الفصل 151
كان وقتاً لالتقاط الأنفاس وترتيب الثياب. واقتيدت نينا هي أيضاً بمعصمين ممسوكين إلى غرفة الاستراحة.
انهالت الفتيات عليها بأسئلة عن مهام الفرسان أو عن بيلّاك، وكانت تجيبهن مبتسمة. وتكررت أسئلة عمّا يلزم للالتحاق بسلك الفرسان، فكانت تقول إن من يملك الكفاءة فليتقدّم لاختبار القبول.
وعندما تحولت مواضيع الحديث إلى اتجاه آخر، نهضت نينا في هدوء.
خارج غرفة الاستراحة رواق يصل مباشرة بالحديقة، وفي نهايته يمتد ممر يؤدي إلى قاعة الرقص.
وما إن خطت إلى الحديقة حتى بدا لها الليل فيها مختلفاً. عبر الظلال بين الشجيرات الداكنة ونوافير الماء الموشّحة بالضوء، لمحت نينا جان مستلقيًا وقد مدّ ساقيه باسترخاء.
فتحت فمها دهشة ثم انفجرت ضاحكة.
“جان؟ ماذا تفعل هنا؟”
“أستريح من الإرهاق.”
نظرت نينا إلى القنينة قربه.
“أكنت تشرب؟”
“لا. لست ثَمِلاً.”
أجاب بصوت ثابت، فجلست بقربه.
“وما الذي يجعلك تتمدّد هكذا إذن؟”
“لا رغبة لي في الجلوس أو الوقوف.”
“أأنت بخير؟”
انحنت قليلاً نحوه تتابع ملامحه. تطلّع إليها.
“أتشتهين شيئاً؟”
“هكذا بلا مقدّمات؟”
فكّرت قليلاً وهزّت رأسها.
“ليس حقاً.”
“وشخص عزيز؟”
“طبعاً. أحدهم أمامي الآن.”
تبسّم بخفة، ومدّ يده يلامس وجنتها. وفي لحظة غدت ملامحه بالغة الجدية، وانعكس وميض أخضر عميق في عينيه وسط الظلمة.
طال الصمت بينهما.
حين نادتْه همساً: “جان؟” حرّر وجهها وعاد فاستلقى بثقل على الأرض.
“هذا يكفيني.”
“ماذا؟ وما الأمر؟ له علاقة بما دار بينك وبين تلك القدّيسة، أليس كذلك؟”
“نعم، لكن ليس شيئًا ينبغي أن أحدّثك عنه.”
“أكنتما تغتابانني؟”
ضحك، ثم جذب نينا نحوه دفعة واحدة. انقلبت فوقه، فارتفع صوتها.
“أتعرفين؟ فكرة أن الكون كله يدور حولك… لو تتخلّين عنها قليلاً.”
“ولمَ؟ ألستُ لطيفة إلى هذا الحد؟”
رمشتْ له، فتنفّس جان بعمق، وجذب خدّها بخفة ثم تركه.
“كيف انتهى بي المطاف معك حتى صار عمري على هذه الشاكلة.”
“على شكل نجمة؟ أم هلال؟”
“كفى. انهضي… اذهبي.”
“لا. لن أتركك هنا تتمتم وتشكو وحدك.”
“قلت لكِ، أنا لست ثملاً.”
أمسكت نينا بذراعه، فساعدته على النهوض بسهولة. مرّر أصابعه في شعره الأحمر وهو يطلق زفرات متتالية، وبدت رائحة الشراب كلما فعل ذلك.
“هذه الرائحة القوية… وأنت تصرّ أنك لست مخموراً!”
“أنا بخير. الغضب يجعل المرء…”
ثم توقّف عن الكلام. أصبح وجه نينا قلقاً.
“أأنت حقاً بخير؟ ماذا قالت لك تلك القدّيسة؟ لم تقل لك أمراً غريباً، صحيح؟”
“هي التي قالت شيئاً غريباً. وأنا غضبت.”
أعرض لها ابتسامة جانبية.
“لا تقلقي. لست متأثراً.”
ثم شبك ذراعيه.
“لكن… نينا، لنتحدّث لاحقاً حديثاً جاداً.”
“عن ماذا؟”
“بعد الحفل. غداً مثلاً.”
“حسناً.”
أجابت في هدوء، فدفعها جان برفق من ظهرها.
“عودي الآن. سأبقى قليلاً.”
“حسناً.”
لوّحت له بقلق، فأشار لها كي تمضي، وبقي واقفاً وذراعاه معقودتان.
“أهناك ما هو ثمين لديك؟”
“إن كان كذلك، فسأجعلك تملكه.”
“ألا ترغب في انتزاعه وتملّكه بين يديك؟”
“اجعله ملكك وحدك.”
كان ذلك الهمس المقيت ما يزال يطنّ في أذنيه.
“يبدو أنني كنتُ مخموراً حقاً.”
تمتم وهو يحدّق في معصمه كأنه يخاطب روحاً ما.
“أما من وسيلة لأصفي بها ذهني؟ أن ينهمر ماء بارد مثلاً؟ لا… هذا الأسلوب—”
وفي تلك اللحظة انسكب سيل جليدي فوقه، فأغرقه حتى العظم.
كانت برودة تشلّ الجسد، فاندفعت منه صرخة غريبة غير مقصودة وهو يقفز من فزعه.
اندفعت خمرة رأسه دفعة واحدة.
وقف جان صامتاً، والماء يقطر منه قطرة بعد أخرى، ثم أزاح شعره المبتل عن جبينه.
“أجل… حسناً. أفقْت. هذا درس في أن المرء لا ينبغي أن يتفوه بما لا حاجة إليه.”
غمغم بذلك ثم أطلق تنهيدة طويلة، متسائلاً كيف عليه أن يفسر حالته الآن.
(روح الماء هي المجرم😭)
***
كانت لوكريتسيا في مزاج بالغ السوء.
– إن حدث لي شيء، فستبكي تلك الفتاة.
– أخشى أن تبكي حتى يذوب الثلج كما يقولون.
– وذاك يكفيني تماماً.
بل ماذا تلاعب لسانها أيضاً؟
– أنتِ لا تعرفين كيف تعتزين بما هو ثمين.
أي هذيان هذا؟ أي هراء؟
من ذا الذي يقول كلاماً كهذا في هذا العالم؟
الجبناء وحدهم يفعلون.
الجبناء الذين يقسمون أنهم سيتشبثون بما هو ثمين، ثم يفشلون في انتزاعه ويمضون يطلقون شعارات مُفرغة مثل: هذا يكفيني.
حدّقت لوكريتسيا في كفّيها.
حين كانتا صغيرتين، أُلقيت هي وفيونا في الميتم ذاته. أقسمت لوكريتسيا أنها سترحل عنه يوماً مهما كلّف الأمر. وكانت فيونا دائماً تشجعها.
لا بأس… سأصطحبك معي، هكذا كانت تقول.
هكذا وعدتها لوكريتسيا.
‘لكنّك خنتِني!’
ظلت فيونا بليدة، تُنتزع منها حقوقها بسهولة، وكانت لوكريتسيا هي من يستردّ تلك الحقوق. وفي كل مرة كانت فيونا تقول: لا داعي لهذا، أنا بخير.
وكان ذلك يثير استفزازها.
كيف يكون ضياع حقّك أمراً بخيراً؟
ولِمَ لا تستعيدينه بنفسك؟
‘إذن أعطيني كل شيء.’
إن لم تكن فيونا بحاجة لأي شيء، وإن كانت نهايتها بائسة على أي حال… فلتسلّمها جميعاً.
قرّرت لوكريتسيا أن تسلب منها كل ما تملك.
وأرادت أن تعرف: إلى أي حد يمكن لفيونا أن تُسلب ثم تبقى بوجه هادئ؟
لقد بكت. بكت بصوت ممزق، مشوّهة الملامح من الألم واليأس.
ولا أحد غير لوكريتسيا رأى ذلك الوجه. منحها ذلك المشهد شعوراً غريباً بالرضى.
حتى كبير الكهنة اعترف بمشاعرها. أدركها.
لطالما رأت في فيونا شخصاً مميزاً… ولم ترها فيونا إلا واحدة بين كثيرين.
لهذا، حين رأت نظرة جان أدركت فوراً. فهمت أنه يجلّ تلك النبيلة — الفيكونتيسة ديل— ويعتبرها شيئاً ثميناً.
‘كنت أظنه سيقع في الفخ.’
لكنه لم يقع، بل ردّ عليها، وهذا أغاظها.
وأسوأ من ذلك… لم يكن جباناً، ولا عاجزاً عن الأخذ.
إنه يصون ما هو ثمين بطريقة لا تعرفها هي.
‘بطريقة لا أعرفها؟’
عضّت إبهامها ثم سحبت يدها بسرعة. ظنّت أنها تخلّت عن تلك العادة الطفولية منذ زمن.
جمعت كفيها، شدّتهما معاً، ورفعت رأسها بابتسامة مصقولة.
انزلقت بين الناس بخفّة، فانحنى لها الجميع.
“سيدتي القديسة، هلّا تشرّفين إمارتنا بزيارة؟ أود أن ترى زوجتي.”
ابتسمت له بابتسامة مشرقة.
“بالطبع، دوق برينان. يسعدني ذلك.”
“امتناني لكم.”
شعرت لوكريتسيا بقشعريرة تسري في عمودها الفقري.
ها قد رأيت!
حتى الدوق ينحني لها!
انظري إلى هذه القاعة المترفة.
الإمبراطور نفسه تبادل معها التحية.
الجميع يتهافت لنيل بركتها، والنبلاء يطأطئون رؤوسهم أمامها.
تلك الحمقاء لا بد أنها استُغِلّت فحسب.
تذكّرت فيونا، فابتسمت ابتسامة صغيرة متواصلة.
“سيدتي القديسة، آن موعد العودة.”
همس قائد فرسان المعبد من خلفها.
رمقت لوكريتسيا غنيمتها.
أعجبها ذلك البريق المعتم في عينيه.
“إذن لنعد، أخي إدغار.”
أرسلت إليه ابتسامة خافتة الإغواء، فطأطأ رأسه في صمت.
التعليقات لهذا الفصل "151"