<الفصل 21>
جمعتُ كل ما أملك من قوة، حتى تلك التي كنت أستعملها في شرب الحليب المجفف، وجذبتُ كاحله بقوة. عندها فزع لوكاس وسقط أرضًا على بطنه.
“أنت…!”
رفع نصف جسده فجأة، وكانت جبهته قد احمرّت.
لبرهة ظل مذهولًا وهو يلمس جبهته، ثم تجعّد جبينه الأملس.
“أنت! قبل قليل، حين سألتك إن كنتِ جاسوسة، لم تجيبي! لم تجيبي لأن الأمر صحيح! فكيف تقولين إنك لستِ جاسوسة؟!”
تساءل بسهمٍ اخترق قلبي، فأدرت رأسي نافية.
“لستُ جاسوسة!”
كانت كذبة. ولكن…
“حتى لو وُلدتُ جاسوسة، إن لم أرغب في أن أكون جاسوسة، أستطيع ألّا أكون كذلك!”
وهذا كان صادقًا.
“سأغيّر حياتي بنفسي!”
اتسعت عينا لوكاس بدهشة، وانفرج فمه قليلًا.
في تلك اللحظة مرّت أمامي كل الأيام التي كتمتُ فيها أنفاسي.
ماذا فعلتُ، وإلى أي حدٍّ وصلتُ، كي أتحرّر من كوني جاسوسة.
“هْهب… هب.”
خصوصًا حين كُشف أمري كجاسوسة، وحاولتُ الانتحار.
يا لَشدّة الخوف الذي اجتاحني آنذاك.
تذكرتُ حينها كاليبس الذي مدّ لي يده. فامتلأت عيناي بدموعٍ ساخنة متجمعة.
ذلك الوغد…! فقط لأن وجهه يشبه قليلًا كاليبس، ظننتُ أنه سيكون آمنًا لو أنقذته.
لكن شخصيته مختلفة تمامًا.
“كْغ-!”
عضضتُ على أسناني حتى تركت آثارًا على فكي محاولًة أن أحبس دموعى.
“لن أكون جاسوسة!”
لكن في النهاية، لم أستطع أن أقاوم مرارة قلبي الصغير، فسقطتُ منهارة.
بعقلي، لم أرد أن أبكي.
لكن ما إن غمرتني الحسرة، انفجر بكائي بلا توقف.
فقد احتمل هذا الجسد الصغير أكثر مما يطيق.
لقد كتمتُ في داخلي الكثير من الهموم.
“أ.. أيها… أنتِ! لِمَ تبكين!”
ارتبك وجه لوكاس الذي كان مليئًا بالريبة، ثم جلس متردّدًا أمامي.
“كان يكفي أن تقولي إنك لستِ جاسوسة.”
ومدّ يده نحوي، لكن ربما كان يشعر بالحرج من مواساتي، فارتعشت يده في الهواء، كأنها اصطدمت بحاجزٍ خفي.
“لِمَ… لِمَ تجعلين الناس يسيئون الظن ثم تُثيرين هذه الضوضاء!”
صرختُ وأنا أبكي بصوتٍ حاد:
“أنا جاسوسة! لكنني أنقذتك فقط لأني لا أريد أن أفعل هذا العمل الحقير!”
“إذن أنتِ لستِ جاسوسة؟ أم أنكِ جاسوسة؟!”
“قلتُ لك: أنا جاسوسة، أيها الأحمق!”
“لا تبكي! أ.. لا! مقزز! المخاط!”
“….؟”
أيعقل؟ هو نفسه يبدو وكأنه لم يستحم منذ أكثر من شهر.
“لوكاس! أنت أقذر!”
لقد تأذيت ودفعته بعيدا.
“لا، لم أقصد هذا… قصدي ليس هكذا…!”
انساق لوكاس مع الدفع بسهولة، ثم بدا كأن الكلمات خرجت منه بلا وعي. احمرّ وجهه ولوّح بيديه مرتبكًا.
ثم، بعد لحظة تفكيرٍ معقّد، صرخ فجأة:
“يا!”
وفي اللحظة نفسها، قبضت يد خشنة على خديّ الصغيرين.
“؟”
اتسعت عيناي من الدهشة.
“أقول لك إن مخاطك يسيل، فسأمسحه لك. كُفّي عن البكاء.”
تمتم بذلك بصوت متبرّم، وهو يقطّب حاجبيه ويمسح مخاطي.
أن يُمسح مخاطي بيد طفل في الثامنة من عمره… أمر محرج، لكن بما أنني الآن في الخامسة، فلا بأس.
“هاااه…”
وأخيرًا، بعدما مسح المخاط بيده العارية، مسح يده على قميصه بعلامات الاشمئزاز.
ولكن…
“شروووق—”
“لقد سال مخاطي مجددًا.”
أشرت إلى أنفي بأصبعي.
“اللعنة! قلت لك إن يدي متسخة الآن.”
احمرّ وجه لوكاس مرة أخرى.
‘إذن، هو يحمرّ وجهه كلما ارتبك.’
“لا بأس. سأتدبّر أمري باستخدام قميصك.”
وبينما يسيل مخاطي، أمسكت بحافة قميصه. فارتجف جسد لوكاس المندهش، لكنه لم يتراجع.
لم يتراجع.
“فووووو!”
“…….”
وبذلك، تمكّنت من إخراج المخاط بارتياح.
طبعًا، لم تتحسّن ملامح لوكاس بل ازدادت سوءًا.
‘… لكن، هل كان يحاول مواساتي قبل قليل؟’
فبرغم أسلوبه الفظ، إلا أنني حين راودني الكابوس شعرت بيده تربت على ظهري.
‘قد يكون فتى طيب القلب في الحقيقة.’
بل إنه احمرّ وجهه خجلًا وهو يمسح مخاطي بيديه.
نظرت خلسة—
ثم أبصرت قميص لوكاس الملطخ، فأحسست بالحرج وجلست القرفصاء بجانبه.
ساد صمت لبرهة.
لعله بسبب الفوضى التي أثرتها، لكن الصمت الذي أعقب بكائي بدا أنقى وأهدأ من أي وقت مضى.
وكأنه يعبّر عن رأسي الآن.
‘فلنفكر مجددًا. كيف أهرّب لوكاس من هنا؟’
لكن، ما إن استعدت هدوئي حتى غصت في التفكير من جديد.
الهروب خلسة سيكون صعبًا، فالحراس كثيرون عند المخرج. ناهيك أنني وصلت إلى هذا العمق.
ماذا لو خرجت وحدي من المستودع وأخبرت نوكس أنني وجدت لوكاس؟
لا… لن يصدقني.
لقد فشلت في العثور على الآنسة من قبل، فلو قلت له الآن إني وجدت السيّد لن يقتنع أبدًا.
إذن ماذا أفعل؟
وبينما أنا غارقة في أفكاري—
“هي.”
رمقني من جانبي ثم سأل بخجل:
“…قلتِ إنك جئتِ لتخلّصيني لأنك لم تعودي تريدين أن تكوني جاسوسة، صحيح؟”
رفعت رأسي، فرأيت لوكاس جالسًا القرفصاء، يحك جبهته بسبابته كما لوكان محرجا.
يبدو أنه صار مستعدًا للحديث الآن.
أنا حرّكت أصابعي القصيرة وأومأت برأسي.
“إذن… أنتِ مطلوبة، هاربة؟”
“…..”
لكن سؤاله التالي أسكتني مجددًا.
في الحقيقة، لم أكن هاربة.
‘لأن والدك تبنّاني.’
لكن قول ذلك الآن… لن يصدّقنى. لذا آثرت التريّث عن ذكر موضوع التبنّي.
“نعم، حسنًا. سأفكر في ذلك لاحقًا.”
حين وبّخته ببرود، هزّ لوكاس كتفيه ثم نهض فجأة كأنه اتخذ قراراً حاسماً.
ثم مد أمامي كفّه الخشنة.
“إذا انتهيتِ من البكاء، فقفي بسرعة.”
“…لماذا؟”
“علينا الخروج من هنا. لا يمكن أن نبقى هنا إلى الأبد.”
ذلك بالضبط ما كنتُ أفكر فيه طوال الوقت.
همم… لم يخطر ببالي بعدُ أيّ حل، لكن لا بد أن أحاول بطريقة ما.
“حسناً، فلنخرج.”
وبعزم راسخ، أمسكتُ يده ووقفت، رافعةً حاجبيّ.
“فقط ثقي بي واتبعيني!”
“أتبعك ماذا…؟”
وما إن قال ذلك حتى أمسك بيدي بقوة وأخفاني خلف ظهره.
“سأتقدّم أنا في المقدمة. أنتِ قفي خلفي.”
“ماذا؟ لكنني جئتُ لإنقاذك أنت…”
“من ينقذ مَن هنا بالضبط؟”
اتسعت عيناي فى دهشة وأنا أنظر إليه، إذ بدأت بلورات جليدية تطفو حوله.
“إن مجرد أن حررتِني من جهاز تقييد القوى كان هذا أمر كافى تماماً.”
صحيح. كان التفكير في أنني سأحمله للخارج غباءً. فهو لوكاس، وريث آل كروست، وصاحب قدرات خارقة.
“حسناً، فلنخرج!”
شهيق–
مسحتُ بظهر يدي أنفي المبلل الذي لم يتوقف بعد.
“إذا كان الأمر هكذا، فاستخدم الكثير من الجليد.”
“انظري كيف تغيّرين موقفك فوراً. شكلك يشبه بذور الهندباء المتطايرة…”
“هاه؟ ماذا قلت؟”
عندما سألت مرة أخرى، وأنا أخرج رأسي لأنني لم أستطع سماع ما قال، احمرّ وجه لوكاس فجأة وأدار رأسه بسرعة.
“آه، قلتُ لننطلق بسرعة!”
هذا الفتى لا يستطيع أن يقول كلمةً واحدة بلطف.
لكن لم يكن هذا المهم الآن.
دفعتُ بالفتى الموثوق أمامي وأمسكت بمقبض باب المخزن. عندها سرعان ما بدأ هواء بارد يتسرب إلى الأجواء.
“لأرِك مهارةً صقلتُها على مدى خمس سنوات.”
—
في تلك اللحظة، داخل سيرك آهِيلي.
…اللعنة. لقد أفلتت مني.
كان نوكس لا يزال يفتش في كل اتجاه.
لقد كان ممسكاً حتى بمؤخرة عنقها يراقبها خشية أن يضيعها، ومع ذلك فقد ضاعت منه.
إلى جانب ذلك، كان سلوك الجمهور الذي جاء لمشاهدة عرض الوحوش غير القانوني في منتهى السوء.
“آيشا!”
“وااااه–!”
“أوه، ابتعدوا قليلاً…!”
اندفع وسط الحشد الكثيف الذى كان أشبه بجيش من النمل حتى وصل إلى أعلى المدرجات، وقد ارتدى منظاراً أحادياً على عينيه.
أرجوك. أرجوك.
بما أنها فتاة لافتة للنظر، كان يظن أنه سيجدها بسرعة.
لكن الطفلة ذات الضفيرتين الذهبيتين لم تكن في أي مكان.
بل وحتى لو وجدها.
أتمنى فقط أن لا تكون قد تم دهسها تحت أقدام هؤلاء الناس.
حتى وإن كانت في مهمة تجسس، فإن السيرك كان مكتظاً بالبشر.
ولكي تصل إلى مكان اللقاء، فعليها أن تشق طريقها وسط تلك الجموع….
“………”
عندها شعر ببرودة تسري في ظهره.
ذلك لأن كاليبس، الذي عاش طوال الوقت خلف قناع بعد أن فقد عائلته، قد كشف أخيراً عن وجهه الحقيقي.
صحيح أن كونها جاسوسة بدا أمراً مريباً، لكن على أي حال، كانت هذه الطفلة هى التى أعادت إحياء ربّ أسرة آل كروست الذى كان حافة الانهيار.
وما إن وقع بصره على ذلك الحشد الهائل، حتى تذكّر نوكس الحوار الذي جرى بينه وبين كاليبس.
‘إنقاذ تلك الفتاة. هذا وحده ما تبقى لي من خيارات في حياتي.’
عليه أن ينقذها مهما كان.
حتى لو كُشف أنها جاسوسة وأُودعت السجن، فلا بد أن يري فخامته وجهها ولو لمرة واحدة.
“أرجوكِ… فقط لا تُسحَقي….”
وبينما كان يتلفت حوله، لعله يجدها، إذ وقعت عيناه على باب جانبي في مكان معزول.
[مستودع الموظفين]
لم يكن يبدو مكاناً ذا أهمية.
ربما هو مجرد مخزن لحفظ البضائع.
لكن في اللحظة التي همّ فيها بتجاوز الباب.
سيرك آهِيلي. الساعة الثانية عشرة. مستودع الموظفين.
توقف كعب حذائه عن الحركة.
—-
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 21"