<الفصل 22>
“……….”
لم يكن هذا المكان مجرّد مستودع عادي يمكن المرور به.
لقد كان موقع اللقاء الذي دوّنته آيشا.
الموظف القابع قرب الباب بزيٍّ مبهرج…
‘هل هو زميلٌ جاسوس أيضاً؟’
أدخل نوكس أحاديّ العدسة التى كان يرتديها في جيب سترته واقترب منه.
“ألم ترَ طفلة في الخامسة من عمرها؟ شعرها أشقر ومصفّف على شكل ضفيرتين.”
“آه، تقصد الطفلة الشقراء ذات الضفيرتين، والتي كانت ترتدي فستاناً؟”
وكما توقّع، بدا أنّ الموظفين يعرفون أيشا.
‘إذن هو جاسوس مثلها بالفعل.’
ضحك نوكس بسخرية في داخله.
أن تأتي فعلاً للقيام بمهام تجسس… كان أمراً توقّعه، لكن رغم ذلك شعر بمرارة غامضة.
“جيّد، ما دمتم تعرفونها. أنا وصيّها، فأين هي الآن؟”
غير أنّ…
“خمسة آلاف قطعة ذهبية.”
ابتسم الموظف ابتسامة مريبة وطالب بالمال مباشرة.
“؟”
رفع نوكس حاجباً بدهشة.
“بخمسة آلاف ذهبية أسلّمك الطفلة. نحن نحتجزها الآن.”
قال الموظف هامساً بابتسامة باردة.
“……….”
‘أليس من زملاء أيشا؟’
عضّ نوكس شفته السفلى بعنف.
“…هل تعني أنكم اختطفتم الطفلة الآن؟”
“لقد احتفظنا بطفلة تائهة، لذا عليك دفع الأجر. لِمَ كل هذا التشدّد…”
كووااااااانغ——!
عندها تماماً.
ارتجّ المكان بضجيج أشبه بزلزال، وفُتح باب المخزن بقوة.
ثم اندفع رجل مذعور، صدم كتف نوكس وهو يركض في هلع.
“م-مستحيل… القيد الكابح للقوى قد تحرّر! حالة طوارئ!”
‘القيد الكابح للقوى؟’
تجمّد نوكس لحظة، ثم عقد حاجبيه بحدة عند سماع ذلك.
“ماذا؟! كيف ينفكّ القيد الكابح للقوى؟!”
صرخ الرجل الآخر مؤكّداً شكوك نوكس:
“أين بقيّة الموظفين؟ هل أطلقتم الوحش؟”
“لو أطلقنا الوحش فالجميع هنا سيموت يا أحمق!”
“و-والطفلة؟!”
ظلّ نوكس يُصغي بانتباه لكل كلمة من حوارهم المتعجّل.
في هذه المملكة… القوى الخاصة الوحيدة تعود إلى دوقية كروست، قوى الجليد.
ورغم أنّ ملامحه بقيت صارمة، فقد انتفضت قشعريرة في عنقه.
‘…لا يمكن…’
فجأة، اتّسعت عيناه وقد أدرك شيئاً.
قادَهُ ذلك الإحساس المألوف نحو مدخل المخزن،
حيث رأى جدرانه مغطاة بكريستالات الجليد.
—
كووااانغ——!
“أحدٌ ما يتصرّف مع هذا الوحش!”
“من الذي حرّر القيد الكابح للقوى؟! تبّاً!”
بعد أن فُكّ القيد الكابح لقوى لوكاس،
انقلب الموقف الحرج ليصبح في صالحنا إلى حدٍّ مثير للدهشة.
“هندباء، التصقي بظهري جيداً.”
يا للعجب… كم بدا ظهر ذلك الصبي الصغير متيناً في تلك اللحظة.
“نعم!”
اقتربت أكثر من ظهر لوكاس، وأومأت برأسي بقوّة، ثم ارتفعت على أطراف أصابعي لأتفقّد ما وراء كتفه.
يبدو أنّ الموقف قد انتهى بالفعل.
في الغرفة المظلمة حيث كان الموظفون يتجولون سابقاً، انتصبت أعمدة جليدية هنا وهناك بشكل عشوائي.
كان المشهد أشبه بالدخول إلى كهف جليدى.
‘… أهو وحشٌ خارق؟ لماذا هو قوي إلى هذا الحد؟’
في القصة الأصلية كان يُعامَل كشخص ميت بالفعل، فلم تكن هناك معلومات كافية عنه.
‘إذن هذه هي قوة جليد آل كروست؟ هذا أمر لا يُصدّق.’
قدرة تيكس – الذي قيل إنّه من الفروع الجانبية – كانت قوية بالفعل، لكن لوكاس بدا وكأنه في مستوى آخر تماماً.
عندها.
“أطلقوا عليه سهاماً منوّمة! ليَنَمْ أولاً!”
بأمر أحدهم، انطلق رجل ضخم من وراء القضبان.
كان يوجّه إلينا سهماً مشبعاً بمحلولٍ منوّم.
“هندباء، ابتعدي!”
لم يُدرك لوكاس الموقف خلفه في الوقت المناسب، فوقف أمامي ليحميني—
بووم—
“كهـك.”
لكن قبل أن يُفلِت السهم من القوس، سقط الرجل فجأة.
كان في عنقه مغروز إبرة طويلة.
وحين تأكدتُ من سقوطه، رفعت بصري إلى لوكاس الذي كان يحرسني بعناقٍ حامٍ.
هل كان مستعداً لتلقّي الضربة بدلاً عني؟
الجفنان المطبقان بإحكام انفتحا ببطء.
“………هندباء؟”
كان يحاول غريزيا حمايتى، لكن كان هناك خوف في عينيه لم يستطع إخفاءه.
‘شخصيته ليست الأفضل، لكنه شجاع.’
‘بما أنه ابن كاليبس، يبدو أنّ الشبه كبير حقاً.’
“يا سيدي، هل حميتني للتو؟”
مالت رأسي بامتنان، فابتسمتُ قليلاً—
“…هذا طبيعي! من الأجدر أن يحمي المرء من هو أضعف منه… ها؟”
تمتم بوجهٍ احمرّ تماماً، ثم توقف فجأة عن الكلام.
نظر إلى الرجل الملقى على الأرض.
“لكن… لِمَ سقط ذاك الرجل؟”
وسرعان ما لمح الإبرة المغروزة في عنقه.
“أنا جاسوسة سابقة. أحمل معي إبر سامة للدفاع عن نفسى، لا أكثر.”
حتى الآن لم تتح لي فرصة إظهارها.
“تادا— أليست رائعة؟”
الآن، انظر إلى هذا اللون.
مقبضها مناسب تماماً ليدٍ صغيرة كأوراق القيقب.
لونها الأسود الأملس لا يلفت الانتباه!
إنها إبرة سُمّ مخصّصة للأطفال!
بما أنّه نجا بفضلي من الموقف الخطير، حاولت أن أتباهى قليلاً، لكن ما إن وقعت عيناه على الإبرة السامّة حتى انقبض حاجباه بخفّة.
‘أوه… ربّما ليس من المناسب أن أتباهى بكوني جاسوسة.’
“أمم… صحيح أنني قلت إنني لست جاسوسة، لكن الموقف كان طارئاً… البقاء على قيد الحياة هو أهم شيء، أليس كذلك؟!”
ارتبكتُ وأنا أبرّر على عجل—
“سأ… أُسددها.”
“هاه؟”
“…سأردّ لك هذا الدَّين مهما كان!”
صرخ لوكاس فجأة ونهض واقفاً دفعةً واحدة.
“أواه!”
لم أتحمّل قوّة اندفاعه فسقطتُ متدحرجة على الأرض.
“أأنت بخير؟!”
“نعم، أنا بخي…”
لكن قبل أن أكمل،
لامست أذني الأرض الباردة فالتقطت اهتزازات خطواتٍ مسرعة تقترب،
ومعها صوت أنين متعب خافت.
“…أوه…”
سمعتُه مجدداً، وهذه المرّة كان بوضوح أنيناً واهناً.
‘ما هذا؟’
رفعت رأسي كزنبركٍ منبثق،
فرأيت أحد الرجال الذين سقطوا جرّاء هجوم لوكاس يتلوّى على الأرض.
وتحت جسده—
“……..”
كانت عينان بنفسجيتان متألقتان تحدّقان بي.
“مياو-“
إنه هرّ صغير.
“ميااو-“
كان الهرّ الصغير عالقاً تحت جسد الرجل.
“هندباء!”
ركضتُ نحوه على عجل، فارتبك لوكاس وقفز خلفي بسرعة.
لكنني لم أستطع أن أزيح بصري عن الهرّ، فقلت:
“هل تزيح هذا الرجل قليلاً؟”
“ماذا؟”
“هذا الرجل! تحت جسده هرّ صغير محشور!”
“أه!”
تفاجأ لوكاس من كلامي، فالتفت ليرى بنفسه.
ثم أقام ببطء عموداً من الجليد أسفل رأس الرجل، فارتفع كأنه وضع على وسادة مرتفعة.
“شكراً!”
انبطحتُ على الأرض ومددت يدي نحو الهرّ.
“تعال، لا تخف. أصبحت بخير الآن.”
لكن الهرّ الصغير ظلّ يرتجف ولم يخرج.
بدا أنّ بعض جسده ما زال محشوراً تحت الرجل.
اقتربتُ أكثر، ومددت كلتا يديّ الصغيرتين بحذر، وأخرجته برفق.
وسرعان ما صار ذلك الكائن الصغير المكسوّ بالفراء بين ذراعي.
وفي اللحظة التي التقت فيها عيناي بتلك العينين البنفسجيتين في الظلام، تجمّد جسدي كلّه.
‘آيشا.’
حين كنتُ أهرب عبر مصرف الحديقة…
لا يزال يرنّ في رأسي صوت ذلك الرجل اليائس الذي كان يناديني في عتمة ذلك النفق.
‘هل كان شعوره عندما وجدنى آنذاك مثل ما أشعر الآن؟’
“………..”
لم يدم شرودي طويلاً، فالهرّ كان أولى بالاهتمام.
هززت رأسي سريعاً وقدّمت الهرّ فجأة إلى لوكاس.
“يا سيدي، أنقذ هذا الهرّ الصغير.”
“ماذا؟”
“قلت إنك ستردّ لي دَيني، أليس كذلك؟ عندما تعود إلى بيت الدوق، اجعل ردّ الجميل هو إنقاذ هذا الصغير.”
حدّق فيّ لوكاس بعينيه الغامضتين، ثم خدش مؤخرة عنقه بيده.
“…سأحمي جميع المخلوقات الضعيفة، سواءً كانت حيوانات أو بشرًا. هذا ما يجب على آل كروست فعله، فهذا أمر بديهي.”
كانت إجابته إيجابية بلا شك، لكن طريقته في الكلام بدت غامضة بعض الشيء.
‘هل لم تعجبه فكرتي بأن يكون ردّ الدين إنقاذ هرّ صغير؟’
‘لماذا ردّه فاتر هكذا رغم أنه قال إنّه سيُسدّد الدين؟’
لكن سواء أعجبه أم لا، انشغلت أنا بتفقّد الهرّ.
رغم أن حياته كانت توشك أن تنطفئ، إلا أنني شعرت بدفءٍ خافت في راحة يدى.
من المؤكّد أنهم أحضروه ليكون طعاماً للوحوش.
‘لكن بحق السماء، ما الذي يُمكن أن يُؤكل في هذا الجسد الصغير؟ لماذا اختطفوه؟’
كان الهرّ هزيلاً حتى كاد جلده يلتصق بعظمه، وكأنهم لم يطعموه شيئاً.
كان هناك حذر طفيف في عينيه الأرجوانيتين، والتي كانت مغطاة بغشاء، لكنه بدا ضعيفًا جدًا حتى أنه لم يتمكن من الضغط على فكه.
“أمنيتي ليست ذلك، بل أن تصبحي تابعتي وتعيشي في قصر الدوق…”
“يا سيدي! الهر يبدو شديد البرودة.”
“آه.”
توقّف عن مدّ يده لمداعبة الهرّ، وأخفى يده خلف ظهره.
يبدو أنّ حرارة جسده انخفضت بسبب قواه الخاصة.
“أنا بارد، لذا عليكِ أن تحتضنيه أنتِ.”
“حسناً.”
أدخلتُ بصعوبة تلك الكرة الصغيرة من الفراء، التي بالكاد تتنفس، داخل ثيابي.
“ميآااو-“
أصدر أنيناً ضعيفاً من الضيق، لكن عندما شعر بدفئي لم يقاوم أكثر.
كان وجهه مرتاحاً، كأنّه لأول مرة يختبر هذا الدفء.
لو لم أكتشفه الآن، لكان على الأرجح قد فارق الحياة على الأرض الباردة.
تماماً كما كنتُ أنا ذات يوم، أرتجف وحيدة قبل أن يجدني كاليبس.
“………”
رؤية هذا الكائن الصغير أعادت إليّ ذكرى نفسي في الماضي.
“أولاً، هندباء.”
قطع لوكاس شرودي، فرفعت رأسي إليه.
“لنبدأ من جديد. أنتِ ستحمين الهرّ، وأنا سأحميكِ.”
قال ذلك وهو يومئ برأسه.
لكن ما إن همّ بالإيماءة—
حتى ظهر فجأة ظلّ ضخم خلف كتفيه الصغيرتين.
وفي اللحظة نفسها ارتفع سيفٌ هائل.
“الأفضل أن تموت، أيها المستخدم للقوى!”
اتّسعت عينا لوكاس فجأة على حين غرّة.
وفي لحظة قصيرة اجتاحت رأسي عشرات التصوّرات.
يموت لوكاس وأبقى أنا حيّة.
حينها سأفقد ثقتهم بي، وسأعود وحيدة.
ينجو لوكاس وأموت أنا بدلاً منه.
عندها لن أخسر ثقتهم، ولن أُترك وحيدة.
“يا سيدي!”
لو كان عليّ أن أختار بين الاثنين—
‘صحيح أنّهم أشفقوا لحالي وتبنّوني، لكنهم لا يثقون بي بعد.’
‘انت التي كذبت أولاً، يا آنسة.’
اخترق رأسي صوت ماي، كالسهم، يوبّخني.
وبفضله، حُسم قراري.
حتى لو متُّ، سأُنقذ لوكاس.
“آيشا!”
—
التعليقات لهذا الفصل " 22"