الفصل 143
“هذا لقائنا الأول.”
“بشكل ما… لا أدري لماذا يبدو الأمر مألوفًا…”
“ربما التقينا في حلم مثلًا؟”
قالت نينا وهي تميل برأسها قليلًا، فابتسمت فيونا بخفة من جديد. أثار ذلك في نينا دهشة صامتة.
أن تتمكن من الابتسام هكذا بعد كل ما مرّت به… إن ذلك ليس مجرد أمر مدهش، بل شيء أشبه بالنضج.
فيونا أخذت تتأمل نينا مليًّا.
عينان ذهبيّتان كالشمس، ملامح مرتبة ونقية، وشعر أبيض يلمع كالثلج.
لو رأتها من قبل لتذكّرتها، لكنها لا تتذكر. رغم ذلك، هناك شيء يوحي بألفة غريبة.
“هل يمكنكِ أن تخبريني؟”
سألت نينا.
فمن أجل إعادة انظيم أي شيء، كتب، ثياب، أو حتى الأفكار، لا بد من إخراج كل شيء أولًا.
وما إن يُخرج المرء كل شيء، يصبح جمعه مجددًا سهلًا وصعبًا في آن واحد.
والأفكار كذلك؛ لا تُرتَّب إلا إذا أُفرِغت كلّها.
ورغم صعوبة صياغة ما يسكن القلب بالكلمات، لكنه ما يجب فعله الآن.
أومأت فيونا، لكنها بقيت صامتة طويلًا. البدء دائمًا هو الأصعب.
“نشأتُ في ميتم المعبد. إلى هنا، لم تكن هناك مشكلة. المشكلة كانت… أنا.”
بدت كأنها تنتقي كلماتها بحذر، ثم تمتمت بنبرة تفتقر لليقين.
“بعد أن ظهرت لديّ قدرة غريبة. بالتأكيد…”
بدت وكأن ما قالته ليس سوى جزء من الحقيقة، ومع ذلك لم تُرِد نينا الضغط عليها.
“قدرة غريبة؟”
“كنت أستطيع إنبات النباتات، إزهارها… وشفاء الجروح.”
“أفهم.”
أومأت نينا كأن الأمر ليس غريبًا على الإطلاق.
ولما شعرت بأن فيونا تراقب ردة فعلها، رفعت نينا يدها.
حرّكت أصابعها، فتكوّنت بينهما رقاقات صغيرة من الجليد ترقص في الهواء.
كانت تتلألأ تحت ضوء الشمس المائل من النافذة كأنها شظايا ألماس.
ثم قبضت نينا يدها فاختفت البلّورات. عندها تنفست فيونا بعمق.
“أنتِ مستحضِرة أرواح، إذًا.”
“نعم.”
“وأنا… قديسة.”
نطقت فيونا الجملة بمرارة ساخرة.
فكّرت نينا إن كان عليها ذكر لوكريتسيا، لكنها آثرت الإنصات أولًا.
“الكاهن الأكبر أشتون اكتشف قدرتي، ثم أخذني إلى راعي الكهنة. أراد اختبار قوتي. حتى تطهير قطعة صغيرة من بيلّاك كانت ضمن الاختبار.”
وبحسب ما روته فيونا، فالأحداث تتابعت على هذا النحو.
في البداية، قيل لها إنها تحتاج تدريبًا كقديسة، فتم فصلها عن العالم الخارجي.
كان يُسمح لها بلقاء أطفال الميتم، لكن عند حلول الليل، كانت تُنقل سرًا إلى مكان آخر.
في تلك الفترة كان إدغار معها؛ فهما من الميتم نفسه، كالأخ والأخت.
ثم أخذت فترات العزل تطول.
“قاموا بأشياء مروّعة بي.”
لم تضف أكثر، لكن نبرتها كانت كافية لإيضاح كل شيء.
نينا اكتفت بالإيماءة، متفهمة رغبتها في عدم الخوض في التفاصيل.
ترددت فيونا قليلًا، ثم نطقت بما هو أخطر.
“أدخلوا إلى جسدي شظايا من أرواح فاسدة.”
حتى نغزة إبرة تُألم، فكيف بشيء كهذا يُدفع داخل الجسد.
“شظايا أرواح فاسدة؟”
“نعم… ثم استعادوها لاحقًا. بعضها ذاب واختفى داخل جسدي.”
مررت يدها على ذراعها، وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم أسرعت تتابع لتطرد الذكرى.
“بعدها لم يُسمح لي بالخروج أبدًا. حينها جاء إدغار.”
لا تعرف كيف عرف مكانها، لكنه وصل إلى موضع احتجازها.
أخذها معه وعاد بها إلى الميتم. أمضيا هناك عدة أيام.
“لم يخبرني بالكثير… إدغار…”
لكن مجرد وجودهما في الميتم لم يكن كافيًا للسلامة. قال لها ذلك، وبدأ التخطيط لنقلها ونقل الأطفال إلى مكان آخر.
وعندما غادروا العاصمة ظنوا أنهم نجحوا.
ارتجفت فيونا واحتضنت نفسها بذراعيها.
“لكن ذلك كان فخًا.”
“اختُطِفتِ، إذن.”
“نعم.”
كان إدغار معهم. للحظة، ظنت أن كل شيء انتهى. وعندما فتحت عينيها، وجدت نفسها وحدها.
استمرت تجارب مجهولة لا تنتهي، وبعد كل تجربة كانت تُحبس في غرفة بلا شيء…
لا حمام، لا أثاث، ولا أي شيء.
“لا أعرف كم من الوقت مرّ.”
حين أنهت فيونا حديثها، كان النهار قد انتهى بالفعل. دخلت الخادمة حاملة وجبة المرضى. أنهت فيونا الحساء الصافي حتى آخر قطرة وتناولت دواءها.
وبعد أن أنهكها الكلام، غرقت في النوم سريعًا، فنهضت نينا من مكانها.
‘رأسي فوضى كاملة.’
لكن ترتيب الأفكار ليس مهمتها اليوم. نينا توجهت مباشرة إلى مكتب العمل.
ولما وصلت إلى بابه، أدركت أن ذهنها مزدحم لدرجة أنها لا تعرف من أين تبدأ.
وقفت عند العتبة دون أن تدخل، محاولـةً جمع شتات أفكارها.
كان أدريان قد شعر بقدومها، لكنه لم يعجلها. انتظر بصبر ما ستفعله بعد ذلك.
وحين بدا أنها رتّبت رأسها، دخلت بخفة وسألت.
“التقرير أولًا؟ أم الكلام الشخصي؟ أيهما نبدأ؟”
“هل تحتاجين للتمييز بينهما؟”
عند سماع كلامه، هتفت.
“أدريـاان~.”
وجذبته من كرسي المكتب وأجلسته على الأريكة، ثم جلست إلى جواره على الأرض وأسندت رأسها إلى ساقه.
“حسنًا، حسنًا.”
ربت على كتفها كما اعتاد.
“اليوم متعب فعلًا.”
“كنتِ مشغولة من الصباح.”
“نعم، آآه…”
تنهدت نينا وهي تتذكر باراديف. نعم… يجب أن تبدأ من هناك.
“باراديف يريدني أن أكون وليّة العهد.”
لم يبدُ أدريان مندهشًا. اكتفى بقوله الهادئ.
“أرى.”
أسندت نينا رأسها إلى فخذه وأطلقت زفيرًا طويلًا.
“أعتقد أنه جاد فعلًا. لكنه كان مباشرًا لدرجة أني اضطررت لرفضه مباشرة. أنا… ولية عهد؟”
ضحكت لغرابة الفكرة.
رفعت رأسها فجأة ونظرت إليه مباشرة.
“ما رأيك أنتَ؟”
“بماذا؟”
“بأن أصبح ولية عهد.”
توقعت منه ابتسامة، أو نقرة على جبهتها، أو حتى تنهدًا… لكنه لم يفعل.
عيناه الوردية الهادئة فقط كانت تحدّق فيها بثبات.
أحست نينا بشيء يشبه الحرج؛ كأنها ألقت مزحة ولم يتعامل معها كمزحة.
لكن…
كانت تريد شيئًا منه. تريد أن تتأكد. ما الذي تتمنى أن تسمعه منه بالضبط؟
“هل ترغبين به؟ بكرسي ولية العهد؟ أم أن باراديف أصبح مميزًا عندكِ؟”
لم يكن في صوته أي مزاح.
حدقت نينا مباشرة في عينيه دون حتى أن ترمش.
“شخص يخبرني أنه يحبني… طبيعي أن يصبح مميزًا.”
سواء كان الأمر جيدًا أو سيئًا، فالأثر نفسه… لا بد أن يكون مميزًا.
قطبت ملامح أدريان قليلًا.
“وفوق ذلك تسألني إن كنت أطمع بكرسي ولية العهد؟ هل أنا من ذلك النوع؟ لو أردت شيئًا كهذا لكنت حصلت عليه منذ زمن.”
وما كانت لتكون هنا الآن.
حرف أدريان بصره ثم عاد ينظر إليها.
“صحيح.”
“أدريان.”
سألته نينا.
“هل ترغب أنت بأن تصبح… وليًّا للعهد؟”
“؟!”
مرّ صدمة خاطفة على وجهه. أدركت نينا أنها اختارت الكلمة الخطأ.
بالنسبة لرجل… ما الوصف الصحيح؟
“ممم… ما الاسم المقابل؟ زوج ولي العهد؟”
لم يخطر ببالها سوى العشيق الملكي. وهذا قطعًا ليس المقصود.
“ماذا…؟”
تمكن بصعوبة من إخراج الكلمة، فنظرت إليه بقلق.
“لا، فقط… شعرتُ منذ مدة بأنك تهتم كثيرًا بالأمير باراديف.”
“آه… نينا…”
مرر أصابعه على وجهه بيأس ظاهر.
نهضت نينا وجلست فوق ركبتيه، مسندة ذقنها عليها، فنظر إليها بضعف.
لكن سرعان ما لاحظ ارتجاف زاويتي شفتيها.
“نينا لا ديل!”
صرخ بتوبيخ غير إرادي، فانفجرت هي بالضحك.
(امسكو نينا مزاحها ثقيل شوي وجتني سكتة قلبية😭💔)
“لا أرغب بذلك، وهو ليس أكثر تميزًا منك. وكنتُ قد وعدتك… إن ظهر شخص أهم منكَ سأخبرك.”
“ظننت أن اليوم هو ذلك اليوم.”
أسند ظهره إلى الأريكة بثقل، يهمس بفتور.
نهضت نينا بخفة وسارت بخطوات طويلة وجلست على كرسي مقابل.
“وماذا قلتِ له إذًا؟”
سألها أدريان.
“لم أقل شيئًا بعد.”
أجابته بصراحة تامة.
وماذا ستقولين؟
ظل السؤال عالقًا على طرف لسانه لكنه ابتلعه. ضغط أدريان على قلبه بجهد، يكتم ما يريد قوله.
التعليقات لهذا الفصل "143"