الفصل 159
في لحظة اندلع الهمس في القاعة، وقفز البارون فيردين صارخًا.
“افتراء! هذا… كلّه افتراء!!”
“كيف يكون افتراء وهناك أدلة واضحة؟ يجب إيقاف البارون فيردين فورًا ومصادرة قصره والتحقيق فيه. كما تعلمين، أتباع الطائفة بارعون في إخفاء آثارهم.”
واجهه باراديف بثبات بارد، وعيناه تلتقيان بحدّة نظرات الأميرة فيارينتيل المشتعلة.
“فليحضر فرسان المعبد حالًا.”
ارتجف البارون فيردين.
“لا يعقل! تفتيش؟ أنا… أنا–”
قاطعه صوت صارم.
“اهدأ. الأفضل أن ترافق الفرسان. إن كنت بريئًا فسيظهر كل شيء.”
دارت عيناه في توتر. عندها لامس طرف أنفه عبقُ وردٍ حلو.
– يريدون توريطك.
– بالأدلة و كل شيء…
تشتت ذهنه، وانساب في أذنيه همسٌ لا يدري مصدره.
نظر إلى الأميرة. أليست هي من تخلت حتى عن تابعٍ خدمها بإخلاص؟ كان يعلم ما حلّ بـبينزيل.
هل سيلقى المصير نفسه؟
مستحيل…!
فهو كان أحد أهم رؤوس الطائفة!
مد يده إلى جيبه.
قبضته أحاطت بشظية الروح الفاسدة، فأحس بالقوة تسري فيه.
“ابتعدو من طريقي!!”
اندفعت من كفه ضوء أسود. كل من لامسته اسودّ جلده وتآكل.
“آآه!”
“كيييااه!”
حاول الفرسان، لكن البارون فيردين كان أسرع. شقّ النافذة وقفز منها بسرعة لا تشبه البشر.
“أمسكوا به!”
أمَر باراديف.
“واقتحموا منزله فورًا!”
عند صراخ باراديف، ردّت دوقة برينان بصوتها النافذ.
“أتفق معه. قد يُتلف أدلّته قبل أن نصل.”
وافق النبلاء جميعًا، وقد شاهدوا بأعينهم تلك القوة العجيبة وانفلاته.
صرخت الأميرة فيارينتيل غاضبة.
“لتتحرك كتيبة الزنابق والحرس الإمبراطوري إلى قصره فورًا! وليتقدم أيضًا فرسان المعبد!”
في هذه الأثناء، أشرف باراديف على نقل المصابين بالضوء الأسود إلى مقر العلاج.
‘الأمر انحلّ بسهولة… أكثر من اللازم.’
لم يتوقع أن ينفجر البارون فيردين بهذه الطريقة.
كان قد أعدّ مع دوق لوفرين عدة فخاخ إضافية، فإذا بها بلا جدوى.
مهما كان أحمق، فالأمر مريب. كأنه فقد صوابه…
اقتربت دوقة برينان متكئة على عصاها وقالت.
“سأضطر للمغادرة، إني أشعر بتوعك. تبدو الأميرة مشغولة لذا أبلغها بوداعي من فضلك.”
أومأ باراديف.
“حسنًا. سعيد أنك سالمة، يمكنكِ الإنصراف.”
“شكرًا لك.”
انحنت الوصيفة مع سيدتها.
وعبر الهواء انساب عبير الورد مجددًا.
“!!”
جنية الورود، ألكا.
التي تشتهر بالتحكم بالناس عبر عطرها…
خطر الاسم في ذهنه، لكنه لم يجرؤ على مناداة الدوقة وقد أدارت ظهرها.
ماذا عساه يقول؟
‘على أي حال، لقد ساعدتني.’
وبقدر ما شعر بالامتنان لتدخلها، اعترته رهبة من تلك القدرة المخيفة.
‘هكذا، خطونا خطوتنا الأولى.’
لم يترك كل الأوراق في يد الأميرة.
أما الإبلاغ عن البارون فيردين… فكان إنجازًا خالصًا له وحده.
ومع مصادرة قصر البارون ستظهر أدلة جديدة… أما ماهيتها فتعتمد على دوق لوفرين.
من حسن الحظ أنه أصبح في صفه.
رفع باراديف رأسه حين أحس بنظرات تخترقه.
التقت عيناه بعيني فيارينتيل.
كان هو من ابتسم هذه المرة.
حتى الآن، كان فيارينتيل تستأثر لوحدها فضل مقاومة الطائفة. أمّا من الآن فالأمر مختلف.
سيبدو الأمر وكأن باراديف، وكأن العائلة الإمبراطورية ذاتها، هي التي تُمسك بالطائفة وتقيّدها.
الشيء الجيد ينبغي تقاسمه.
لم تكن في نيّته السماح لفيارينتيل بالتحكم بالدفة وحدها.
ويبدو أن عزمه وصل إليه؛ حدّق فيه فيارينتيل بنظرة تكاد تفتك به. باراديف آثر تحويل بصره جانباً. لا حاجة لافتعال مواجهة.
فالبداية لم تأتِ بعد.
***
غادرت نينا مع راندل وحدهما لاستعادة الشظية.
واجهت معارضة شرسة من الجميع، لكنها لم تكن تنوي التراجع.
فمع ظهور قطع البيلاك وتتابع الأحداث، لا يمكنها أخذ جين—المتعاقد ونائب القائدة—ولا يمكنها اصطحاب جاك أيضاً.
كل فرد أصبح ذا قيمة لا يمكن المساس بها.
وبشيء من العناد شبه القسري، عبرت نينا حدود مملكة تيلدن برفقة راندل.
راندل فتح البوابة، غير أنه لم يتمكن من إيصالهم مباشرة إلى محيط الكهف الذي يُرجَّح أن القطعة مخبّأة فيه.
“الطاقة هنا غريبة. لو فتحت البوابة بشكل خاطئ قد تُقتلع أطرافك.”
بهذه الكلمات فتح البوابة في أقرب نقطة ممكنة.
وبما أن وحيد القرن لافت للأنظار، عبر الاثنان البوابة بملابس بسيطة فقط.
“واو—”
اندفعت تنهيدةُ دهشة من نينا.
كان الغروب يلفّ تيلدن. السماء آية مدهشة. الغيوم امتزج فيها الذهبي والبرتقالي والوردي والأزرق في لوحة تخطف البصر.
“مذهل. السماء جميلة للغاية.”
أشارت نينا إلى الأعلى والتفتت نحو راندل. كان يكتفي بإيماءة مسحوراً لا يرفّ له طرف.
رأى لون السماء ينساب فوق شعرها الفضيّ، يكسوه انعكاساً باهتاً يتلألأ بخفوت. ضاق صدره.
في عينيها الذهبيتين دوّامة من الأحمر القاني، والفضيّ اللؤلئي، وظلال العتمة المتمازجة، تبرق كخفقان ضوء.
“راندل؟”
تطلّعت إليه مستغربةً وهو يحدّق بها شارداً.
“فقط… لم أرَ شيئاً بهذه الروعة من قبل.”
اتسعت ابتسامة نينا.
“أليس كذلك؟ حتى أنا لم أرَ سماء كهذه. تيلدن تبدو أوضح من إيفنسيل.”
كانت هذه أول مرة تخرج فيها من الإمبراطورية، فكل شيء بدا لها مدهشاً.
تيلدن منطقة جبلية شاهقة، جبالها تكاد تكون جدراناً عمودية، من يرمي نفسه من أعلاها لا يتدحرج… بل يسقط سقوطاً حراً.
القمم المكسوّة بالثلوج الأبدية هنا وهناك تمنحها طابعاً مغايراً تماماً لإيفنسيل.
“بالطبع هناك فرق في التوقيت. إيفنسيل ما تزال في فترة الظهيرة…”
همست نينا بذلك وهي مأخوذة بروعة الغروب، ثم حوّلت بصرها نحو الأعلى.
جرفٌ شاهق ينتصب أمامها، وخلفه قمة تغمرها الثلوج.
ارتخت كتفاها.
“على ما يبدو… تلك القمّة.”
“مزعج.”
تسلّق، إذاً.
لم يخفِ راندل امتعاضه، لكن لا خيار آخر. لا بد من الصعود خطوة بعد خطوة.
وهكذا وجدا نفسيهما في رحلة تسلّق لم يخططا لها. نينا تمضي بخفة كأن الأرض تتلاشى تحت قدميها، بينما سرعة راندل أخذت تضطرب وتتراجع تدريجياً.
في النهاية التفتت إليه.
“هل أحملك؟”
“…إذا صار الأمر صعباً جداً.”
لم يكن من النوع الذي يرفض.
الليل هبط سريعاً على الجبل. اختارا المساء عمداً لئلا يلحظهما أحد، لكن صعود جبل ليلاً مهمة بالغة المشقة.
ثم بلغ الطريق حداً لم يعد طريقاً، بل جداراً صخرياً يكاد يفرض تسلّقاً عمودياً، فتوقفا.
“همم.”
عقدت نينا ذراعيها وحدّقت في راندل. كانا يرتديان ملابس مناسبة للتسلّق، وتبادلا النظرات، وفي النهاية استسلم راندل.
“افعلي ما تشائين.”
“أأحملك بين ذراعي… أم على ظهري؟”
ألقت سؤالها بمشاكسـة خفيفة، فتنفّس راندل بعمق.
“الأكثر راحة.”
ترددت نينا لحظة، ثم صنعت حبلاً يشبه الأرجوحة ولفّته حوله لتحمله على ظهرها. هكذا التصقت ظهراهما معاً وهما يستعدان لاعتلاء الجبل.
بعد أن تأكدت من ثباته، استدعت ريح الشمال.
ركلت الأرض مرة واحدة، فاندفع جسدهما إلى الأعلى بسرعة خاطفة.
التعليقات لهذا الفصل "159"