<الفصل 27>
كاليبس حمل آيشا وخرج من غرفة الطبيب.
ثم سأل بوجه بارد:
“هل ما قاله نوكس وماي صحيح؟”
عند سؤاله رمشت عيناها الزرقاوان الكبيرتان قليلًا. ترددت آيشا وكأنها تبحث عن كلماتها، ثم أومأت برأسها.
“نعم.”
“لكن لماذا لم تخبرينى؟”
“لأنك لم تكن في القصر يا عم.”
أجابت الطفلة بوضوح.
“لا. حتى لو لم أذهب لصيد الوحوش، ما كنتِ لتخبرينى، صحيح؟”
“…. هاه”
لكن أمام السؤال الثاني، بدا أنها فقدت الكلام، وتحول فمها إلى شكل مثلث.
دَررر… دَررر…
دارت عيناها الكبيرتان، ومعهما رأسها، حتى بدا وكأن هناك صوت دوران.
ثم قالت الطفلة:
“العم ذكي!”
ورفعت بإبهامها للأعلى.
“……………”
‘هل تتظاهر بالبراءة، أم أنها بريئة حقًا؟’
أيًّا كان، فقد كان هذا كافيًا ليُسقط قلب كاليبس.
في الحقيقة، عندما ركع نوكس معتذرًا، كان لديه الكثير ليقوله، لكنه صبر.
لأن نوكس بالفعل، سواء بوجوده أو بغيابه، كان يحذر من آيشا. وبما أنها كانت جاسوسة، كان من المفهوم أن يحذر منها.
لكن في اللحظة التي قالت ماي بشيء لم يكن يعرفه.
“…………..”
شعر وكأن شيئًا انهار بداخله.
“لقد تبنيتني لأنك تشفق على، لكنك لا تثق بي. فأنا التي بادرت بالكذب أولًا.”
تبنّيتها من باب الشفقة؟ أنا؟
ولأني لم أجد الطفلة، لم أثق بها؟
…أنا؟
“هل صدّقتِ كلام الخالة ماي؟”
خرج صوته خشنًا، دون أن يتمالك نفسه.
مرة أخرى، أطبقت الطفلة شفتيها الصغيرة ولم تدرِ بماذا تجيب.
بمعنى أنها كانت تؤمن بذلك فعلًا.
“هاه… فعلًا.”
ضحك بخفة، ضحكة قصيرة.
‘من أين أبدأ؟ كيف أتكلم؟’
عندها تذكّر يوم خرج لصيد الوحوش.
الصغيرة، التي كانت دائمًا مرحة، ابتسمت يومها ابتسامة متكلفة، وعانقته بطريقة غريبة.
‘هل بدأ الأمر من ذلك اليوم؟’
“يا صغيرة… لا، آيشا.”
أنزل كاليبس الطفلة برفق إلى الأرض.
وعندما اتسعت عيناها الكبيرتان، قال بصوت حاول أن يجعله يصل إلى أذنها بوضوح:
“آيشا، أنا أثق بك.”
“نعم؟”
‘لا. إذا قلتها هكذا، فلن يصلها صدقي.’
فكّر وهو يعقد حاجبيه:
“آيشا… لو لم تكوني موجودة، أنا…”
“نعم؟”
“…أنا…”
‘كيف أقولها؟ أنني كنت سأموت؟أنني في اليوم الذي التقيتك فيه، كنت أنوي إنهاء حياتي؟هل يليق أن أقول ذلك لطفلة؟’
تساقطت آلاف الأفكار عليه كالمطر
مع طفلة في الخامسة من العمر فقط أمامه، شعر كاليبس بعجز هائل كأنه يقف على حافة هاوية.
كيف يجب أن يقولها حتى تتمكن من الفهم؟
كيف يجب أن يقول حتى لا تتأذى؟
عندها.
“يا عم.”
عندما نادته الطفلة بنبرة مازحة، فتح كاليبس عينيه.
ثم نقرت بإبهامها الصغير الذى بحجم لعبة على خده.
“يا عم، حتى صوت تفكيرك ووصوله إليَّ أسمعه هنا.”
“……….؟”
عندها فقط بدأ كاليبس يرى وسط الرؤية المشوشة، الطفلة تبتسم رافعة طرفي فمها الصغير وتضحك:
“الآن عرفتَ شعوري؟”
“…ماذا؟”
ثم تابعت:
“عندما أفكر بجدية، يكون ذلك لأنني قلقة. وأنت أيضًا، عندما تقلق بشأن أمري، تفكر كثيرًا، صحيح؟”
هذه الطفلة دائمًا ما كانت تسبقه خطوة.
في صدقها بل وربما في نضجها أيضًا.
“…صحيح.”
بعد تردد قليل، اعترف كاليبس بصوت منخفض.
للحظة، كاد يظن أن آيشا قد كبرت عشرة سنتيمترات.
شعور غريب كهذا نما في قلبه.
“صحيح، أنا أقلق من أجلك. وأهتم بك كثيرًا.”
“هيهي.”
ضحكت الطفلة بصدق عند جوابه الصريح.
ضحكة صغيرة مثل بتلة زهرة جعلت قلبه يرفرف.
ولكي يبادلها الضحكة، شدّد كاليبس على كلامه أكثر:
“أنا حقًا أهتم بك كثيرًا.”
“هيهي.”
“فانزلي إلى حضني إذن، يا صغيرة.”
“وااه!”
مدّت ذراعيها، فقفزت كالعادة بأسلوب يشبه الضفدع، لتقع في حضنه مباشرة.
فانفجر كاليبس بالضحك أيضًا.
“يا عم، إذن الآن أستطيع أن أذهب إلى السيد نوكس والخالة ماي؟”
“ولماذا تذهبين؟ لتُنزلي بهما عقوبة؟”
“لا، ليست هناك عقوبة.”
من حضنه، خرج وجهها الصغير المشاكس فجأة، وقد اتخذ ملامح جدية.
“في الحقيقة، كنتُ في غاية السعادة.”
—
“في الحقيقة، كنتُ في غاية السعادة.”
عندما قلت ذلك، بدا العم متفاجئ، لكنني كنت جادّة.
لم يكن مزاحًا، ولا مجاملة.
عندما اعتذر نوكس وماي بصدق، شعرت في داخلي بسعادة غامرة، تكاد تفجر صدري.
“…ماذا تقولين؟”
عاد العم بسرعة إلى مظهره المعتاد المتحفظ.
وعندما فتح الباب متنهدًا، التفت نحونا نوكس وماي، اللذان ما زالا جاثيين على ركبتيهما.
“…سنتقبل العقوبة أيًا كانت.”
حتى إن نوكس نزع نظارته الأحادية، وكأنه مستعد لتلقي الضرب إن لزم الأمر.
‘ما بال هؤلاء يتحدثون طوال الوقت عن عقوبة وما شابه؟’
“هيهي.”
ابتسمتُ بسعادة وأنا أقف أمام نوكس وماي.
كانا جاثيين أمامي بكل احترام، لكن لأن طول قامتي وأنا واقفة كان قريبًا من مستواهما، أدركت فجأة كم أنا صغيرة حقًّا.
“السيد نوكس. السيدة ماي.”
“نعم.”
“نعم.”
“…إذن الآن، هل اعترفتم بي فعلًا؟”
ارتبكت ملامح الاثنين عند سؤالي.
وبصراحة، كنت أشعر بالكثير من الخذلان تجاه نوكس وماي.
لذلك عزمت على أن أنال اعترافهما بي مهما كلف الأمر، وكنت أظن أنّه إن جاء يوم كهذا فسأشعر بالانتصار حين أوجه لهما ضربة قاصمة.
لكن بدلًا من ذلك شعرت بالفرح الشديد.
“هل تعنيان أنكما تعترفان بي حقًّا؟!”
أن يتم الأعتراف بي كواحدة من أسرة الدوق كروست بدا وكأنني أخطو خطوتي الأولى فعلًا في الخلاص من وصفى كجاسوسة.
ذلك جعلني أشعر بسعادة غامرة، وامتنان عميق لهما لأنهما قبِلاني.
“…هيهي. أسرعا وقولاها بوضوح!”
وبينما كنت ألتوي بجسدي بعفوية، قام الدوق الذي كان صامتًا بأعادتى لأقف مستقيمة.
ورغم ردود أفعالي الطفولية، ظل نوكس يجيب بجدية بالغة:
“من الطبيعي أن يُعترف بسيدتي بصفتها ابنة الدوق. في الواقع، ما دمتُ قد قررتُ أن أتبع أمر سيدي الدوق بتبنّيكِ، لم يكن يحق لي أن أشك فيكِ أصلًا…”
“أما أنا فقد أعجبني أنكم شككتم بي.”
“…ماذا؟”
أتسعت عينا نوكس ببطء، وكذلك كان حال كاليبس، بل وحتى أنا نفسي فوجئت من كلماتي.
“الدوق يتمتع على ما يبدو ببصيرة مدهشة في اختيار رجاله. فقد اختارك أنت أقرب مرافقيه، وكذلك ماي.”
أردت أن أوضح كلامي أكثر، لكن ملامح نوكس كانت لا تزال توحي بأنه لم يفهم مغزى قولي.
همم…
رفعت يدي الصغيرة وأخذت أنقر على ذقني المستديرة وأنا أتابع حديثى:
“لم يكن من السهل أن تعصي أوامر سيدك، لكنك فعلت ذلك بدافع القلق عليه، أليس كذلك؟”
“…………..”
“صحيح أنني لا أزال في الخامسة من عمري، لكنني شهدتُ في حياتي أشخاصًا كثيرين يضحّون بأعوانهم ليحافظوا على مكانتهم.”
سواء في بيت الدوق فوز، أو أثناء تدريبي كجاسوسة،
بل وحتى في ذكريات حياتي السابقة التي بدأت تتلاشى.
كنتُ دائمًا مضطرة لأن أتنافس،لكى أتسلق القمة بأي ثمن.
وأدركتُ تمامًا: في بيئة كهذه، كم هو نادر أن تجد من يضحّي بنفسه من أجل غيره؟
“…لكن نوكس وماي لم يفعلا ذلك.”
ولأن أمثالكم قلة نادرة،
“ربما لهذا السبب أشعر بسعادة، خاصتًا حين أنال اعترافكما بي.”
هيه.
‘إذن عليكما أن تُحسنا معاملتي من الآن فصاعدًا، صحيح؟’
آه، ما أجمل هذا الشعور.
حين كنت أرسم هذا التعبير على وجهي، كان حتى مدربو التجسس يذوبون ضاحكين.
“هيهي، هيهى.”
ومحاولة لتغيير الأجواء، أخذت أُكثر من الغمز بعينين تلمعان كأنهما تنثران بريقًا.
“…………….”
لكن نوكس وماي بقيا يحدّقان بي بوجوه جامدة، كأنهما تمثالان من حجر.
آخ، تسك. يا لهم من أشخاص مملّين.
“على كل حال… أنا سأذهب الآن…”
شعرت بالحرج دون سبب، فمشيت بجانب الشخصين بخطوات محرجة.
“لا، لا بد أن أذهب وأشارك لوكاس في أكل الكعك!”
وقبل أن يوقفني أحد، هرولت بسرعة خارجة من الممر.
—
في تلك اللحظة التي هربت فيها آيشا وهي تتلوى بخجل:
“ابتسم.”
“…عفوًا؟”
“قلت ابتسم. لقد أهدتك تلك الطفلة غمزة لم تهبني إياها من قبل.”
كان نوكس وماي، اللذان لم يكونا قادرين على التحدث بسهولة، عاجزين عن الكلام كما لو أنهما تلقيا ضربة على مؤخرة رأسيهما.
ساد صمت قصير.
“سيدي.”
“نعم؟ماذا.”
“ما الذي تحبه الآنسة؟”
قال نوكس بنظرات حادة، وقد بدا وكأنه اتخذ قرارًا ما.
“ماذا تقول؟”
قال كاليبس مستغربًا، وإذا بماي تصرخ وقد تذكرت شيئًا:
“آه! الوشاح! الوشاح! لقد أرادت الوشاح!”
ثم نهضت على ركبتيها وركضت إلى مكان ما.
—
التعليقات لهذا الفصل " 27"