفكير بسبب المخدّر.
“سأتولى الأمر.”
نهض بينزيل وهو ينطق بهذه الجملة.
كانت أطرافه لا تزال سوداء، كأنها مكسوّة بقفازات وأرجله غير بشرية.
والآن فقط أدرك تمامًا ما وقع. عضّ على أسنانه، وحدّق في نينا بنظرة مكسورة.
“أعتذر… سيدة نينا. أنا… أنا—”
“لا تنطق بكلامك وأنت تنظر إلى هذا الجانب، أيها الأحمق.”
احمرّ وجه بينزيل من حدّة نبرة راندل، فبادرت نينا إلى نقر كتف راندل بخفة.
“أنزلني.”
“إن أردتِ الوقوف على قدميك فعليك شدّ عضلات بطنك، وإن شددتِها سينفتح الجرح الذي خيطته الآن.”
تمتمت نينا وهي تحاول ضبط وعيها المضطرب بالمخدّر.
“ألن يتأثّر… بشظية الروح الفاسدة؟”
“إن عاد ذاك الكلب إلى هيئة بيلاك فسأنهيه. وأعني ذلك فعلًا.”
“لا… تبالغ…”
ارتخت أطرافها تمامًا، وشعرت برغبة حادّة في البكاء.
وربما كان المخدّر، وربما مجرد إحساس مفاجئ… لكن دموعها انهمرت بلا توقف.
قال راندل بارتباك.
“لِمَ تبكين؟”
“لأنك… لأنك تقول كلامًا قاسيًا…”
“وأي كلام قاسٍ قلت؟”
هدأ صوته قليلًا، وتابع.
“لم أنطق إلا بالحقيقة.”
وقبل أن تفتح نينا فمها، سبقها بينزيل.
“لن أتأثر، ليس الآن. أنا واثق من ذلك.”
رمقَ التجويف الداخلي بنظرة سريعة.
“ما تزال هناك شظية كبيرة لم تُستخرج. الناس يأتون كل فترة ليأخذوا قطعًا صغيرة، ولم يبقى إلا ما لا يمكن حمله.”
“والحاجز؟”
“الكهنة يستطيعون العبور من خلاله.”
نقر راندل بلسانه، ثم أومأ.
“ابقَ هنا. سأعود ومعي القديسة.”
“القديسة…؟”
“الحقيقية، لا المزيّفة.”
أومأ بينزيل. رفع راندل نينا، ثم نظر إلى الأعلى قبل أن يصدر صوت تذمّر.
“لا، ستأتي معنا أيضًا.”
“ماذا؟”
“لن أستطيع النزول من الجبل وأنا أحمل نينا وحدي.”
نطقها بامتعاض.
***
كان قصر العاصمة التابع لدوقية لوفرين في فوضى عارمة.
ما إن وضع راندل نينا أرضًا حتى أمسك بفيونا واختفى معها عبر البوابة دون شرح.
تخلّت كيريل عن التذمّر… وذلك وحده كان كافيًا ليصبح الوضع أكثر رعبًا.
لزمت الصمت، وجرّدت نينا من ثيابها، ثم أعادت معالجة كل موضع كان راندل قد أسعفه مؤقتًا.
ارتدت نينا ثوب المرضى وهمست.
“كيريل…”
لكنها لم تجب.
“كان… كان هناك سبب يستحق…”
“سبب؟”
استدارت كيريل فجأة.
ثم استدارت مرة ثانية، أسرع وأكثر حدّة.
“أي سبب؟ لحظة.”
فتح باب غرفة العلاج بعنف، فاندفع الرجال الذين كانوا ينتظرون قلقين.
“هل أنتِ بخير؟”
طرح أيدريان السؤال ممثلًا عنهم، فأجابت كيريل.
“قلت سأشرح، فادخلوا.”
سأل جان من جديد.
“كيف حال جسدك؟ الجروح؟”
“لو كانت سيئة لما قلت سأشرح.”
“كيريل.”
نطق أيدريان اسمها، فابتسمت كيريل بسخرية.
“ما دامت لم تمت، فلا شيء أعجز عن إصلاحه.”
وانعكس الارتياح على وجوه أيدريان وجان ولويس.
اندفع الثلاثة إلى الداخل دفعة واحدة، فبدت الغرفة ضيقة بهم.
نظرت نينا إليهم واحدًا بعد الآخر، ثم إلى كيريل، قبل أن تطلق زفرة عميقة.
“الأمر هو…”
وبدأت تروي ما حدث منذ لقائها ببينزيل.
استمع أيدريان بلا أي تعبير، بينما اشتدّ عبوس جين.
وعندما بلغت نقطة عودة بينزيل إلى إنسانيته، أطلق لويس تنهيدة طويلة.
“هذا… يشبهكِ يا آنسة نينا بالفعل.”
تنفست نينا بإرهاق.
“كان هناك حل… لكن لم يكن بوسعي قتله هكذا.”
وتنهّدت ثانية.
لم ترتكب خطأ، ومع ذلك ظلت تتلقى اللوم منذ عادت وهي جريحة.
قال جان بتهديد واضح.
“من الآن فصاعدًا، لن نتركك تذهبين وحدك. فهمتِ؟”
هزّت كتفيها بخفة، فحدّق جان بها غاضبًا.
“ما معنى هذه الحركة؟ ما معنى هذا؟”
وانخفض غضب الجميع تدريجيًا.
لم يخطر لأحد أن يقول: كان يجب قتله يا نينا.
قال لويس وهو يقطّب جبينه.
“أن يصبح اللورد بينزيل بيلاك… هذا أمر صادم.”
وأضاف.
“قلتِ إنه لم يفقد عقله؟ وقد عاد بشريًا؟ إذن… لن يعود إلى هيئة البيلاك مجددًا؟”
التعليقات لهذا الفصل "161"