كلّما تلفّظت فيونا بذلك، كانت لوكريتسيا تستشيط غيظاً.
“لا تتفوّهي بهذا الهراء! من يرضى بالعيش في مكان كهذا؟”
كانت توبّخها حتى تُشعرها بالحرج، لكن فيونا اعتقدت أنّ ذلك بدافع القلق، فكانت تكتفي بالابتسام وتمضي.
وحين تظهر فطيرةٌ كطعامٍ استثنائي، وتتخلى عنها فيونا لطفلٍ آخر، كانت لوكريتسيا تستعيدها بالقوة.
“لوكي… لا داعي لهذا.”
“بل هناك داعٍ! حصّتك يجب أن تبقى لك!”
“أنا بخير… ولذلك أعطيتها لبيتر.”
“أنتِ لست بخير.”
لم يكن يهمّها إن كان الطرف الآخر طفلاً أصغر أو أكبر؛ كانت تستردّ ما يخصّ فيونا ولو بالصفع والركل، حتى إنّ فيونا نفسها كانت تشعر بالارتباك من شدّة عنفها.
ومهما ترجّتها فيونا أن تكفّ، لم تكن لوكريتسيا تُصدّق.
وبما أنّ لوكريتسيا أيضاً تحرص على حصّتها، كانت فيونا، حتى في غيابها، تحفظ لها نصيبها من الطعام المميّز.
وكانت لوكريتسيا تتسلّم تلك الحصة كشيءٍ بديهي لا نقاش فيه.
“لكن… منذ يوم معيّن تغيّر كل شيء.”
كان ذلك في اليوم الذي عاد فيه إدغار من عمله خارجاً. كان يعمل فارساً في المعبد، ورغم قدرته على مغادرة الميتم نهائياً، كان يعود دائماً.
لأجله، قطّعت فيونا فطيرة يحبّها واحتفظت بها.
عاد إدغار مع لوكريتسيا، فسارعت فيونا إلى تقديم فطيرة لوكريتسيا أولاً.
تلقّفت لوكريتسيا الفطيرة بزهو، ثم التفتت نحو إدغار. أخرجت فيونا نصيب إدغار وقدّمته إليه.
“حين لا أكون هنا، لا ضرورة أن تحتفظي لي بشيء.”
أدلى إدغار بذلك بلطف، فابتسمت فيونا وأجابته.
“لا تقلق. لست أمنحك إياها كشيءٍ خاص. يجب الحفاظ على حصّتك حتى لو غبت.”
“فهكذا إذن…”
ارتسمت على وجهه ملامح راحة وشيء من الخيبة في آن واحد.
كانت فيونا تستعدّ لإضافة شيءٍ آخر… حين ارتطمت فطيرة بوجهها.
قففف.
لم يكن الألم هو الصدمة الأولى، بل المفاجأة في أن شيئاً لاصقاً اصطدم بوجهها.
“لوكريتسيا!”
هتف إدغار وهو ينهض مذعوراً.
حدّقت فيونا في لوكريتسيا بدهشة؛ وجه الأخيرة كان مشوّهاً بالغضب، وعيناها تنظران إليها مباشرة.
شهق إدغار مرة أخرى، لكن لوكريتسيا لم تلتفت إليه، وظلّ نظرها معقوداً على فيونا.
“كنتِ تخدعينني طوال الوقت.”
تدفقت الكلمات من حنجرتها كمن يعصر اعترافاً مؤلماً، ثم اندفعت خارجاً.
حين ارتفع صوتها… ارتسمت على شفتي لوكريتسيا ابتسامة.
“أغضبتِ؟ لأنني انتزعت منكِ أغراضك؟ حين كنتُ أقول لكِ حافظي على حقك لم تكترثي.”
“هذا لا يشبه ذاك.”
“وما الفرق؟”
عُدمت الكلمات. أدركت أن الحوار عديم الجدوى معها. اكتفت بأن ترد بأنها انتهت من الحديث، وغادرت الغرفة.
“ومنذ ذلك الحين بدأ كل شيء ينهار بيننا. حتى عندما اكتشفتُ أني أملك قدرة خاصة، كان ردّها… غريباً.”
“كيف كان؟”
عندما سألتها نينا، انقبض وجه فيونا.
“تصرّفت وكأنها فهمت كل شيء فجأة. ‘هكذا إذن، لهذا السبب، لأن فيونا قديسة’… ظلت تكرر ذلك، ثم طالبتني مباشرة.”
“امنحيني تلك القدرة.”
اقشعر جلدها. تلعثمت وهي تجيب بأن هذا مستحيل، فابتسمت لوكريتسيا.
“لكن فيونا تكتفي بالعيش في الميتم، أليس كذلك؟ لا تحتاج إلى شيء.”
أوضحت لها مراراً أنها لا تعرف كيف تهب قدرتها لأحد، ولا يمكنها ذلك أصلاً.
“إذن يكفيني أن أعرف الطريقة.”
هكذا قالت… ثم اختفت من الميتم.
“بصراحة شعرتُ بالارتياح. ثم غرق كل شيء في الفوضى. صاروا ينادونني بالقديسة، والاختبارات، والطقوس… إلى أن التقيتها مجدداً في المختبر.”
وجدتها هناك. في البداية ظنت أن الألم جعلها ترى هلوسات.
لكن ملامح لوكريتسيا أمامها كانت حقيقية. وحين توسلت إليها أن تنقذها، ابتسمت.
“لم أرَ فيونا تبكي بهذه الطريقة من قبل. لم أرَكِ تتلوّين من الألم… أو ينهشك اليأس. كان شكلك فظيعاً. قبيحاً. لو أن إدغار رأى هذا الوجه، ما الذي كان سيفكّر به؟ أنا الوحيدة التي تعرف هذا الوجه.”
تلك البهجة في وجهها… جعلت فيونا تحدّق بها مذهولة. ثم همست.
“لأنكِ القديسة تحبين الجميع، صحيح؟ إذن سأكون الشخص الوحيد الذي تكرهينه. كل ما تملكينه… سأنتزعه. كل شيء، حتى آخر قطرة دم.”
هَمَست وهي تغمس إصبعها في الدم المتساقط تحت منصة التجارب، ثم لامست به شفتيها.
التعليقات لهذا الفصل "156"