<الفصل 16>
تجمّد جسدي للحظة، وكأن دوائر التفكير قد توقفت فجأة، وتصلّب وكأنه تم تجميدى.
“…إذًا، سأرحل الآن.”
قالت ماي ذلك وكأنها تفوّهت به دون وعي، وبملامح مرتبكة، ثم انحنت مسرعةً واختفت على عجل.
سكون بارد أثقل كتفيّ.
“…………”
كلام ماي صحيح.
فأنا من خالفت العقد منذ البداية.
—
في ذلك الوقت، في المكتب.
المكان الذي تلاشى منه عبير الطفل فقد حتى آخر ذرة من روح الدعابة التي كانت فيه.
خصوصًا بعد مغادرة آيشا.
لم يعد كالِبس مضطرًا إلى إظهار ملامح ودودة، فتغيّرت عيناه في لحظة، واكتسبتا حِدّة قاتلة.
حتى نوكس الذي كان غاضبًا قبل لحظات، ارتجف دون وعى منه.
“ألا تستطيع حتى التفرقة بين ما يُقال أمام الطفلة وما لا يُقال؟”
من وقع السؤال الحاد أدرك نوكس أن كاليبس قد عاد إلى طبيعته الأصلية.
وقف تلقائيًّا في وضع الانتباه، وكان ذلك في الحقيقة أمرًا حسنًا، إذ على الأقل لم يكن سيّد الدوقية قد فقد صوابه.
“ولهذا السبب أطعمتها الفراولة، أليس كذلك؟ سأكون صريحًا معك، يا سيّدي… ما الذي أعجبك في تلك الصغيرة؟”
“أعجبني؟ وهل في احتضان طفلة لا مأوى لها وتربيتها أمر عظيم على بيت الدوق؟”
“لو كان الأمر كذلك، لكنتَ أرسلتها إلى دار الأيتام التي ترعاها الدوقية، أو إلى بيت نبيل يرغب في تبنّي الأطفال. هذا ما كنتَ تصفه سابقًا بأنه واجب الراشد، أليس كذلك يا سيّدي؟”
في الحقيقة، لم تكن آيشا أوّل يتيمة تدخل بيت الدوق.
فبعد اختفاء الابن والبنت من عائلة كروست، أصبح شعب المملكة مهووسًا بالبحث عنهما.
أو بالأحرى، وبشكل أدق…
‘لقد كانوا مهووسين بصناعة ابنة كروست جديدة.’
أما أبناء عائلة كروست المعروفون علنًا فلم يكن بالإمكان المساس بهم.
لم ترَ ابنة الدوق وجه والدها ولو مرة واحدة طوال السنوات الخمس التي غاب فيها عن القصر، ثم اختفت فجأة.
وما كان يمكن التنبؤ به أو الاستدلال عليه لم يتجاوز حقيقة واحدة، وهي أن لون شعرها وعينيها كان مطابقًا لذلك الذي لدى الدوق أو لدى الدوقة لا أكثر.
عمت الفوضى دور الأيتام في أنحاء المملكة، كما اضطرب حال النبلاء من الطبقة الدنيا.
فكلما وجدوا طفلة تشبه ولو قليلًا ملامح الدوق أو زوجته، سعوا جاهدين لإقناع الجميع بأنها هي الابنة المفقودة.
وكان كاليبس يأخذ أولئك الأطفال الذين لا مأوى لهم، فيرسلهم إلى بيوت كريمة ليتبنّوهم.
لكن مع مرور الوقت، بدأ البعض يتعمّد ترك الرضّع أمام بوابة قصر الدوقية، وهم يبكون، أملاً في أن يتبنّاهم الدوق.
وكان نوكس يعلم تمامًا كم كان كاليبس يشعر بالمرارة في كل مرة يحدث ذلك.
‘منذ أن فقد أبناءه، صار يرتدي قناعًا يخفي به وجهه ومشاعره.’
وكان نوكس يعرف ما الذي كان يختبئ خلف ذلك القناع.
قال متحديًا، غير آبه بكونه قد يتجاوز حدوده:
“ما الذي جعلك تتغيّر هكذا يا سيّدي الدوق؟”
كان كاليبس قبل أن يكون بطلًا إنسانًا.
يمكن أن ينكسر.
يمكن أن يخطئ.
وكان المساعد موجودًا لمساعدة رب الأسرة في مثل هذه المواقف.
“…………..”
ساد صمت خانق للحظات.
كان كاليبس قد أسند ظهره إلى الحائط، وكتّف ذراعيه، وبدا وكأنه غارق في التفكير.
ملامحه كانت تدلّ على أنه ينتقي كلماته بعناية قبل أن يجيب.
وأخيرًا، أطلق تنهيدة خافتة وقال بصوت منخفض:
“لم يتغيّر شيء.”
قال نوكس:
“إذن لماذا…؟”
أجابه:
“إنقاذ تلك الطفلة ذلك كان الخيار الوحيد المتبقّي في حياتي.”
“…ماذا؟”
الخيار الوحيد المتبقّي… الإنقاذ…
بدأ نوكس يربط بين الكلمات الغامضة، وعيناه تضيقان شيئًا فشيئًا.
وهذا يعني… أنه لو لم يُنقذ تلك الطفلة…
“…يا سيّدي!”
ارتسم الذهول على وجه نوكس، وشحب لونه بعدما فهم المعنى متأخرًا.
ومع ذلك، لم يظهر على كاليبس أي أثر للاضطراب؛ بل انعكست في عينَيه الحمراوين لمحة إرهاق، وكأن الأمر كان فكرة قديمة طالما فكّر فيها.
“بعد كل ذلك العناء، كان كل ما حصلت عليه هو وسام. فقل لي، أي سبب تبقّى لي لأعيش؟”
“إذًا… هذا هو السبب الذي طلبتَ بسببه جرعة الموت في ذلك الوقت؟”
أغمض كاليبس عينيه.
“فسّر الأمر كما تشاء.”
“كيف لي أن أفسّر؟! يا سيّدي، حتى لو دُفنت عيناي في التراب…”
“هُدُوء.”
لهذا لم أرغب في الحديث عن الأمر.
كان نوكس أحيانًا يبالغ في القلق على سيده أكثر مما يفعل كاليبس نفسه.
نظر إلى سيده الذي بدا ضجرًا من الموضوع، ثم أطلق تنهيدة عميقة.
وفي النهاية، وجد أن أمامه خيارًا واحدًا لا غير—لا أن ينبذ تلك الطفلة، ولا أن يعترف بها بالكامل.
“…سأتولّى أنا أمر تلك الصغيرة، آيشا.”
“……….”
رفع كاليبس رأسه ببطء، وفتح عينيه في دهشة، وكأنه لم يتوقع ذلك.
هزّ نوكس رأسه بقوة، مثبتًا قراره.
كان يكره أن يصدق، لكنّه مضطر للاعتراف بأن تلك الطفلة هي التي أنقذت حياة الدوق.
“سأراقب آيشا لأتأكد إن كانت قد تخلّت حقًّا عن كونها جاسوسة.”
فإن كانت بتلك الأهمية بالنسبة له، فلا بدّ من اختبار الأمر.
هل حقًّا كانت تلك الطفلة قد أنقذت الدوق؟
أم أنّها كانت تستعد لطعنه في ظهره؟
—
وفي الوقت نفسه
كنتُ أنا، التي لا تعرف شيئًا من هذا، قد دخلت في حالة طوارئ.
‘عليّ أن أكسب ثقته مهما كان الثمن.’
لقد أدركت أمرًا مهمًّا بفضل نصيحة ماي الصادقة.
‘التبنّي لا يعني أن الأمر انتهى.’
فهو لم يتبنَّني لأنه يحبني، بل أقرب ما يكون لأنه أشفق عليّ.
وإذا كان الشخص الوحيد الذي يثق بي قد وصل إلى هذه المرحلة من الشك فكيف سيكون موقف الآخرين مني؟
لا حاجة حتى للتفكير في الإجابة، فهناك نوكس الذي لا يتوقف عن مضايقتي.
“هل صحيح أن وجنتي طفلة في الخامسة تصبح مستديرة مثل الخبز الطازج عندما تأكل الطعام؟”
“…………..”
كنت أمضغ شريحة الستيك بجدّ، حين امتدت أصابع طويلة لتضغط على وجنتي.
ها هو مجددًا
مجدّدًا يراقبني.
‘أفضل رد هو اللامبالاة.’
وكأنني تحت أنظار شخص يراقب وحشًا غريبًا، أدرت عيني مبتعدة عنه.
عندها، قال نوكس، الذي كان يسند ذقنه بكفه، بنبرة باردة:
“أو ربما… هذه الصغيرة جاسوسة.”
“كُل اللحم!”
أسرعتُ بدفع الشوكة، التي كنت أهمّ بإيصالها إلى فمي، نحو فمه مباشرة.
لكن—
“همم… لذيذ.”
كما هو متوقَّع من مساعد الدوق كروست
حتى هجوم مباغت من جاسوسة سابقة لم يُربكه، بل أخذ يتذوق هجمتي من شريحة الستيك بكل هدوء.
لا مجال للاسترخاء إنه شخص يراقبني بحذر.
لسببٍ ما، ومنذ ذلك اليوم، صار نوكس يراقبني طوال الوقت.
نوكس إيلياس
أقرب مساعد إلى الدوق كاليبس، وابن ماركيز إيلياس الثاني، أحد خدم دوقية كروست المخلصين.
شعره الأزرق الطويل كان يصفّفه ويجمعه للخلف بعناية، مما أضفى على مظهره النظام والأناقة.
وكان يرتدي نظارة أحادية تزيده مظهرًا فكريًا، أما عينه الأخرى، بلون أزرق مخضرّ، فكانت جميلة كغابة تداعبها نسائم البحر.
من ناحية المظهر، كان رجلًا وسيماً بلا شك لكن ذلك كان من ناحية المظهر فقط.
فالواقع أنه مهووس بمخلوقات الوحوش النادرة، وذو شخصية تحليلية بحتة، وأيضًا شخص بالغ يتسلّى بمضايقة طفلة في الخامسة كانت جاسوسة سابقة.
بغير هذه الصفات نعم، يمكن القول إنه وسيم.
‘حتى معارضته لحكم الإعدام الذى قاله كاليبس لم يكن شفقةً عليّ، بل خوفًا من تشويه صورة دوقية كروست.’
صورته المثالية المثقفة أمام الناس لم تكن إلا قناعًا مصنوعًا بدقة لأجل دوقية كروست فقط.
في القصة الأصلية، كان شخصًا لا يهتم بالناس كثيرًا، وتوقعت أن يكتفي بالمماطلة حتى يبتعد من تلقاء نفسه لكن أن يولي كل هذا الاهتمام بي؟
بعد أن تذوّق شريحة الستيك التي هاجمته بها وكأنه يعبث بي، ابتلع اللقمة أخيرًا، ثم قال:
“…الآنسة آيشا جاسوسة—”
“سبايدر مان!”
“هذه الصغيرة جاس—”
“التدليك هوايتي!”
“…وما هو سبايدر مان هذا، وما هو تدليك السبا؟”
“إنه موجود فعلًا!”
كان يواصل استفزازي بلا توقف.
والسبب واحد:
“همم… على كل حال، مهما كانت طفلة في الخامسة، يبدو أنها تملك حسًّا ممتازًا للتعامل مع المواقف الطارئة… هل لأنها جاسوسة؟”
لا شك أنه يريد اختبار قدراتي ومعرفة حدودى.
إن المجاملات موضع تقدير، ولكن الشكوك غير مرغوب فيها.
“وأنت أيضًا، وأنت بهذا العمر، لديك مهارة مبهرة في مضايقة طفلة في الخامسة.”
“… سيدى؟”
حينها فقط
التفت برأسي عند الصوت المنخفض المألوف، ووقف هناك رجل طويل القامة كالجبل.
“يا صغيرة، تعالي إلى هنا.”
“نعم!… أوه.”
كنت على وشك أن أقفز إليه قفزة ضفدع سريعة ترحيبًا بظهوره المهيب—
‘لقد أشفق عليّ وتبنّاني، لكن هذا لا يعني أنه يثق بي ففى النهاية أنا من بدأ بالكذب أولًا.’
تسلّلت هذه الحقيقة المزعجة إلى قلبي فتجمدت في مكاني للحظة.
“…يا صغيرة؟”
آه إنه يناديني.
أخفيت شرودى خلف ابتسامة واسعة، لكن العم كان قد لاحظ بالفعل أن هناك شيئًا غريبًا.فجاء إليّ وهو يثني ركبتيه.
وبفضل ذلك، التقت عيناه الحمراء بنظراتي وأنا جالسة على الكرسي.
ثم فتح ذراعيه.
“……….”
يبدو أنه يريدني أن أرتمي في حضنه.
“…آيشا.”
بل إن نبرته العميقة أصبحت أخفض، تجمع بين نصف دهشة ونصف عتاب.
‘لا، لا يمكن ثقتُه بي ضعيفة أصلًا، وإن لم أُظهر القليل من اللطافة…. ‘
هززت رأسي سريعًا بابتسامة مشرقة.
ثم…
“آهاها، عمى~!”
ناديتُه بنبرة تمثيل مبالغ فيها قليلًا، وأتبعت ذلك بغمزة، ثم—
صرير… صرير…
مشيت بشكل محرج
وعانقته…إنه ليس عناقًا بالضبط، بل هو وكأنى أسندت رأسي على صدره.
“…………”
رفع عمى نظره من فوقي، إلى الأعلى—
“نوكس.”
“نعم.”
“اركع.”
“عفوًا؟”
—
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 16"