فقد تمكن عشرات الفرسان من السيطرة على الموظفين الذين بقوا في ساحة السيرك.
أما الوحوش الشرسة فقد أُبيدت بسرعة بحسب المهمة الموكلة، فيما أُعيدت الحيوانات التي كانت محتجزة داخل الأقفاص الحديدية إلى الطبيعة بدافع إنساني.
في الصباح الباكر من اليوم التالي.
“لقد وصل الدوق إلى بوابة القصر. على الجميع الوقوف بثبات، واستعدّوا.”
دوى صوت خطوات الأحذية في مدخل القصر.
وقفت رئيسة الخدم ماي في مقدمة الصف المؤلف من الخدم والخادمات، إلى جانب كبير الخدم براد، استعداداً لاستقبال الدوق.
وكان الطبيب المكلّف دلتا هناك أيضاً.
[أبقوا الطبيب على أهبة الأستعداد.]
قبل يوم مضى، وصل رسول على عجل يحمل أمراً بانتظار الطبيب، دون أن يُعرف السبب.
“هل أصيب أثناء حملة الصيد؟ لم يحدث ذلك ولو مرة واحدة من قبل…”
قال براد باضطراب، فيما غرقت ماي في تفكيرها. كانت تعرف غريزيا أنّ كاليبس لم يكن قد أُصيب.
كان سيدها لم يكن شخصاً ضعيفاً إلى ذلك الحد.
ما كان يشغل بالها حقاً هو أمر تلك الطفلة التى اختفت منذ البارحة.
كان نوكس قد اقتاد آيشا إلى العربة بوجه غاضب، ورحل إلى مكانٍ ما.
وأثناء تذكّرها لذلك المشهد، عاد إلى ذهن ماي محادثتها السابقة معه.
‘السيد نوكس يكره الآنسة آيشا بشكل واضح.’
‘طبعاً، فليس هناك ما يدعو إلى الأعجاب بها، أليس كذلك؟’
نعم. لم يكن هناك سبب للإعجاب بها. وهذا ما تشعر به ماي أيضاً.
تلك اليتيمة الصغير التى دخلت القصر متذرّعة بأنها تعرف مكان وجود الابنة المفقودة، فاستمتعت بما لذّ وطاب من الطعام، وارتدت أجمل الثياب، وعاشت في ترفٍ لا يليق بها.
ثم عندما انكشفت كذبتها، هربت بعيداً.
لم يكن كاليبس وحده من بحث عن الوريث المفقود، بل حتى ماي نفسها، التي تولّت رعاية الأطفال منذ ولادتهم، كانت تتوق لذلك بشدّة.
لكن، ماذا فعلت آيشا؟
لم تكتف بالكذب، بل تجرّأت بكل وقاحة على أن تُتَبَنّى، وتجلس في مقعد ابنة الدوق!
‘لا شكّ أن السيد نوكس أخذها معه لأنها اقترفت أمراً خاطئاً.’
كانت يداها المضمومتان تنقبضان في قبضتين.
عاد كاليبس على عجل من حملة الصيد، واستدعي الطبيب. بدا أن لذلك صلة بما حدث مع آيشا.
ماذا يا تُرى حدث بالضبط؟ وما الذي اقترفته آيشا؟
قال الحارس: “البوابة تُفتح.”
وبالتزامن مع كلماته، أخذ الباب الضخم ينفتح ببطء إلى جانبيه.
ومن خلاله ظهر ثلاثة رجال.
‘… ثلاثة رجال؟’
بين نوكس وكاليبس، كان هناك فتى.
فتى في نحو الثامنة من عمره، يرتدي رداءً فضفاضاً غطّى جسده.
لحظة من الدهشة خيّمت على الخدم الواقفين، ثم انحنوا جميعاً بالتحية.
أومأ كاليبس برأسه متقبّلاً تحيتهم، ثم أعلن قائلاً:
“لقد وجدتُ طفلى من نسلى المباشر، لوكاس كروست.”
“…………! ”
كادت ماي أن تصرخ من شدة الذهول.
وبراد الذي كان يقف بجانبها أطلق شهقة قصيرة تلتها تنهيدة حبس فيها أنفاسه.
“إنه السيد لوكاس؟!”
“يا للمفاجأة… لقد كانت آخر مرة نراه فيها حين كان رضيعاً.”
“لقد عاد… حقاً لقد عاد السيد إلى دياره…”
كان الخدم الذين وقفوا كالظلال غير قادرين على كتم أصواتهم، فبدأوا بالهمس والوشوشة.
“السيّد… السيّد الشاب!”
وأخيراً، لم تستطع ماي الصبر، فتقدّمت نحو الفتى الصغير وجثت على ركبتيها.
يا إلهي، لقد أصبح نحيفاً جدا.
شعره الأسود، الذي ورثه عن الدوق كاليبس، كان دهنيا ومبعثراً، ورداؤه ملطّخ بالكثير من الغبار.
“…سيّدي، إنني ماي. أما زلت تذكُر-“
“أين الطبيب؟!”
غير أنّ حزن ماي تحطّم فجأة تحت صرخة الفتى.
ركض دلتا بجانبها بينما كانت تقف هناك، مترددة.
“ه-ها أنا هنا.”
“أنقِذ هذه الطفلة، بسرعة! إنّها لا تتنفّس!”
حينها انخفض بصر ماي قليلاً إلى الأسفل.
وإذ بها تلاحظ أنّ بين ذراعي الفتى طفلة صغيرة كان يحتضنها.
‘…آيشا؟’
اتّسعت حدقتا ماي وهي تحدّق في وجه الطفلة المغمضة العينين كأنّها نائمة.
لكن لوكاس، الذي كان يحمل بآيشا بقلب ثقيل، مضى مسرعاً حتى اختفى عن ناظريها.
ولحق به الدوق كاليبس بخطى متعجّلة.
“دلتا، توجّه مباشرة إلى عيادة الطبيب وافحص حالة آيشا. تنفّسها ضعيف، نحتاج إلى التأكّد بدقّة.”
“نعم، يا صاحب السعادة.”
وما هي إلا لحظات حتى غادر الرجلان مع الطبيب مسرعين عبر الرواق، قبل أن تسنح لهما فرصة قول أي شيء.
“………..؟ ”
تلون وجه ماي بالدهشة والارتباك.
لم يخطر ببالها أن يكون لقاؤها بالسيّد الشاب بعد خمس سنوات على هذا النحو.
‘بل ويطلب إنقاذ آيشا أيضاً.’
لماذا تجلب هذه الطفلة دوماً أناس الدوقية إلى قلب المتاعب؟
‘آه…’
على أي حال، لقد عاد السيّد.
ولا بد من فهم الوضع حتى يمكنها الاستعداد لما سيأتي.
“سيّد نوكس، هل لي أن أسأل عمّا يحدث؟”
اقتربت ماي، وهي ترتّب مئزرها المتجعّد، من نوكس الذي كان واقفاً وحده. لكن-
ضغط نوكس شفتيه ثم أومأ برأسه إقراراً، كأنّه يتفهّم دهشتها.
“نعم… إنّه موقف محرج. لقد أسأت الظنّ بالآنسة آيشا، وأنا نادم للغاية ولا أجد ما أقوله.”
“…وأنا أيضاً أشعر بالحرج.”
أقرّت ماي بخفوت، وعقلها مشوش.
لقد عادت إليها ذكريات تعاملها الجافّ مع آيشا في الماضي.
ما الذي جرى بحق السماء؟
طفلة لا تتجاوز الخامسة قاتلت الخاطفين؟ كيف تجرأت على حماقة كهذه-
[صحيح أنّ الدوق تفضّل وأخذك ابنة بالتبنّي بدافع الشفقة، لكن من المستحيل أن يثق بكى. فقد كنتى أوّل من كذب.]
…لا يعقل. أيمكن أن يكون السبب كلماتي أنا؟
بدا ذلك مبالغة، لكن لو أنّ آيشا أقدمت على مخاطرة متهوّرة، فلا بد أنّ لديها دافعاً.
ربما فهمت كلامي السابق على أنّه تحدٍ لإثبات صدقها.
ومع أنّها تتحدث وتسير بمهارة، إلا أنّها لا تزال طفلة صغيرة جداً.
طفلة إن أرادت أن تخرج كيس الشاي، وجب أن تقف على أطراف أصابعها لتفتح خزانة المطبخ بصعوبة.
الطفلة التي كانت أصغر بكثير من السيّد الصغير لوكاس، حتى بدت وكأنّها تنطبق تمامًا بين ذراعيه.
“………….”
اغمضت ماي عينيها تحت وطأة الذنب. لقد أدركت متأخّرة جدًّا… أنّ آيشا كانت صغيرة جدًّا لتُكره.
—
وفي تلك اللحظة.
“أعتذر حقًّا… لا أجد ما أقوله…”
“…………..”
“…فى الواقع الآنسة آيشا كانت على هذه الحال منذ اللحظة التي جاء فيها السيّد لوكاس حاملاً إيّاها.”
كان دلتا يشرح بارتباك شديد أمام كاليبس و لوكاس، ذوى الوجه الفارغ.
“لقد فارقت الحياة.”
منذ أن سمعا تلك الكلمات، ظلّ الاثنان جامدين، لم يرمشا ولو مرّة.
“…آيشا، أرجوك! افتحي عينيك!”
“……………”
“حتى القطّة التي توسّلتِ لإنقاذها ما زالت على قيد الحياة! هيا، افتحي عينيك!”
ناداها لوكاس وهو يجهش بالبكاء، لكن الطفلة ظلّت ساكنة بلا ردّ.
في المكان الذي تجمّد كأنه صفحة جليد، كان دلتا يجد صعوبة في التنفّس.
أمّا الدوق، فلم يبكِ كما بكى لوكاس، ولم يغضب، ولم يتنهّد.
بين الساعات التي تواصل دورانها لكلّ إنسان… ساعة الدوق وحدها بدت وكأنّها توقّفت تمامًا.
—
في تلك الليلة، حين غرق الجميع في النوم، كانت آيشا ممدّدة وحدها فوق سريرها.
بإصرار من كاليبس، جُمّد جوّ الغرفة بقدرته على الجليد حتى غدت كالثلاجة.
قال: انتظروا… إلى أن أستطيع تقبّل موتها.
وإلى جوار الطفلة التي أغمضت عينيها بهدوء، اقترب شخص ما.
“لقد ماتت، إذن.”
منذ وُلد، كان وحيدًا، لم يجرؤ أحد أن يخطو داخل عالمه الداخلي.
لذلك كان عالم الفتى صافياً نقيًّا كالماء.
وحين وطئت قدماها الصغيرتان عالمه، اهتزّ كما تهتزّ بركة هادئة إذا لامستها قطرة.
لأوّل مرّة في حياته، من أحدث ذلك الارتجاف قد رحل أمامه، مسلوب الحياة.
“لقد ماتت.”
عينان لا تبدوان بشريّتين.
شَعر أبيض كالريش ينسدل على جبينه المستوي.
الفتى ذو الملامح الغامضة ردّد العبارة مرّة أخرى.
وبعد قليل ظهر تعبير غير قابل للقراءة على وجهه.
الموت موت، هكذا فقط.
طوال وجوده في القفص، كان يظنّ الأمر دائمًا كذلك.
حين يموت حيوان مسكين مرتجف خلف القضبان.
وحين يُقتَل وحش هائج على يد البشر.
ربما لكثرة ما شهد حياةً تفنى وأخرى تولد، صار الموت عنده شيئًا عاديًّا، لا يثير اضطرابه.
لكن-
“كنت أريد أن أسألها… لماذا أنقذتني؟”
أغلق الفتى عينيه، بعد أن كان يحدّق شاردًا في النافذة.
وكان ذلك لأوّل مرّة منذ وُلد.
تلك الإنسانة التى كانت تحدق بى بتلك العينين.
كان الناس، كلّما نظروا إليّ، كانوا إمّا يتشاءمون منّي، أو يرمقونني بعين طامعة يقيسونني كسلعة لها ثمن.كان واحدا من هذين الأثنين.
لكن تلك الطفلة-
“…همم. لماذا كانت تحدّق بي بتلك النظرة؟”
بدت وكأنّها مصدومة، أو كأنّ روحها غادرت مكانها.
ثم طلبت من الآخرين أن يُنقذوني.
هل كانت تعرف أصلًا ما أنا؟
وبفضلها… نجوت.
“لكنّك الآن متِ.”
هذا يجعلنى أشعر بالأنزعاج. لم تجيبى عن أسئلتي.
‘غبية.’
انزعج الفتى بلا سبب، فشبك ذراعيه وسقط جالسًا في مكانه.
لكنّه لم يستطع كبح فضوله.
حتى لو كان عليها أن تُبعث من الموت، فقد أراد أن يسألها.
ولو كان بوسعه أن يُطفئ فضوله، لضحّى بجزء من كيانه.
“…إذن.”
بعد أن حسم أمره، نهض وضرب الأرض بقدمه بقوّة.
جِييين— جِييين—
تدفّقت موجات عظيمة وقشعريرة عارمة من تحت قدميه، مع هبوب ريح عاتية.
واهتزّ العالم الشفّاف فجأة، وتشقّق.ومن بين تلك الشقوق، انتشرت ستارة بنفسجيّة داكنة، قريبة الشبه بعينيه، تلفّ العالم بأسره.
“سنلتقي لاحقًا.”
ارتسمت ابتسامة باهتة عند شفتيه المطبقتين.
وما إن تلاشى الفتى، حتى أطلّ الصباح على عالم آيشا، بعد ليلٍ طويل.
———
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 24"