الفصل 154
“نعم……؟”
أتُراني أنا المقصودة؟
مع أنّها تعلم أنّ الكلام لا يوجَّه إليها، رمت نينا العبارة وكأنها مزحة. فهزّت فيونا رأسها بقوة.
“ليس الأمر كذلك، بل… رجل غريب في الغرفة المجاورة!”
“رجل غريب؟”
“نعم! تخيّلي، لقد…!”
عضّت فيونا شفتها بقوة، ثم بدّلت ملامحها فجأة، وتغيّر أسلوب حديثها معها.
“يا للعجب، أهناك في هذا العالم أحمق يظن أنّ البكاء والشكوى يحلّان مشاكله؟ وتكون هي القديسة؟ ما أسهل حياتها فعلاً.”
لم يكد المرء يسمع سوى هذه الجملة حتى يعرف على الفور مَن يقلّد نبرتها.
وحين ظهرت على وجه نينا علامة الفهم، تمتمت فيونا بنبرة مذهولة.
“حقاً، أيّ نوع من البشر المقيت يمكن أن يكون هكذا؟!”
“آسفة…….”
“ولِمَ تعتذرين يا سيدة نينا؟”
ارتفع صوت فيونا بحدّة، وكأنها تشكّ في أنّ نينا حرّضته.
“لأنكِ عانيتِ مضايقةً من شخص يقيم لدينا كضيف. ثم إنّ ذلك الـ‘مقيت’ صديقي.”
“ذاك الرجل؟”
“نعم. لا أنوي إنكار أنّه مزعج… لكن على أيّ حال، أعتذر عمّا سبّبه لكِ.”
تنفّست فيونا بعمق، ثم التفتت إلى نينا.
“الأفضل أن تُحسني انتقاء أصدقائك يا سيدة نينا. اعتبريها نصيحة من شخص ذي خبرة سابقة.”
كانت نبرتها لينة، كمن يلقّن طفلاً، فابتسمت نينا بابتسامة مُرّة.
“حسن-”
لم تكمل العبارة، إذ اندفع صوت ساخر يقطعها.
“على الأقل نينا لم تتعرّض لطعنة خيانة من صديق. من لا يعرف كيف يميّز الناس هو الطرف الذي خانوه، لا نينا.”
“أه… راندل.”
رجاءً.
كفى.
خرج راندل من داخل غرفة فيونا، وقدّم إليها الوسادة قائلاً.
“حين ترمين فراش مضيفك، لا ترميه خارج الغرفة. فوسائد الريش أغلى مما يمكنك تحمّله.”
خَطفت فيونا الوسادة من يده بعصبية.
“أحمق.”
“حين يعجز الكلام عن الوصول، يبدأ المرء بالشتائم إذن.”
“غبي.”
“أشعر بالأسى، لا تجيدين سوى الشتائم؟”
“متذمّر.”
انفلتت من نينا ضحكة قصيرة، فتجهّم راندل نحوها. فشدّت معطفه نحوها وانحنت أمام فيونا.
“أعتذر حق-”
“ولماذا تعتذر السيدة نينا؟!”
“ولمَ تعتذرين أصلاً؟”
جاء الصوتان معاً؛ راندل يجذبها من مؤخرة عنقها، وفيونا تصرخ باستياء. وقفت نينا مستقيمة بلا قصد، تتلفت بينهما. فقالت فيونا.
“ليست السيدة نينا مَن يتحمّل تبعات أفعال أصدقائها. من عليه الاعتذار هو ذلك الشخص!”
طعنت الهواء بإصبعها وهي تشير إلى راندل كأنها تطعنه، فاكتفى بإيماءة.
“المشكلة فقط أنّي لا أملك أدنى رغبة في الاعتذار.”
“طبعاً، فطباعك رديئة إلى حدّ بائس.”
أطلقتها فيونا بهدوء بارد، فيما خطرت في ذهن نينا فكرة: حقاً، أبناء الشوارع كل متميز بذاته.
ثم قالت فيونا.
“تابعي ما كنتِ تفعلينه يا سيدة نينا. أعذريني على الإزعاج.”
“ليس هناك ما يُعتذر عنه. إن احتجتِ إليّ في أي وقت، ناديني فقط.”
“هل آخذ هذا على محمل الجد؟”
“من ميزاتي أنني لا أتفوّه بكلام فارغ.”
أضاءت ملامح فيونا بابتسامة واسعة.
“شكراً لكِ.”
“على الرحب.”
ثم أعادت نفخ الوسادة وصفّفتها وهي تدخل غرفتها.
“يا لها من شخصية.”
همس راندل من خلف نينا، فحجدته بنظرة حادّة.
“ما الذي فعلته لضيفتنا؟”
“وأنا أيضاً ضيف.”
“أنت صديقي، أما فيونا فهي امرأة وصلت إلى هنا بعد إصابة خطيرة.”
“ومع ذلك تركض وتقفز الآن كأن شيئاً لم يكن.”
“حين تكلم الآخرين، راعِ كلماتك. ما الفائدة من إيذاء أحد؟ أنت نفسك لا تحب أن يُؤذيك أحد.”
“ليس تماماً.”
صرف بصره جانباً متذمّراً، فوضعت نينا يدها على خصرها قبل أن تزفر تنهيدة قصيرة.
سيتحسّن مع الوقت… ربما هذه بداية مراهقته المتأخرة. على كلٍّ…
أيمكن أن يكون لقاء البطل والبطلة على هذا النحو؟
ربما… أليس الشجار والاصطدام أولاً من كلاسيكيات الرومانسية الكوميدية؟ لكن هذين الاثنين معاً…؟
كلّما فكّرت فيهما واقعياً، ازداد يقينها أنّ الأمر لا أمل في نجاحه.
‘فلأستسلم فحسب.’
من كان يتصوّر أن تتلقى اعترافاً من أدريان؟
الاعتماد على ذلك الكتاب—أو أيا كان هذا تجسّدا كان أو عودة بالزمن —للتنبؤ بالعلاقات البشرية كان خطأً من البداية.
“إن واصلت التصرف هكذا، لن أعطيكَ هديتي.”
“هدية؟”
ارتفعت أذن راندل اهتماماً؛ وبدا وجهه مضيئاً كوجه طفل، فابتسمت نينا.
“أجل.”
“وما هي؟”
“سرّ.”
عندها تذمّر راندل بخفة: “حسناً، إن كنتِ ستصلين الأمر بالرشاوى…”
“ليست رشوة، بل هدية.” صحّحت نينا.
أومأ راندل وقد بدا راضياً تماماً ثم غادر. ربما لم يسبق له أن تلقّى هدية من صديق قط.
نظرت نينا خلسة صوب غرفة فيونا. بما أنّ راندل يعرف أكثر ما يخصّ فيونا، فقد عقدت العزم على أن تخبر فيونا عنه في وقت لاحق.
ثم رتّبت ثيابها مجدداً واتجهت نحو المكتب.
طرقت الباب بأدب ودخلت، فرفع أدريان رأسه.
“نينا.”
استقبلها بابتسامة لا تختلف عن المعتاد، فغمرها شعور غريب لا يُفَسَّر.
كان أدريان يبذل جهده ليحافظ على هدوء لا تشوبه غلظة.
في الفجر أدرك الحقيقة.
نينا لا تراه رجلاً. إذن لا بدّ من البدء من هناك.
“سيدي الشاب، هل أنت شديد الانشغال؟”
“لا، لقد… انتهيت الآن.”
وقّع على آخر ورقة وسلّمها إلى التابع الواقف بجانبه.
ثم انحنى التابع باحترام، كأنه يعرض انحناءه على نينا نفسها. فتفاجأت حين رأته… جاك.
‘لم أنتبه أنه هو سوى الآن.’
تنفّست ونادت باسمه.
“مرحباً يا جاك.”
“أهناك ما يشغلكِ يا سيدتي؟ لم تتعرفي عليّ من أول انحناءة.”
سألها بخفة ضاحكة.
“ربما… كانت هناك بعض الأحداث.”
“لستِ منهكة مما حدث أمس؟”
داعبها جاك بنبرة مازحة، فارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة.
“حدث الكثير بالأمس… آه، لا تقل إنك كنت تراقب؟”
“أبداً.”
لوّح بيده نافياً. ثم نظر بين الاثنين وتابع.
“إذن أستأذن. تحدثا براحتكما.”
انسحب جاك، وبقي الاثنان وحدهما في المكتب.
جَوّ خفيف لكن عالقاً في المنتصف كان يخيم على المكان.
هل يتطرقان إلى ما وقع البارحة؟ أم يتجاوزانه بمراوغة؟
فتح أدريان شفتيه أولاً.
“نينا—”
غير أنّ العالم غمره بياض خاطف، كصعقة برق.
***
حين استعادت وعيها، كان أدريان يطوّقها بذراعيه بإحكام.
‘لقد تعرضنا لهجوم.’
كانت ممدّدة فوقه، لكنه كان هو من يحبسها بين ذراعيه، كأنما يحتضنها ليحميها.
العالم حولهما بلا لون.
‘آه، دخلنا الى ظله.’
أحسّت نينا بقوة ذراعَي أدريان وبصدره القريب من وجهها؛ خفقان قلبه الكبير يضرب أذنها.
من شدّة قبضته كانت تقرأ خوفه. كانت تقرأ كم يَعِزّ عليه أمرها.
كتفاه العريضتان، جسده الصلب، حرارته، صوت قلبه، قوته…
أمور مألوفة، لكنها انسابت إليها من جديد كأنها تعرفها للمرة الأولى.
كان تماسّ فخذَيه المتشابكين بها يربكها.
كان طول ساقيه يفوق طول ساقيها بكثير، وقد بدا الفارق واضحاً الآن.
وتحركت نينا قليلاً، سمعته يسأل بنبرة منخفضة.
“هل أنتِ بخير؟”
أقلقه صمتها الطويل.
“أه…….”
كان جوابها المرتبك كافياً ليجعله ينقلب جانباً دفعة واحدة.
وفي لحظة أصبحت تحته، فأفلت منها أنين صغير.
بادر فوراً إلى الابتعاد عنها، مسنداً وزنه إلى مرفقيه وركبتيه، ملامحه مشدودة وهو يتفحّصها.
“هل تأذّيتِ؟ أتشعرين بسوء؟”
“أنا سليمة.”
رغبت نينا أن تمدّ ذراعيها نحوه، وأن تضمّ كتفيه وتدفن وجهها عند عنقه.
رفعت يدها إليه…
فتفاداها أدريان.
تجمدت أصابعها لحظة في حرج، فحوّل نظراته بعيداً.
“فلننهض إذن.”
تفقّد المكان أولاً، ثم وقف وأعانها على الوقوف.
كان تصرفه مؤدباً، لكن ليس بالعفوية القديمة نفسها.
عاد العالم يستعيد ألوانه.
نظر أدريان إلى النافذة وارتسمت على شفتيه ابتسامة مرة.
حاجز نينا كان قد غلّف القصر كله؛ نقوش الصقيع على الزجاج بدت خلابة.
لم يكن غريباً إذن أن بصره بدا أثقل.
“حين نخرج من الظلال، تشعر عيناي كأن شيئاً يلسعها. ما ذلك الضوء يا ترى؟”
فركت نينا عينيها، وكان ذلك التصرف محبوباً لدرجة أنّه راقبها لحظة قبل أن يجيب.
“لا أدري. لكنّنا سنعرف حالاً—”
دقّ، دقّ، دقّ!
“سيدي! هل أنتم بخير؟ سندخل الآن!”
“ها قد… عرفنا.”
التعليقات لهذا الفصل "154"