دخلت الأميرةُ فيارنتيل والأميرُ باراديف معًا. وكالعادة، كانت فيارنتيل تتلألأ بتاجها الدائري المترف، بينما اكتفى باراديف بتاج بسيط.
وقد أمكن معرفة أنهما شقيقان من خصلات شعرهما بلون الماء وأعينهما ذات الظلال نفسها، غير أنّ التباين بينهما، على الرغم من هذه القرابة، كان صارخًا حدّ القسوة.
أدى الجميع التحية للأميرة والأمير، فاكتفيا بعبورٍ خفيف عبر أرضية القاعة ثم توقّفا. بدا جليًا أنّهما يريدان إنجاز ما أتيا لأجله دون مجاملات، وهذا ما يليق بعائلة الإمبراطورية.
ولأن أرفع أفراد الأسرة الإمبراطورية منزلة هو الذي يجب أن يبدأ الرقصة، ظل الجميع ينتظر دخولهما. وما إن انطلقت الموسيقى وبدأ الاثنان بالرقص، حتى تتابع الداخلون إلى أرض البهو.
مدَّ أدريان يده إلى نينا.
“هل تمنحينني هذه الرقصة؟”
“بالطبع.”
وما إن دلفا إلى الأرضية والتصقت يدها في يده، حتى أخذ قلبه يخفق بعنف.
كانت المسافة القلقة بين أطراف القدمين، والذراع الملتفة حول ظهرها، والأصابع المتشابكة، جميعها أمورًا تكفي لبعثرة انتباهه.
ومع أنه لم يكن أول اقتراب بينهما، إلا أنّ فكرة أن هذه أول رقصة لهما معًا جعلت الارتباك يتسلل إليه.
‘لا يجب أن أخطئ.’
ما إن فكّر بهذا حتى نسي الخطوة الأولى تمامًا، وابيضّت أفكاره من الدهشة.
غير أنّ الجسد الحافظ لتفاصيل الرقص أكثر من الرأس التائه أدّى ما يجب، فعاد إليه وعيه بصعوبة. بل إن اهتزازة ضحكة صغيرة من نينا مست صدره، فزفر طويلًا.
“أنت غريب اليوم.”
توقّف للحظة عند قولها الأول. فأضافت بمزاح لطيف.
“أأنا جميلة إلى هذا الحد؟”
“نعم.”
أجاب بثبات، فتبسمت في رقة؛ فصديق طفولتها لا يجيد الممازحة في الأغلب.
وحين انتهت الرقصة الأولى، انفرج جوّ القاعة.
وفي الجهة الأخرى، حنت فيارنتيل رأسها نحو باراديف وهمست.
“لو دستَ على قدمي مرة أخرى لقتلتك.”
“أعتذر.”
كان الدوس على قدم أميرة تؤمن بأن أفراد العائلة الإمبراطورية يجب أن يكونوا مثالًا للكمال، فضيحةً لا تُغتفر، فأحس باراديف بالخجل… وبالظلم أيضًا.
‘لم يخبروني أنها ستأتي هكذا!’
لو أنّ نينا نبهته، ولو بكلمة، أنها سترتدي فستانًا، لما حدث كل هذا. فقد شتّتته لحظة رؤيتها؛ تلاشى كل ما علق به من كوابيس الأمس وهمومه، وانصرفت عيناه عنها إلى حد أنه لم ينتبه لخطواته، فوطئ قدم فيارنتيل.
وإن كان غضّ البصر عن شريك الرقص يُعدّ قلة احترام، فهو لم يستطع ردّ نظره عنها مهما حاول.
وما إن أنهى التحية، حتى هرع يبحث عن نينا.
“سيدة نينا.”
شق طريقه بين الرجال الذين يطلبون رقصة منها، واقترب كثيرًا.
“صاحب السمو الأمير باراديف.”
انحنت نينا بخفة وهي تبتسم، ثم استقامت.
لكنه ظل يحدّق، عاجزًا عن وصل الكلمات، فساورها القلق. خافت أن يعود لثرثرته الغريبة كما فعل سابقًا، لكنها الآن وسط جمع من الناس، والاعتراف بالحب أمام الجميع مسألة أخرى تمامًا.
مدّ باراديف يده.
“أتشرفينني برقصة؟”
وضعت يدها فوق يده، ومع إيقاع اللحن انسابا معًا إلى أرضية البهو.
قال مرة إنه يميل لأن يكون بائعا، لكنه لم يقصد السخرية من نفسه. في الحقيقة، كان بائعا ذا نتائج باهرة، ثابت الثقة كما هم أمثاله دائمًا—خصوصًا حين يتعلق الأمر بما يبيعونه.
والآن لم يكن يبيع قلمًا، بل كان يبيع نفسه. وكان باراديف مقتنعًا تمامًا، حتى العظم، بأنه وجود ذو قيمة عظيمة، يستحق أن تُعلق به مصائر البيوت، بل الأرواح.
فكل طفل في الإمبراطورية يحلم يومًا بـالعصر الذهبي الذي يمكنه أن يخلقه بيديه. وباراديف، وإن اختلفت طرقه عن طرق فيارنتيل، لم يشك لحظة أنه قادر على صنعه.
فيارنتيل… وهو.
كان بين الاثنين فرقٌ جوهري واحد فحسب.
هل يجرؤ الإنسان على أن يجعل نفسه ضمن رهانات لعبته، أم لا؟
وكان ذلك، في نظره، الفارق الأكبر. فقد امتلك الجرأة الكافية ليضع حياته ذاتها على طاولة المقامرة. بل وكان محظوظًا أيضًا، أليس كذلك؟ فكم مرة كانت نينا تظهر في اللحظة الحرجة لتنقذه؟
أليس الحظ أهم ما يحتاجه المرء ليصير إمبراطورًا؟
لقد تربّى وتعلم ليكون حاكمًا للإمبراطورية، ولن يخوض غير إنسان جسورٍ حربًا على العرش يغامر فيها بروحه.
ولهذا كان راضيًا تمامًا عن نفسه… خصوصًا عن نفسه بوصفه أميرًا.
إلا أنّه تساءل في داخله.
من ذا الذي يقبل هذا المنصب المجنون—منصب إمبراطور الإمبراطورية—لو لم يكن في داخله شيء من الأنانية؟
لكن…
حدّق باراديف في رموش نينا الطويلة البيضاء، مذهولًا.
الكلمات التي كانت تنساب عادة على لسانه لم تخرج. كل ما فعله أنه رقص كأبله، ولسانه ملتزم سقف فمه لا ينفك عنه.
الثقة بالنفس، الغرور والكبرياء بصفته الأمير، كلها تبخرت في حضرة نينا.
دائمًا…
دائمًا هكذا يتحول إلى أحمق.
“أنتِ جميلة حقًا هذا المساء.”
هذا كل ما استطاع قوله. فوبّخ نفسه سرًا. أين اختفت العبارات الباهرة التي كان بالعادة يلقيها؟
ابتسمت نينا بصدق وقالت.
“شكرًا لك.”
حاول باراديف جاهدًا ألا يرفع رأسه إلى السقف ويزفر بحماقة.
“هلا تذهبين إلى الشرفة قليلًا؟ أظن علينا إتمام حديثنا السابق.”
هزّت نينا رأسها موافقة. وبعد أن أنهيا الرقص بما لا يخلّ بالآداب، غادرا أرضية القاعة واتجها معًا نحو الشرفة.
سواء أرادا أم لم يريدا، فقد كانت أنظار الحاضرين تتبع كل خطوة من خطواتهما، لذلك أثار خروجهما معًا موجة صغيرة من الهمس.
كانت على جانبي القاعة نوافذ زجاجية ضخمة بين الأعمدة، وما إن تُفتح حتى تقود إلى شرفات خاصة.
تمددت نينا بخفة، وكان هواء آخر الصيف ليلًا باردًا لطيفًا. ومن الحديقة الخارجية تسللت أصوات الزائرين المتجولين.
فالنبلاء الفقراء القادمون من بعيد، وكذلك النبلاء الأجانب، يعتبرون زيارة القصر الإمبراطوري فخرًا كبيرًا، ولذلك كانوا يتنقلون في كل مكان.
وقف باراديف يراقب نينا وهي تتكئ على حاجز الشرفة وتنظر إلى الحديقة. ولما التفتت إليه، زفر بعمق.
لماذا يصبح أحمق في حضرتها؟
الجواب… عرفه الآن.
لأنه يريد منها أن تراه هو—باراديف الإنسان—لا باراديف الأمير.
ومع أنه كان يعلم أن الفصل بين هويته الشخصية ومكانته كأمير أمر مستحيل—فذلك لقب يجري في دمه ويشكّل رسالته—إلا أنّه…
أراد ذلك.
أراد أمرًا طفوليًا، غير منطقي، لا يحدث حتى في القصص الخيالية، وهو أن تميّز المرأة أمامه ما لا يمكنه هو نفسه تمييزه.
وعندما يرى في عينيها الباردتين كضوء القمر ما يشبه اللطف…
كان يشعر بذلك الرجاء.
كتم ابتسامة مريرة، ونظر مباشرة في عينيها. لمّا ابتسم بخفوت، رمقته نينا بنظرة جادة.
‘لماذا…؟’
جاء الجواب أسرع وأوضح مما توقّع، حادًا كالسيف.
“أعتذر، يا صاحب السمو.”
أدرك باراديف أنّ هذه هي خاتمة حديثهما السابق، فانخفض بصره.
ظن أنه لم يكن يأمل… لكنه شعر بالألم رغم ذلك.
دخلت الموسيقى وضحكات الناس عبر النافذة المفتوحة، فخفّف هذا على الأقل من ثقل الصمت بينهما.
وحين رفع رأسه من جديد كانت التعابير المعقدة قد اختفت. وارتسمت على وجهه ابتسامة بارعة، محترفة، كما اعتاد دائمًا.
“شكرًا لكِ يا سيدة نينا. لقد أرحتي قلبي.”
“لا شكر على واجب.”
“وهذا… طلب شخصي.”
“تفضل.”
“مع أن الوقت ليس مناسبًا لقول هذا… هل يمكن أن تعتبريني… أحد معارفك على الأقل؟ لن أطلب أن أكون صديقًا.”
أجابت نينا بالموافقة، فتنفس هو الصعداء. كان آخر ما يريده أن تهرب منه أو تُظهر نفورًا كلما رأته.
وانحنى أمامها. الانحناء ليس من أفعال الأمراء إلا أمام الإمبراطور، لكنه أراد ذلك.
“يشرفني أنني وُلدت في عصر واحد معك، وأنني تمكنت من لقائك. أتمنى لكِ السعادة.”
انحنت نينا بدورها، فابتسم ابتسامة صغيرة.
“سيتجمع الناس هنا مثل الذباب الذي شمّ رائحة اللحم، لذا سأخرج أولًا. خذي وقتك قبل أن تعودي.”
“وماذا ستقول لهم؟”
“سأقول إنها مجرد أحاديث شخصية، لا أكثر.”
فالأعذار السيئة أفضل من الحقيقة البسيطة.
قبّل باراديف ظهر يدها وغادر الشرفة. وما إن اختفى حتى وضعت نينا كفيها على خديها وتنهدت طويلًا.
التعليقات لهذا الفصل "147"