نظر باراديف إليها إليها مطوّلًا. فتابعت نينا كلامها.
“ماذا لو كانت سموّ الأميرة وجلالة الإمبراطور في صفّ واحد؟ أو لو قال الإمبراطور إنه سيغضّ الطرف؟”
“عندها سأقاتل، بلا شك.”
أجاب بلا تردّد.
“رغم ذلك، آمل ألّا يحدث هذا. فما زلت لا أرغب بأن أُعلّق على حبل الإعدام.”
تابع حديثه ببرود غريب. بدا لها أنّ حديثه عن موته بتلك السلاسة هو من خصال أبناء العائلة الإمبراطورية.
حقًّا، فمرشّحو العرش إن لم يموتوا في فراشهم، فسينتهي بهم الأمر معلقين بحبل ما في مكان ما.
حربًا كانت، أو حربًا أهلية، أو تمرّدًا. هكذا هو العصر، وهكذا هو العالم.
أومأت نينا وقالت.
“حتى لو قاتل سموك، من المبكر افتراض الهزيمة. فقد سمعتُ قصة مثيرة.”
“وأيّ قصة هذه؟”
“أنّ القدّيسة… مزيفة.”
مدّت نينا آخر الجملة بابتسامة، فغدت ملامح باراديف غريبة.
“يا لها من إشاعة مثيرة. قدّيسة مزيفة… حتى المسرحيات الهزلية لا تستخدم حبكة كهذه.”
“أليست أقرب إلى المأساة منها إلى الهزل؟”
“ربما.”
أجاب بصوتٍ خافت وهو يحدّق في فنجان الشاي.
بدأ رأسه يدور من كمية المعلومات الجديدة.
“آمل حقًّا أن تنتهي هذه القصة بنهاية طيبة.”
أومأت نينا لقول باراديف.
“أتمنّى ذلك أيضا.”
في تلك اللحظة، اقتربت الليدي أَريل بخطوات خفيفة.
سألت هل نالت الحلويات إعجابهما، وهل تجهّز لهما صنفًا جديدًا.
“لقد تفتّحت زُهور الختمية في الحديقة. اذهبا لمشاهدتها.”
وبما أنّها ترغب في إعادة ترتيب الطاولة بعد مغادرة الضيوف، خرجت نينا إلى الحديقة مستندة إلى ذراع باراديف.
كانت الحديقة مليئة بزهور الختمية، تتباهى بألوانها الزاهية وقد نمت بكثافة. سيقان طويلة مستقيمة على قمتها أزهار شديدة الوضوح.
“إنها ضخمة للغاية.”
قالت نينا مندهشة بزهور تفوق طولها طولا. فقال باراديف.
“يبدو أنّ زهور هذا المكان هي فخر السيدة أَديل. يقولون إنها صنف جديد جُلب من أراكيل الجنوبية.”
“هكذا إذن.”
” سمعت أنّ البحيرة الفضية هنا جميلة جدًا.”
“نعم، إنها جميلة حقًا.”
تنفّست نينا تنهيدة خفيفة.
منذ أن مستها يدُ ميمينا، كانت بحيرة الفضية تتجدّد جمالًا في كلّ الفصول.
ولمّا رأت نينا ابتسامة باراديف، ابتسمت بدورها.
“هذه طريقة غير مباشرة لطلب زيارة إلى الدوقية، صحيح؟”
“بل هو سؤالٌ على الطريقة الأرستقراطية.”
“لو كان المكان منزلي، لدعوتك، لكنني لا أملك حرية فعل ذلك.”
“تلك النية وحدها تكفيني.”
لو كان منزلها، لدعته— هذا وحده كان يكفيه.
“يوماً ما، إن بنيتُ بيتًا في إقطاعيتي، فسأدعوك.”
“سأنتظر ذلك.”
كان يحدّق في نينا بصمت، بنظرة لا يمكنها ألّا تلاحظها.
ولصعوبة احتمالها، خفّضت بصرها.
“السيدة نينا.”
“نعم، تفضّل.”
رفعت رأسها، والتقت عيناه تحدّيًا، فابتسم باراديف دون قصد.
“أنا معجبٌ بكيانك.”
كانت جملة مهذّبة.
شعرت نينا بحرارة تتسلّل إلى وجنتيها؛ فمهما كانت، فالنظر مباشرة إليه وهو يقول هذا أمر يتجاوز قدرتها.
“أتريدني أن أصبحَ وليّة العهد؟”
ردّ باراديف على كلامها المستفز.
“إن أمكن، نعم.”
اتّسعت عينا نينا، لكن باراديف ظلّ جادًّا.
“لا أعلم ما الذي تفكرين به بشأن اعترافي… وبشأني، لكنني منذ ذلك الحين وحتى الآن، لم أغيّر رأيي قط.”
ثم قال بعد تردّد.
“لكنني أمسكت لساني لأنني خشيت أن يكون ذلك عبئًا عليكِ فقط. وصمتي لا يعني أنني أحبّك أقل.”
ارتعشت عينُ نينا الذهبية. وشعر هو بأن بصيص أمل صغير بدأ يتّسع داخله.
“حتى لو لم يكن قلبك يميل إلى قلبي كما يميل قلبي إليك… فإن كان هناك جزء صغير جدًا، صغير للغاية، فهذا يفرحني، زحتى لو كنتِ مع حبيبٍ آخر، فلن أعترض.”
فشدّت نينا قبضتها على يده.
“سموّ الأمير باراديف، أعلم أنك صادق. أعلم… لكنني لا أستطيع أن أردّ عليك.”
“أنا لا أطلبُ ردًّا–.”
“أعرف أنك لا تطلب، ولكن مثل هذا الحبّ يرهق صاحبه.”
ابتسمت نينا.
“ربما يمكنني أن أكون لطيفة جدًّا معك، ومع مرور الوقت قد تولد مودة جديدة بيننا. العلاقات التي تُبنى ليست أمرًا سيئًا. لقد وصلنا حتى هذه المرحلة، أليس كذلك؟”
أطلقت نفسًا عميقًا ومسحت ابتسامتها.
“لكنني…”
حاولت أن تتكلم وهي تنظر إلى عينيه بلون الماء. لم يكن هو مخطئًا، ولم تكن هي مخطئة.
ومع ذلك، لِمَ يصعب قول هذه الكلمات إلى هذا الحد؟
“السيدة نينا! السيدة نينا!!”
ظهرت السيدة أَديل تركض وهي تصرخ، ناسِيَةً آدابها.
قفز الاثنان كأرنبين مذعورين ونظرا نحو أَديل. كانت تلهث بشدّة.
“لقد هاجم بيلاك قصر دوقية لوفرين!”
“!!”
سحبت نينا يدها من قبضته وانطلقت.
شعر باراديف باليد التي انفلتت من يده في لحظة، فأغلق قبضته على الهواء.
‘لكنّكِ، في النهاية، تندفعين دائماً إلى مكانٍ آخر، تاركةً إيّاي خلفك.’
“السيدة أَديل، شكرًا على الدعوة! سموّ الأمير، إلى لقاء آخر!”
صرخت نينا وهي تركض دون أن تتوقف.
ربما يجدر القول إنه من حسن الحظ أنها ألقت وداعها أخيرا.
لوّح بيده، لكنها لم تلتفت.
ولأنّه لا يستطيع الركض معها، ضغط بأسنانه قليلًا ثم توجّه إلى أَديل.
“هل أنتِ بخير؟”
“نعم… يا إلهي. لم أركض هكذا منذ أن كنتُ شابة.”
“تقولين إن بيلاك هاجم دوقية لوفرين؟”
“نعم، قيل إنه بيلاك ضخم للغاية.”
“هذا غريب.”
فالبيلّاك بلا عقل، يهاجم البشر بشكل عشوائي.
أما أن يختار قصر الدوقية بالذات في منطقة ممتلئة بالمنازل الفاخرة… فكان أمرًا غريبًا.
إلّا إذا كان أحدهم يتحكم به…
خطر له مختبر التجارب البشرية الغارق في الظلام. قشعريرة باردة زحفت على ظهره.
لا يمكن…
كم من أممٍ سقطت بفعل كلمة واحدة: لا يمكن أن يحدث ذلك.
عضّ باراديف شفته، ثم نظر إلى الاتجاه الذي ركضت فيه نينا، وتمنى لها السلامة.
***
كادت نينا تنتزع لجام الحصان من شدّة الاستعجال عندما نزلت من العربة. اعتلت الحصان وهي ترتدي فستانًا، ومن دون سرج، وانطلقت به بأقصى سرعة.
فتح الناس أفواههم بدهشة عندما رأوها هكذا.
وحين دخلت منطقة مزدحمة بالناس، علت الأصوات الغاضبة والصياح.
كان عليها أن تناور بالحصان يمينًا ويسارًا حتى لا تصدم أحدًا.
وبينما تباطأت سرعتها قليلًا، نقرَت بلسانها بضيق، ثم وقفت فوق ظهر الحصان وهي لا تزال عليه، لتقفز مباشرة إلى سطح المنزل المجاور.
هبطت بخفة فوق السطح، وأطلقت صفيرًا.
فرس دوقية لوفرين فهم تمامًا أنّ هذا الصفير يعني: ‘عُد.’
وسيأتي بنفسه إلى قصر الدوقية.
استدعت ريح الشمال لزيادة سرعتها، وقفزت فوق الأسطح والجدران والقمم، حتى دخلت منطقة المنازل الفاخرة التي تصطف فيها منازل الدوقية.
دست بخفة على طرف السور الحديدي الحادّ كحدّ السيف، وركضت فوقه إلى أن وصلت إلى دوقية لوفرين.
عندما هبطت فوق العشب، سمعت أصواتًا خافتة من الداخل، لكنها لم تكن ضوضاء شديدة.
لولا النوافذ المحطمة والأرضيات المكسورة لظنت أنهم يستعدون لحفلة.
دخلت رافعة صوتها من الذهول.
“سيدي الشاب! جان! سيد لويس!”
ظهر جان من أعلى الدرج ونظر إليها.
“ماذا؟ وصلتِ بالفعل؟”
تسمرت نينا من كلامه الهادئ.
نظر إلى شعرها الذي بعثره الهواء وفستانها المتجعد تمامًا، ونقر بلسانه.
“طرتِ فور سماع الخبر؟”
“بالطبع طرت! ما الأمر؟ كيف حدث؟ قالوا إن بيلاك هاجم المكان!”
نزل جان من الدرج.
“نعم، هاجم. لم نرَ بيلّاكًا بهذا الحجم منذ مدة، أليس كذلك؟ إنه تقريبًا بنفس حجم ذاك الذي رأيناه في مجرى الصرف تحت الأرض قبل مدة.”
“جان.”
زمّت نينا عينيها.
ضحك جان بخفة وقال بنبرة حادّة.
“حاولي أن تثقي بنا أكثر قليلًا.”
توقفت نينا عن الكلام.
ومن أعلى الدرج أطلّ كل من شارلوت، راجا، وكيل، يراقبون ما يحدث.
قال جان ببرود.
“لن نهزم ضد بيلّاك واحد. فرسان الظلام ليسوا فرسان الظلام عبثًا. كان بإمكانكِ أن تقولي: أها، فهمت، ثم تُكملي شرب الشاي قبل أن تأتي.”
نكز كتفها بإصبعه.
“حتى لو لم تكوني هنا، نحن بخير. لا بأس. حتى لو اضطررنا لمحاربة واحد أو اثنين من البيلّاك… لا، حتى لو واجهنا قطيعًا كاملًا. متى درَّبتنا لنكون بهذا الضعف أصلًا؟”
التعليقات لهذا الفصل "141"