الفصل 160
“!”
عضّ راندل على أسنانه كي لا يعضّ لسانه. كانت نينا ترتقي شقوق الجرف بخفّة، تنطلق وترتدّ نحو القمة بسرعة مخيفة.
عندها أدرك أنها كانت تكبح نفسها طوال الوقت. لو كانت وحدها، لبلغت القمة قبل غروب الشمس.
كلما صعدا، ازداد البرد رسوخاً حولهما. أخرج راندل البندول.
‘سأصنع يوماً ما سحرا للطيران… مهما كلّف الأمر.’
ما إن تمتم بتعويذته حتى غلّفتهما دفعة من الدفء.
وعندما شارفا على الوصول إلى جزء الجليد، استدعت نينا روح الصقيع أيضاً.
فانبثقت من الجدار الجليدي بروزات صغيرة تشبه الدرج، تقفز عليها نينا صعوداً.
“وصلنا!”
رفعت ذراعيها ابتهاجاً، وراندل في ظهرها شاركها الهتاف في سرّه، رغم الألم الذي كان يضغط به الحبل على ساقيه وكتفيه وخصره.
كانت النجوم في العتمة تشتعل فوقهما بلا عدد.
قمة الجبل، المكسوّة كلّها بالثلج، بدت مستوية، والسماء من علوّ كهذا تختلف كلياً عمّا تُرى من الأسفل.
كان راندل يدلّك ساقيه وهو يتفقد المكان.
نفَس نينا كان يخرج من شفتيها بخاراً أبيض. ارتجفت.
“إحساس مزعج.”
“قطعة الروح الفاسدة؟”
“نعم… يبدو أن هناك حاجز حماية.”
الإحساس سيئ، لكنه ليس خانقاً. لا بد أن الحاجز يصدّ القدرَ الأكبر منه.
“غريب فعلاً.”
تمتمت نينا.
“كيف لم يعلم أحد بوجود قطعة هنا؟ الغابة الأرجوانية كانت في فوضى هائلة.”
“ربما القطعة أصغر بكثير مما وُجد هناك. ثم إن الحاجز يغطيها… والموقع يصعب الوصول إليه.”
أمالت رأسها قليلاً.
“لنتحرَّ البحث عن المدخل.”
أومأ، وبدآ معاً في التفتيش. وما لبثا أن عثرا على شق صخري. دفعت نينا الصخرة، فانكشف ثقب أسود يهبط مباشرة إلى أسفل.
“سنقفز، أليس كذلك؟”
“غالباً…”
تمتم راندل بوجه شاحب وهو يرفع البندول.
تشكلت كرات ضوء صغيرة أخذت تسقط تباعاً نحو الأسفل، وراقبا معاً إلى أي مدى تهبط.
“آه… يبدو أن أسفلها ماء.”
“كيف يمكن لمكان بهذا الارتفاع أن يحتوي تجويفاً بهذه الضخامة؟”
“الجواب… هو القفز.”
“وإن كان الماء ضحلاً؟ لن يبقى عظم واحد سليماً.”
“نهبط ببطء، وحسب.”
ابتسمت نينا في الظلام.
“لديّ الأرواح، ألا تتذكر؟”
قبل أن يقفز، انتابه خاطر شغله طويلاً.
“نينا.”
“هم؟”
“لم اخترتِ أن نأتي وحدنا؟”
“حسناً، لأن—”
“ليس تلك الأسباب التي سردتِها.”
انعكست زرقة عينيه في السواد وهو يتأملها.
‘كيف له أن يتألق هكذا… حتى في العتمة؟’ تساءلت نينا، وفتحت شفتيها ببطء.
“لأني أردت تهدئة عقلي…؟”
“إجابة بصيغة تساؤل؟”
“لست متأكدة تماماً.”
ألقى راندل نظرة بعيدة، ثم عاد ببصره إليها.
“فهمت.”
عندما سألت: “وما الذي فهمته؟”، ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة.
“أنني… ما زلت لست جزءاً من حياتكِ اليومية.”
انحبست الكلمات في حلقها.
“هل… يُعدّ ذلك جيداً؟”
هزّ كتفيه، ثم أشار إلى الأسفل.
“القفز.”
أمسكت نينا بيده بإحكام، وعدّت.
“واحد، اثنان، ثلاثة!”
قفزا معاً. في البداية كان الشعور المزعج بانجذاب الجسد إلى الهاوية، ثم هبّت الريح.
هبوطهما تباطأ بفضل الريح التي رفعت جسديهما.
هبطا برفق على طرف التجويف، مثل بذرتين تتهاديان في الهواء. اصطكت أسنان راندل.
“برد.”
“إنها ريح الشمال… أعتذر.”
“لولا التعويذة التي فعّلتُها منذ قليل لكنا متجمّدين.”
“لا أظن الأمر يصل إلى تلك الدرجة.”
رفع حاجبه، لكنها صرفت نظرها بتجاهل متعمّد.
كان المكان الذي سقطا فيه أوسع بكثير مما بدا من الأعلى.
“شاسع فعلاً. آه!!”
وضعت يديها كقمع وصرخت، فارتدّ صدى صوتها في التجويف.
“اصمتِ.”
عند جملة راندل، ابتسمت نينا وضمّت يديها.
جالت بنظرها هنا وهناك، ثم توقّف بصرها فجأة.
أطلق راندل مزيداً من الكرات الضوئية في الهواء. عندها تبيّن الرجل الذي كان يقترب منهما.
رجل ضخم الجثة، بشعرٍ بنيّ فاتح، يخطو ببطء ووجهه بلا أدنى تعبير.
“يبدو بلا إرادة، أو بلا دماغ، أو كأحمق فارغ الرأس تماماً.”
أدار راندل وجهه نحو نينا التي لم تُبدِ أي ردّة فعل.
“تعرفينه؟”
“بينزل.”
انطبقت أسنان نينا بحدّة.
وكأنّ اسمه أيقظه، ازداد بينزل سرعةً، ثم بدأ العدو.
ركض على قدمين… ثم على أربع… ثم تشوّه شكله.
“بيلّاك.”
أخرج راندل البندول.
“لا! لا تُهاجمه.”
“ماذا؟”
ارتفع حاجباه من شدّة الدهشة وهو يلتفت إليها.
“وينتر!”
تشقق الهواء.
في لحظة واحدة تجمّدت البحيرة، وتيبّست قوائم البيلّاك الأربع بالجليد.
إلا أنّ نينا كانت تعرف أن هذا لن يدوم طويلاً.
‘لهذا السبب أخبرتك ألا ترفع أعلام الموت!’
صرخة محبوسة دوّت داخلها وهي تنتزع معطفاً طويلاً من حقيبتها وترتديه بعجلة.
“نينا، هذا الشيء بلا إرادة. مظهره قد يكون بشرياً، لكنه من الداخل ليس كذلك.”
نبرة راندل بقيت هادئة.
وبندوله—الكرة الذهبية المتلألئة—تجلّت فوق الهوّة بشكل مهيب.
النجوم الدائرة ببطء أطلقت وهجها، فأضاءت الفضاء كله.
“لستِ مضطرة لإنهائه. يمكنني القيام بذلك.”
“لا… لا تزال هناك فرصة.”
نطقَت نينا كلماتها بصوت قاتم وهي تحدّق في البيلاك.
كانت تشعر به.
شعلة روح الشمس المتبقية فيه… تلك القوة التي سبق أن منحتها له… تومض في أعماقه بخفوت لا يكاد يُرى.
ولإيقاظه، كان لا بدّ من الاقتراب كثيراً.
تنفّست بعمق.
البيلاك، الشبيه بفهدٍ أسود، حطّم الجليد المتجمّد حول قوائمه.
وهي تهجم نحوه مباشرة.
“ثبّته! لا تدعه يتحرك!”
“نينا لا ديل! تبا!”
أطلق راندل سيلاً من الشتائم، ومع ذلك لم يستطع تركها تواجه الموت وحدها.
انتزعت نينا حزام السيف المزعج ورمته بعيداً.
“سان.”
استدعت روحها—الكائن ذا القرنين الذهبيين الآسرين، والقوة اللامتناهية.
كانت تجري فوق البحيرة المتجمّدة بخفة لا تُصدّق؛ لا تتباطأ، ولا تنزلق.
الثلج تحت قدميها كان يرسم زخارف من الصقيع اللامع.
“دفؤك… حنانك… تلك الحرارة التي تُلهب البشرة…”
البيلاك كشف أنيابه، وفتح فمه.
اندفع لهيب هادر.
“من ينير عيون كل الكائنات… يا أصل الحياة… يا نوراً مطلقاً يطرد كل الظلمة!”
قفزت نينا بدورانٍ رشيق، متفادية النار، واعتلت ظهره. نقش الروح على معصمها توهج بألوان متعددة.
اهتاج البيلاك وطرحها عنه.
“آه!”
تعثّرت وهي تُركّز قوتها على الروح، فلم تنتبه إلى الأرض… فسقطت.
فم البيلاك المفغر مرّ قريباً من جسدها حدّ اللمس.
شيء ضخم بدا وكأنه أمسك بذيله، فانسحب جسده بعنف إلى الخلف.
“شكراً، راندل!”
صرخت نينا، لكن راندل لم يُجب. الغضب كان يشتعل حتى أطراف شعره.
ومع اتّساع المسافة، خفّ ضوء الروح على معصمها.
“حقاً…”
تمتمت بضيق، ونهضت مجدداً لتنقضّ نحو البيلاك.
***
كان بينزل واقفاً أمام بحر رماديّ اللون.
الرمال بيضاء كالعظم، والبحر أزرق رمادي.
وفي السماء، تراكمت غيوم داكنة توحي بعاصفة تهدر من بعيد.
وقف شارداً يراقب الموج يزحف ليلامس قدميه، ثم يتراجع.
منذ متى وهو هنا؟
ولماذا هو هنا؟
لم يستطع تذكّر شيء.
حينها… لمس ظهره دفعةُ دفء لطيفة.
استدار ببطء، فإذا بشمسٍ تخرق الغيوم السوداء وتنساب أشعتها نحوه.
الضوء كان شديداً، فقلّص عينيه.
“كنتَ هنا إذاً!”
صوت صاخب فاجأه، فاهتزّ قلبه.
التفت، فرأى شخصاً يعرفه جيداً.
يذكره…
يعرفه…
لكن اسمه لم يخطر بباله.
فتاة بشعر فضيّ مجدول بضفيرتين، وعيون ذهبية.
“أفق بسرعة. آسفة لكن لم يعد بوسعي تحمّل الأمر أكثر.”
كلماتها الجافة أربكته.
وبصعوبة بالغة، عاد الاسم إلى ذهنه.
“نينا.”
ارتسمت ابتسامة على شفتيها.
“هل استعدت وعيك؟”
التعليقات لهذا الفصل "160"