أجاب بصوت رقيق، فما كان منها إلا أن قفزت نحوه بخفّة واحتضنته. تبسم أدريان بخفوت وسأل.
“لماذا؟ ما الأمر؟”
“يبدو أنّ دوقة برينان ليست امرأة عادية.”
“هكذا؟”
“نعم.”
قصّت باختصار ما جرى بينهما، ثم أضافت.
“قالت إنها ستعرّفني على ألكا.”
“ألكا؟ الساحرة الأخرى؟ جنيّة الورود؟”
“نعم.”
جنيّة الورود ألكا.
وسيد العواصف ديرون.
كلاهما من متعاقدي الأرواح، إلا أنّهما من النواع الرحَّال، فلا يملك حتى رجال أدريان الكثير من المعلومات عنهما.
كان يظن أن لقاءهما قد يقع يوماً ما بوصفهم متعاقدي أرواح جميعا، لكن لم يخطر بباله أن تُهيّأ المناسبة عبر دوقة برينان.
“نينا.”
“نعم؟”
“هناك أمر أودّ قوله لكِ اليوم.”
“ما هو؟”
“حين نعود.”
رفعت رأسها وهي بين ذراعيه، فلم تجد سوى ابتسامته الهادئة المعتادة. ابتعدت عنه خطوة وقالت.
“حسناً.”
غير أنها التقطت شيئاً في نبرته، فصار وجهها جاداً.
“هل نعود الآن؟”
“الحفل لم يبدأ إلا تواً.”
“صحيح، ينبغي إتاحة الوقت للآخرين أيضاً للاستمتاع. فهمت.”
“احجزي لي الرقصة التالية.”
“حاضرة.”
قهقهت بخفة وغادرت التراس. زفر أدريان زفرة واحدة وتبعها.
كانت ألحان الرقص في القاعة قد تبدّلت إلى إيقاع أسرع. الرقصة التي يقف الراقصون فيها في صفّين متقابلين، ويتبادلون الشركاء على نحو متتابع، حازت رواجاً كبيراً.
ينقسمون صفّين، ثم يتخذون مجموعات من خمسة أو ستة ويدورون في حلقة، ثم يعودون إلى الصفّين… حركة تتكرر بلا توقف.
ومن كان سريعاً في الاندساس وسط الصفّ، يبدأ الرقص بسهولة.
قفزت نينا بين كيل وراجا . اتسعت أعين الاثنين حين رأيا من تزاحمت بينهما. ابتسم كيل اتسامة عريضة، بينما احمرّ وجه راجا خجلاً.
“شارلوت قالت إن بإمكاني المشاركة…”
تمتم راجا متذرعاً.
“هذا يكفي.”
قالت نينا، ثم شبكت ذراعها بذراع الشريك التالي ودارت دورة كاملة. راحت تنتقل من مجموعة إلى أخرى، وفي لحظات امتلأت ساحة الرقص بالازدحام.
فقد أتاح هذا النمط من الرقص فرصةً لكلّ من في القاعة ليحظى بدورٍ، ولو مرّة واحدة، مع نينا. وكان من وضعه حظه إلى جانبها أو أمامها يحاول تبادل كلمة معها.
أما صغار النبلاء ممّن ليست لهم صلة بعلية النبلاء، فكانت فرصة العمر لهم ليقولوا لاحقاً: “رقصتُ مع سيّدة السيف نينا”، “تبادلت معها التحية”.
ونينا، بوجهها المشرق، كانت تجيب كلّ من يكلّمها أو يُمطر عليها المديح برفق، حتى يعود كل منهم محمّلاً بذكرى طيبة يرددها طويلاً.
يمتد هذا اللحن عادةً نحو ثلاثين دقيقة، فيخرج الناس ويدخلون كما يشاؤون. وبعد أن اكتفت نينا من الرقص، انسحبت. تقدمت شارلوت وهي تحمل شراباً بارداً.
“هل استمتعتِ؟”
كان صوت شارلوت نفسه متحمساً. هزّت نينا رأسها.
“نعم، استمتعت. شكراً لكِ يا شارلوت.”
“على الرحب.”
“ألا تنضمين أنتِ أيضاً للرقص؟ لا أظن أننا سنحتاج للحراسة اليوم.”
“لا اهتمام لديّ بذلك.”
“فهمت.”
ابتسمت بخفة، ومسحت براحتيها شعر شارلوت الطريّ. احمرّت وجنتا الفتاة وأحنَت رأسها، ثم رفعت يدها فجأة، كما لو أنّها استجمعت شجاعتها.
“أترغبين في رقصة معي؟”
“حسناً، حين يتبدل اللحن تكونين رقم واحد يا شارلوت، وليكن أدريان رقم اثنين.”
همست نينا بجملتها الأخيرة بخفوت، فابتسمت شارلوت ببهجة واسعة.
كان من السهل تحديد أفراد الفيلق بزيّهم الأسود. راحت نينا تبحث عن جان، فوقعت عينها على مشهد طريف.
كان جان يتحدث مع القدّيسة لوكريتسيا.
لاحظت شارلوت وجهة نظر نينا، فحولت بصرها إلى هناك وقالت.
“كان محاصرا بسيدات الطبقة الراقية حتى كادت يُرهق، فهرب إلى الحديقة، ثم عاد مع القدّيسة.”
“هم… ملامحهما ليست طيبة.”
كان جان يبدو كمن يوشك على الانفجار، والعجيب أنّ لوكريتسيا أيضاً بدت بوجه غير راضٍ.
من النادر أن تظهر عليها مثل هذه الصراحة، فاستغربت نينا.
‘صحيح أن لجان جانباً كهذا…’
صراحته المباشرة كثيراً ما تستخرج الصراحة ذاتها ممن يحدثهم.
لكن ما الذي كانا يتناقشان فيه، وهما بذاك الوجه؟
تساءلت نينا: هل ينبغي أن تتدخل؟ أم تترك الأمر لجان ليتصرف؟
وفي تلك اللحظة رأت بان يقترب منهما حاملاً شراباً.
‘آه.’
استراحت. وراودها شيء من الفخر.
فمن دون أي أوامر من قادتهم، كان الفرسان يراقب بعضهم بعضاً ويحرسون ظهر بعضهم.
أفرغ جان الشراب دفعة واحدة، ثم حيا لوكريتسيا باحترام وغادر.
بدا بان يتولى تهدئة الموقف، ثم قالت لوكريتسيا له شيئاً ما قبل أن تستعيد ابتسامتها المعتادة وتعود إلى رفاقها.
وقع بصر نينا على إدغار الواقف كالعمود. شعرت برغبة في صفْعه.
فيونا بحاجة إليه في تلك اللحظة، فما الذي كان يفعله واقفاً هناك بلا حركة؟
خطر ببالها كلام دوقة برينان، ديليا.
قالت إن تحمّل المسؤولية حسن، لكن ليس حين يمنع صاحبه من التفكير بالآخر.
وها هو يفعل ذلك تماماً.
رأت جان يعبر قاعة الحفل سريعاً ويخرج كما لو كان يهرب. همّت باللحاق به، لكن الموسيقى تبدلت في لحظة مناسبة جداً.
بادرت شارلوت.
“يمكنكِ الذهاب لرؤية نائب القائدة أولاً.”
كان ذلك الابتسام المألوف ممن اعتادوا هذه المواقف، فأمسكت نينا يدها قائلة.
“شارلوت أولاً.”
اتسعت عينا شارلوت بلون النعناع، ثم ابتسمت. ولأن خطوات شارلوت في دور الرجل كانت متقنة، استطاعت نينا أن تستمتع بالرقص.
وبعد التحية، رافقت شارلوت نينا إلى خارج ساحة الرقص. كان أدريان ينتظر هناك.
سلّم عصاه للخادم وأمسك يد نينا.
اللحن الجديد كان أعقد من الأول.
“لن تدوس قدمي أليس كذلك؟.”
ضحكت نينا وهي تتوعده، فابتسم أدريان.
“بالطبع.”
وبما أنّه اعتاد الآن على الإيقاع، قادها بحرفية كافية لتجاوز ارتباكهما السابق.
التعليقات لهذا الفصل "150"