<الفصل11>
آيشا كانت طفلة ذكية بحق.
كانت قد اختبأت داخل مجرى الصرف الصحي، لأنها كانت تعلم جيدًا أن هذا المكان ضيّق وملوّث، ولن يخطر ببال أحد أن يدخل إليه.
لكن كاليبْس لم يتردد لحظة، وانحنى بجسده دون تفكير.
وبذلك اتّسخ بنطاله الرسمي المكويّ وحذاؤه الأنيق بالتراب، لكنه لم يُعر ذلك أيّ اهتمام.
قال بصوت دافئ:
“آيشا.”
حتى لو كان عليه فعل ما هو أكثر من ذلك، لفعل.
“أمسكي يدي، هذا المكان خطير.”
فأنا الأمل الوحيد المتبقي لها.
“ولا تفكّري بأي شيء غريب، مفهوم؟”
ويا للسخرية… أنا الذي تمنّى الموت يومًا.
“بسبب الورطة التي سببتها، لم أعد أستطيع الموت حتى إن أردت.”
عند تحذيره هذا، ارتفع رأسها الأشقر الذهبي فجأة في حركة مرتجفة.
هل كانت تبكي قبل لحظات؟
كانت المنطقة المحيطة بعينيها الكبيرتين اللتين تملآن نصف وجهها تقريبًا حمراء اللون.
نظرت إلى يده الممدودة بدهشة، وفتحت فمها الصغير وكأنها لم تصدّق.
لكن سرعان ما بدا أنها أدركت شيئًا، فأخذت تهز رأسها نافيًة بخفة.
“…لو ساعدتني، سيلقون القبض عليك أيضًا.”
حتى في هذه اللحظة، ما زالت تقلق لأجلي يا لبراءتها الساذجة.
لكن الخطأ من الأساس لم يكن خطأها.
لقد مضى وقتٌ ليس بالقصير منذ أن قصّت عليّ تلك القصة.
وخلال هذا الوقت، قد يكون قد وقع مكروه للطفلة، أو ربما قامت عائلة دوق فوز بتهريبها سرًّا.
وحتى لو كانت القصة كلّها محض كذب، فلا بد أن لدى الطفلة سببًا .
قال بصوتٍ منخفض شابه التصدّع من شدّة القهر:
“المسؤولية يتحمّلها البالغون الكبار الملعونون الذين دفعوكِ إلى هذا الموقف هم من يجب أن يُحاسَبوا.”
كان صوته الأجشّ قد بلغ من الشدّة والعاطفة حدًّا جعله يتصدّع، وينشقّ إلى نبرتين متألمتين.
كانت المسافة بينهما قصيرة، ويمكنه الوصول إليها بسهولة لو مدّ يده قليلًا، لكن المؤسف أن مجرى الصرف كان ضيقًا جدًا، بحيث لم يستطيع التقدّم أكثر.
“لذا، أمسكي بيدي، يا آيشا.”
بدأ نَفَسه يثقل شيئًا فشيئًا من شدّة الضيق، وهو يشعر بأن جسده على وشك أن يصل إليها لكنه لا يستطيع.
وفجأة—
خشخشة!
صدر صوت حركة من الداخل.
كاليبس، الذي لم يتمكن من رؤية الوضع أدناه لأنه كان مشغولاً للغاية بمد يديه
توقف في مكانه. شعر أن تلك اللحظة كانت أبدية.
‘أرجوكِ… أرجوكِ…’
ووسط توسّلاته الصامتة، التقط شيء صغير إصبعه الإبهام.
قال فورًا بصوت آمر مفعم بالرجاء:
“تمسّكي بي ولا تتركي يدي.”
لم يكن هناك حتى متّسع للدهشة.
في لحظة واحدة، جذب كاليبْس جسدها الصغير بكل ما أوتي من قوة، واحتضنها بقوةٍ شديدة.
“!”
ارتبكت الطفلة من المفاجأة، ففردت راحتَي يديها وكأنها تجمّدت،لكنّه لم يكن في وضع يسمح له بالاهتمام بتلك التفاصيل الآن.
لو تأخّر ولو قليلاً، لما استطاع أن يسمع دقّات قلب هذه الطفلة الصغيرة.
وربما ما كان لأحد أن يُنصت لبكائها المنفرد، لذلك البكاء المكتوم المرتجف.
“…الدوق هو من أنقذني.”
تذكّر فجأةً تلك الكلمات التي همست بها له ذات مرّة.
لكن وهو يحتضنها الآن، وهو يسمع خفقة قلبها الصغير داخل صدره، أدرك شيئًا مهمًّا—
لم أكن أنا من أنقذكِ…
بل كانت تلك الأمنية الصغيرة التي حملها قلبك،
هي ما أنقذتني.
من نال الخلاص في النهاية، هو أنا.
—
بعد قليل…
مرّ الوقت، وبدأت حمرة الغروب تتماوج أسفل أفق السماء.
“آيشا!”
“آيشا، أين أنتِ؟!”
لم يخطر ببال الفرسان أن تجرؤ آيشا وتختبئ داخل حديقة أريينا، لذا كانوا يبحثون خارج القصر.
كان نوكس يتجوّل معهم في محيط القصر، وأطلق تنهيدة ثقيلة.
“…كان يجب أن أطردها في ذلك الوقت.”
لقد انتهى الأمر بهذا الشكل في النهاية.
الادعاء الذي أطلقته الطفلة بوجود الآنسة في مقاطعة دوق فوز تبيّن أنه كذب، وقد فرّت الطفلة هاربة.
“وهذا طبيعي، فقد عُقد الاتفاق على أن تُعدم إن لم نجد الآنسة.”
في الحقيقة، لم يصدّق الأمر منذ البداية.
فكيف لطفلة في الخامسة من عمرها، لم يكتمل نمو عقلها بعد، أن تُصدر حُكمًا صائبًا؟
كان كاليبْس متحيزًا عاطفيًا بشكل مفرط، ولم أُحسن دعمه كما ينبغي.
“…سيّدي؟”
حينها فقط…
بينما كنت شارداً وسط الهموم، أفقت على كلمات أحد الفرسان وهو يفتش بين الأعشاب.
“… سيّدي؟”
بسرعة، تتبع نوكس نظرات الفارس المتوتر، فوقع بصره على رجل طويل القامة يقترب من مدخل الحديقة، حاملاً شيئًا بين ذراعيه.
“لا يُعقل…”
بقلقٍ متصاعد، رفع نوكس منظاره الأحادي، ثم اتسعت عيناه دهشة.
ذلك الشيء الصغير الذي يُحمله الرجل… كانت آيشا.
آيشا مغمضة العينين، كأنها جثة هامدة.
“جلالتك!”
صرخ نوكس بفزع، ودفع الفرسان جانبًا وهو يركض مسرعًا.
“هل من الممكن أنك نفذت حكم الإعدام بالفعل؟! أعلم أن بينكم عقدًا، ولكنها مجرد طفلة! إذا شاع خبر إعدام طفلة صغيرة، فسمعة دوقية كروست ستُلطَّخ…”
“هشش.”
في تلك اللحظة، ارتفعت نظرات كاليبْس من خلف قناعه الأسود، لتُظهر عينيه الحمراوين المتوهجتين المتجهتين نحو نوكس.
“ستُفيق الطفلة.”
“عفوًا؟”
“وفوق ذلك، إعدام؟ ماذا لو استيقظت مذعورة وبدأت في البكاء؟”
“ماذا؟”
نوكس لم يفهم شيئًا. ما الذي يجري بحق السماء؟
تملّكه الذهول، وبدأ يتساءل ما إن كان ما يعيشه مجرد حلم، فقرص وجنته.
لكن الألم كان حقيقيًا. أي أن ما يراه هو الواقع.
“جلالتك، للمعلومية فقط… أنت أول من ذكرت كلمة إعدام.”
“ها أنت تكرر تلك الكلمة مجددًا.”
“عفوًا؟”
تنهد كاليبْس، وكأنه مستاء من نوكس نفسه.
“إنها طفلة مرت بظروف قاسية. هل من الضروري إثارة المتاعب الآن؟ بل وتوقظها من نومها؟”
بل ووبّخه أيضًا.
مع أنه هو نفسه من كتب في العقد بند الإعدام ووضع عليه ختمه الرسمي.
“جلالتك… هل جُننت؟”
قالها نوكس مذهولًا، لم يتوقع أن يأتيه هذا الهجوم من حليفه نفسه.
لكن كاليبْس لم يلتفت إليه، وتابع طريقه وهو يحمل آيشا، عابرًا بجوار نوكس بهدوء.
“هل وجد جلالتك الطفلة آيشا؟”
في تلك اللحظة، وصل أحد الفرسان راكضًا وهو يلهث وسأل بقلق.
“تلك الطفلة المسماة آيشا…”
تمتم نوكس كمن أصيب بالذهول، كأنه قد سُحر.
“أيمكن أن تكون في الحقيقة… ابنة جلالته؟ أنجبها بنفسه مثلاً؟”
“…ماذا؟”
تجمّد الفارس من وقع سؤال نوكس المفاجئ، ثم نظر إلى ظهر كاليبْس وهو يختفي داخل أروقة القصر.
‘…هل يتساءل عن هذا بجدية؟’
مهما يكن الأمر، فإن المستشار نوكس لم يكن من النوع الذي يطلق كلامًا فارغًا بلا معنى.
“هل يمكن… لرجل أن ينجب طفلًا؟”
سأل الفارس وهو يحكّ مؤخرة عنقه بنظرة جادة، لكن نوكس لم يتمكن حتى من الرد، وظل شارد الذهن كليًا.
* * *
في تلك الليلة، رأيت حلمًا جميلًا.
رأيت فيه أمي وأبي، اللذين كادا أن يفقدا حياتهما في حادث، وقد تماثلا للشفاء بطريقة أشبه بالمعجزة.
لم يتم إرسالي إلى منزل أحد أقاربى، بل نشأت محاطة بالحب في منزلنا الصغير والدافئ.
قصة عادية، أشبه بحكايات الأطفال الخرافية.
آه، وعلى الهامش، أكثر ما أحببته… كان السرير.
لم يسبق لي أن استلقيت على سرير طيلة حياتي، لكن الآن، لم يعد ذلك مشكلة.
لأنني…
لأنني—
…
“أووم.”
فتحتُ عيني.
على السرير.
تمامًا. مددتُ يدي بغريزة، لكن شيئًا ناعمًا حال دون ذلك.
وحين استعدت وعيي، أدركت أنني لا أستطيع تحريك ساقي أو جسدي كما ينبغي.
“ما هذا…؟”
أدركت أنني كنت ملفوفة داخل لحاف أبيض، كأنني شرنقة دودة قز.
وجهي وعيناي فقط كانتا مكشوفتين.
“…ما هذا؟ هل تم اختطافي؟”
فَرررر—
لكن شرنقة اللحاف هذه لم تكن ندًا لمهاراتي الحركية الحادة.
لكن المشكلة بدأت بعد ذلك.
‘هل هذه غرفة نوم نبيل؟’
سقف مزين بلوحة دينية فاخرة، وأعمدة بيضاء شامخة.
ستائر أرجوانية سميكة معلّقة فوق سرير كبير جدا، الستائر تتمايل بخفة مع نسيم الهواء، تتدلى منها حبال ذهبية.
في البداية، بدا أن الأمر ليس اختطافًا.
أصلاً، لو كان اختطافًا، لكانوا قيدوني بالحبال، لا لفّوني بلحاف ناعم.
“أيتها الصغيرة، استيقظتِ؟”
في تلك اللحظة، ومع صوت فتح الباب، وصلني صوت رجولي منخفض مألوف.
كان صوت العمّ البستاني بلا شك.
“عمّي؟”
لكن ما إن التفتُّ برأسي—
“…أوه، ليس أنت. من تكون؟”
رجل غريب كان واقفًا هناك.
لم يكن يرتدي عباءة داكنة كما اعتدت، بل كان في قميص أبيض أنيق وملابس مرتبة.
جسدٌ رياضي ذو أكتاف عريضة تنحدر إلى خصر ضيّق، مشكّلاً هيئة مثلث مقلوب. شعره الأسود كثيف، وبشرته ناصعة النقاء كالرخام. عيناه الحمراوان ترمقانني بنظرة باردة لا مبالية.
وسيم لدرجة بدا كأنه خرج لتوه من لوحة فنية.
“من أكون؟ أنا هو عمّك البستاني الذي كنتِ لا تكفين عن مناداته مرات عديدة”
ردّ كأنه سمع شيئًا لا يستحق الرد عليه أصلًا.
‘…هل هذا الوسيم فعلًا هو عمّى البستاني؟’
هل يا ترى، كل من في هذا العالم يتمتعون بمستوى جمالي مرتفع بشكل غير طبيعي؟
لكن. لا. الفرسان الذين رأيتهم لم يكونوا هكذا أبدًا.
كككككككككككككككككككككك_
دعكتُ عينيّ ببطئ، ونظرت مجددًا إلى وجهه،بدهشة.
على أي حال، وبصرف النظر عن أي شيء متعة النظر إلى وجه جميل دائمًا أمر مرحّب به.
في تلك اللحظة، جلس العمّ على كرسي عند طاولة صغيرة وهو يحمل صينية عليها شطائر.
“يجب عليك تناول وجبة الإفطار. اجلسى.”
طَقطَقَ—
نقر بإصبعه السبابة على الطاولة وكأنه يأمرني بالجلوس فورًا.
آه، صحيح. كنت مختبئة في ممر الصرف الصحي حين عثر عليّ هذا الرجل.
لكن…
‘كيف نجوت؟’
كنت جاسوسة.
جاسوسة كان يُفترض أن تُعدم بقطع رأسها لعدم التزامها بالعقد الذي يقضي بالكشف عن مكان الأميرة.
وقد تمّ القبض عليّ من قِبَل عمّى البستاني، ما يعني أن أمري بالتأكيد قد وصل إلى دوق كالِيبس.
لكن، لماذا ما زلت على قيد الحياة؟
ويجب أن يكون عمى البستاني من عامة الناس، فلماذا تكون غرفة نومه مزخرفة إلى هذا الحد وكأنها غرفة أحد النبلاء؟
ولِمَ هو وسيم إلى هذا الحد؟
تساؤلات كثيرة كانت تدور في رأسي، بينما قفزت من السرير برشاقة وهبطت إلى الأرض.
“عمي.”
“ماذا؟”
جلست متربعة على الكرسي وتهيّأت لبدء الاستجواب.
“كيف… نجوت بالضبط—”
“كلي أولاً.”
وقبل أن أكمل سؤالي، سدّ فمي فجأة بشطيرة.
…حسنًا، لا بأس. الأكل أولاً.
أمضغ… أمضغ…
قضمت قطعة من الشطيرة وابتلعتها بصمت.
“أكلت، هل هذا يكفي؟ إذًا—”
“بعد الأكل، لا بد من المسح.”
لكن هذه المرة، سد سؤالي بمنديله.
اقترب مني وقطّب جبينه بتركيز، ثم بدأ يمسح فتات الخبز حول فمي بحرص.
وحين أنهى، ارتسم على وجهه أخيرًا ابتسامة رضا.
“حسنًا. الآن يمكنكِ الكلام.”
.يا له من طريق طويل. طويل جدًا.
فجّرتُ السؤال الذي كنت أكبته في صدري:
“متى سيتم إعدامي بقطع رأسى؟!”
“لن يكون هناك إعدام. لقد مزّقتُ عقدك.”
“هاه؟ نـعـم؟نعمممممم؟!”
فتحتُ فمي على آخره من وقع الصدمة، لكن وجهه ظل هادئًا ومسالمًا كأن الأمر لا يعنيه.
بالتأكيد الكبار يتحملون المسؤولية.
ولكن هل يقصد انه مزق العقد و هرب بلا خطة؟
“عمي! ما هذا؟!!”
أمسكت بياقة قميصه وهززته.
أو على الأقل حاولت.
لكن، بطبيعة الحال، لم يهتز.
“كيف تُمزّق عقدًا يحمل ختم دوق كاليبس؟! عمي، لا تقل لي أنك هربت من قصر كروست من أجلي؟!”
“…أوه، بدأتِ تكتبين رواية الآن.”
تنهدَ الرجل، ثم أخرج شيئًا بينما كنت لا أزال ممسكة بياقته.
“اهدئي أولًا، واقرئي هذا.”
“…….؟”
“إنه طلب التبنّي الذي كنتِ تحلمين به.”
___
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 11"