قال نوكس موجهاً كلامه إلى من تبعوه، ولم يكونوا سوى فرسان أسرة كروست.
لم يكن قد أتى إلى هنا مع آيشا على نحو طائش ومنفرد.
فإن كانت آيشا حقاً جاسوسة، والتقت جاسوساً آخر في مكان اللقاء، فلا مفر من وقوع مواجهة مسلّحة.
لذلك، كان من الطبيعي أن يترك الفرسان في حالة استعداد.
“ما هذا؟”
“آه! اختبئوا!”
ما إن اقتحم الفرسان المسلحون السيرك الغير القانوني مصطفّين في صفَّين، حتى دبّ الذعر في الجمهور. فقد خشي المتفرجون أن يُقبض عليهم، فهربوا هنا وهناك في فوضى.
وبعيدا، رآه نوكس.
“………..”
ذلك المقدم الذي كان على وشك الاحتجاج ضد الفرسان الذين خربوا مسرحه، قد شحب وجهه فجأة من شدة الصدمة.
لقد كان بصره متجهًا بوضوح نحو شعار الذئب الأزرق، رمز أسرة دوق كروست.
‘لا يعقل، حقاً…”
لقد كان مجرد شعور عابر، غير أن ما واجهه في المخزن لم يكن سوى قدرة جليدية.
ولم يكن مجرد عاصفة ثلجية عادية، بل كانت بلورات فائقة الجمال لا يمكن أن تتجسد إلا بقوة خاصة.
وحالياً، مع انشغال كاليبس في أقصى أطراف العالم بمطاردة الوحوش، لم يكن أحد قادراً على استخدام قدرة نقية إلى ذلك الحد… سوى أبنائه المباشرين.
‘أخيراً بدأت قطع الأحجية تصبح واضحة الآن.’
أطلقنوكس ضحكة مشوبة بالغضب.
هل أسرة فوز قد تحالفت مع سيرك آهيلي لاختطاف السادة الشباب؟
“لنذهب.”
لقد تصلب ملامح نوكس البارد. حتى انعدمت منها أي أثر للدفء.
ولو اتبع اندفاعه، لأمسك بياقة أول عابر ليسأله عن مكان السادة الشباب.
لكن الأولوية الآن كانت التأكد من حياتهم.
وما إن بلغ الغرفة المخصصة للموظفين وعليها لافتة [ممنوع الدخول لغير المختصين]—
“…آسف، لكن الدخول محصور بالعاملين فقط.وتبدو شخصًا مرموقًا، فما الذي أتى بكم إلى مكان متواضع كهذا؟”
قال مدير الحفل وهو يهرع إليه بابتسامة مصطنعة.
“إن رأيت الشعار، فافتح الباب.”
“لكن يبدو أن صاحب هذا الشعار لم يأتِ بنفسه.”
انحنى برأسه، ومع ذلك أظهر إصراراً شديداً على عدم فتح الباب.
“قلت افتح.”
“إن خلف هذا الباب أشياء نادرة لا يمكن أن يحصل عليها حتى النبلاء رفيعو المقام. إن أردتم المشاهدة، فعليكم أن تدفعوا”
كووااانغ!
سمع صوت قوي وكأن الأرض تهتز من مدخل السيرك.
وبينما اتجهت أعين المتفرجين المندهشين نحو المدخل—
برز من بين الغبار الأسود الضارب في السماء، ظلّ ضخم يفوق طوله المئة والتسعين سنتيمتراً.
لقد كان الدوق كاليبس.
“…سيدي؟ كيف…؟”
لم تتح له فرصة أن يسأل كيف وصل.
إذ إن كاليبس، بخطواته الواسعة المدوية، مرّ بمحاذاة نوكس وربت على كتفه، ثم وقف قبالة مدير الحفل.
“إن لم ترد أن تموت، فافتح الباب. مزاجي في الحضيض.”
كان جسده مغطى بالدروع الملطخة بالدماء، وكأن عودته تزامنت مع انتهائه لتوه من إبادة الوحوش.
ورغم أن رائحة الدم النفاذة كفيلة بجعل المرء يقطب حاجبيه، إلا أن التقاء الأعين مع نظراته القرمزية المخيفة كان كافياً لتجميد الجسد بأسره، حتى ليعجز صاحبه عن التحكم بتعابير وجهه.
لقد كان الدوق كاليبس كروست يتمتع بسمعة مثالية في أعين الناس.
هذا لأنه أخفى تعبيره الحاد أثناء خوضه حروبًا لا تعد ولا تحصى بقناع البطل.
لكن.
الجوّ الذي عاد به الدوق لتوّه من ساحة المذبحة كان خاماً كما هو.
“ذ… ذلك…”
تلعثم المذيع، وقد شحب وجهه حتى غدا أشبه بجثة.
ومع ذلك لم يتزحزح جانباً.
في مثل هذا الموقف كان ينبغي له أن يتنحّى، لكن إصراره على البقاء بدا مريباً إلى حدّ كبير.
ويبدو أنّ كاليبس فكّر بالأمر ذاته، إذ رفع ساقه وكأنّه سيحطّم الباب متجاهلاً وجود المذيع كأنه شخص شفّاف—
“آااك!”
عندها فقط استيقظت غريزة البقاء لدى المذيع ففرّ هارباً.
غير أنّه بالطبع أُمسك به على الفور من قِبل الفرسان الذين كانوا بالانتظار في الجوار.
“سيدي، ماذا عن حملة القضاء على الوحوش…”
“إنّي أشعر بطاقة جليدية.”
قاطع كاليبس حديث نوكس وتمتم:
“لم أفعل ذلك أنا… فما هذا؟”
وهو يعبر عتبة الغرفة عبس.
بلع.
ابتلع نوكس ريقه بعصبية.
“…لقد اعتقدت أيضًا أن هذا كان غريبًا، لذلك حاولت الدخول وإلقاء نظرة.”
لقد كان غاضباً، لكنه في الوقت نفسه لا يزال يشكّ.
هل حقاً قامت تلك الطفلة الجاسوسة بخطف ابن دوقية كروست، وحاولت الاجتماع هنا مع أفراد من دوقية فوز؟
إن كان ذلك صحيحاً…
كرااك—
في تلك اللحظة، صدر صوت تحطّم عند قدمي كاليبس.
وعندما رفع نوكس رأسه، رأى وجه كاليبس، أكثر غضبًا من وجهه بشكل لا يقاس.
“سأحكم بنفسي إن كنتُ قد خُدعت بتلك الطفلة أم لا.”
“…………”
“وإن كان الأمر كذلك…”
صمت قليلاً، ثم دفع الباب الداخلى وهو يتابع كلامه:
“فالعقوبة المعتادة هي الإعدام…”
“ه… هِك… هُب.”
وعندها بالضبط—
انبعث من شقّ الباب المفتوح صوت بكاء طفل صغير.
‘هناك شيء ما’.
تلاقى نظر كاليبس ونوكس بصمت.
ثم ما إن دفع كاليبس الباب واقتحم المكان—
“هُك… هِك… آيشا!”
كان هناك صبي جاثٍ على الأرض يبكي بحرقة، وفي حجره فتاة صغيرة ممدّدة.
دخل نوكس خلفه ونظر إلى ما في الغرفة.
هنا وهناك ارتفعت شظايا جليدية حادّة، وحول الصبي كانت تتطاير بلّورات ثلجية.
ومع نحيبه الحاد كانت البلّورات تتجمّد وتذوب تكراراً، وكأنّها تستجيب لمشاعره.
لكن عيني كاليبس انصبّتا على الفتاة الممدّدة فقط.
آيشا.
“…………”
شعر وكأنّه يسمع من جانبه أحدهم يقول: “سيدي الدوق، إنّها قدرة الجليد… فلا شك أنّه هو…”
لكن كاليبس لم يُصغِ، بل تقدّم بخطواتٍ كالمُساق نحو الطفلين.
وجثا على ركبتيه، من دون أن ينظر إلى الصبي، وسأل بصوت متكسّر:
“ما الذي يحدث هنا؟”
كانت الكلمات تخرج منه متصدعة دون أن يدرك ذلك.
الطفلة الملقاة على ركبتين صغيرتين.
شفاهها المترخّية مرسومة بابتسامة خفيفة، وعيناها مغلقتان في انحناءة رقيقة، كأنّها غارقة في حلم سعيد.
لو نظر المرء إلى وجهها فقط لظنّها نائمة بسلام.
لكن شعرها الأشقر كان مبعثرًا على نحو بائس.
وبقع الغبار والبقع الدموية لوّثت أطرافها.
رباط الحذاء المفكوك، بل إنّ فردة الحذاء اليمنى كانت قد زالت، ولم يبقَ سوى جورب بالكاد.
لا يعلم ما الذي جرى، لكنّه أدرك كم عانت تلك الطفلة.
وكم كانت بحاجة ماسّة إلى عون الكبار.
في لحظةٍ تلاشى في ذهنه طيف كلمة إعدام.
بل على العكس، بات يستشعر كم كانت تلك الفكرة قاسية بحق هذه الطفلة…
تدفقَت الأفكار المشوشة سريعاً في رأسه. وبسمة جافة لم تكتمل ارتسمت، ثم عضّ شفته السفلى بقوة.
“…أنت.”
آنذاك فقط، أخرج الصبي، الذي كان يحدّق به بعينين مذهولتين، صوته.
“كيف جئتَ إلى هنا… أيمكن أن تكون… أخيراً أتيتَ لإنقاذي؟”
رفع كاليبس ببطء يده التي كانت تغطي عينيه، وحوّل بصره.
عندها رأى الصبي يحتضن آيشا وينتحب.
طفل بدا في الثامنة من عمره تقريباً.
أكثر بؤساً من آيشا، ومن بين شعره الأشعث المتناثر ظهرت عينان مألوفتان تحدّقان به.
عينان بلونٍ بديع، كأن قطرةً من صبغة حمراء سقطت فوق ذهب صافٍ.
في تلك اللحظة، تداخلت صورة الرضيع الذي كان يبكي بين ذراعيه في الماضي مع ملامح وجه الصبي أمامه.
اتّسعت عينا كاليبس بصدمة—
“لماذا لم تأتِ إلا الآن! لقد حاولت إنقاذ نفسى مكانك، فصارت هذه الطفلة على هذه الحالة! أنقذها، أنت لديك الأطباء والمال، أليس كذلك؟!”
كان العتاب أشدّ حِدّة من أي نصل، وعاد به إلى وعيه.
‘حاولت إنقاذه فحدث لها هذا؟آيشا؟لماذا؟’
“المعذرة، ما اسمك؟”
في تلك اللحظة بالذات، تقدّم نوكس على عجل، وجثا على ركبة واحدة، وسأل الصبي بأدب.
أما كاليبس فحتى ذلك الحين لم يستوعب ما يجري.
لم يسيطر عليه سوى شعور بالذنب؛ لأنه للحظة قصيرة فكّر في إعدام هذه الطفلة.
لكن—
“لوكاس. لوكاس كروست.”
بمجرد أن نطق الصبي اسمه بصوتٍ غاضب، شعر كاليبس أنّ الدم قد انسحب من جسده كلّه.
ونوكس كذلك، لم يكن حاله مختلفاً.
كووااااانغ—!
اندفع فرسان آل كروست متأخّرين، عابرين المكان بسرعة، بينما بقي كاليبس ونوكس عاجزين عن قول كلمة واحدة.
كان الصبي بملابسه الرثّة لا يُشبه حتى الفلاحين البسطاء، بل أقرب إلى عبدٍ.
غير أنّ العيون التي تحدّق به مباشرة أيقظت في كاليبس إدراكاً مفاجئاً.
‘هذه النظرات…’
إنها تشبه إلى حدّ التطابق عيني لوكاس حين كان رضيعاً، آخر ما رآه منه في أيامه الأولى.
“طوال هذا الوقت… ما الذي…”
على مدى خمس سنوات ظلّ يفكّر:
لو التقيا من جديد، كيف سيكون لقاؤهما؟
كيف كبر الأطفال؟ وأي هيئة اتخذوا؟
لكن من بين آلاف الصور التي رسمها في خياله، لم يكن لهذه الصورة وجود.
“لماذا أنت هنا بالذات…”
غير أنّ—
“لا تسألني ما دمت لا تبالي حقاً. إن كنت تحتاجني الآن، فخذني بسرعة إذن.”
قاطع الصبي كلمات كاليبس وهو يضم آيشا بقوة.
“لكن عالج آيشا أولاً.”
كان يحذر الجميع وكأن آيشا وحدها هي من يمكن الوثوق بها في هذا المكان.
ذلك المشهد جعل شفتَي كاليبس تنكمشان. شعر بالخوف.
لم يبالِ باللوم الذي خرج من فم لوكاس موجهاً إليه.
لكن مجرّد التفكير بما قاسى هذا الطفل حتى ينطق بتلك الكلمات جعل قبضته تنشدّ رغماً عنه.
“…أولاً، احموا الطفلين. وخذوهما إلى العربة.”
هكذا، من دون أن يتمكّن من قول المزيد، أمر كاليبس نوكس.
فانتقلت آيشا المغمى عليها بين ذراعي لوكاس إلى العربة.
————
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 23"