سبحان الله وبحمده 🌿 سبحان الله العظيم ✨ لا تجعلوا قراءة الروايات 📖💕 تلهيكم عن الصلاة 🕋 وعن ممارسة الشعائر الدينية 🤲🌸
⋆。゚☁︎。⋆。 ゚☾ ゚。⋆⋆。゚☁︎。⋆。 ゚☾ ゚。⋆⋆。゚☁︎。⋆。
نظرتُ إلى الفتاة الواقفة أمامي. لم تكن فتاةً حقًا… بل كانت كيانًا شفافًا، يتلألأ جسدها كأن الضوء يتردد داخله قبل أن يهرب منه. لكنّ ما أرعبني لم يكن شفافيتها؛ بل الحقيقة الصادمة التي واجهتني في لحظة واحدة: شعرها… لونه، طوله، طريقة تمايله. عيناها… بُنيّتهما المحددة جيدًا، النظرة نفسها التي أراها في المرآة كل صباح. حتى ملامح وجهها… نسخةٌ مطابقة منّي.
كأنني كنت أنظر إلى شبحٍ صُنع مني، أو ظلٍّ خرج من داخلي دون إذن.
التفتُّ بجزعٍ أتفحص المكان، ورأيت مارسلين تتنقّل بين الرفوف المكدسة بالكتب وكأنها طفلة اكتشفت كنزًا. كانت تقلب الكتب، تفحص الأدوات الغريبة، تلمس البلّورات المتوهجة دون أي خوف… بمرح يثير الجنون.
رفعت كتابًا مغبرًا وقالت بنبرةٍ مبهورة، وابتسامة واسعة: “واو! هذه كلها كتب جميلة… أليس كذلك يا آنسة؟”
أنا… التي كنتُ أُصارع نبضي الذي يطرق أضلعي كطبول حرب، لم أستطع الرد. الهواء كان يبرد حولي بسرعة، وجسدي كان مستعدًا إما للهرب أو للسقوط من الرعب.
رفعت مارسلين رأسها إليّ، وعيناها تتسعان بفضول طفوليّ: “هل هذه ضيفتكِ يا آنسة؟”
كتمتُ أنفاسي. شعرت بعضلات وجهي تتشنّج في محاولة يائسة للحفاظ على رباطة جأشي. كنت أحاول بكل قوة ألا أُظهر الغضب أو الخوف… وكيف أنظر إلى مارسلين وأنا على وشك الانفجار؟ أقسم إذا خرجت من هذا المكان حية… سأقتلها بيدي، وأرمي لحمها للوحوش كي تتعلم ألا تجري نحو الموت كالمجانين.
مارسلين، التي لم تكن تدرك ما تخطط أوريانا له توقفت فجأة عن الحركة. ارتجف جسدها رعشة خفيفة، كما لو أن الهواء لامس عظمها مباشرة. نظرت حولها بقلق مفاجئ. ‘لماذا أشعر برعشة في جسدي وكأن احد سيقتلني’
نظرتُ إلى ذلك الكائن الشفّاف الذي يقف أمامي. جسده يلمع كأنه خُلق من ضوءٍ مسكوب، لكن صوته حين تكلّم بدا دافئًا بشكلٍ لا يتناسب مع هيئته.
قال بصوتٍ هادئٍ يلامس الهواء كهمسة: “سوه… لا تقلقي. أنا لن أوذيك. دعيني أقدّم نفسي… أنا أوريانا الحقيقية.”
اتسعت عيناي. أوريانا… الحقيقية؟ في تلك اللحظة بدأت قطع الأحجية تتشابك ببطء داخل عقلي: لماذا قال ليونارد إن أوريانا أخبرته سابقًا بأنه إذا تغيّرت شخصيتها فعليه أن يمنحها تلك القلادة؟ ولماذا-بمجرد أن أمسكتُ القلادة-انفتح هذا الممر السري؟
كنت على وشك طرح سؤالٍ آخر، لكن الكيان تابع كلامه، صوته يزداد قربًا: “دعيني… أخبركِ شيئًا. لكن هذا الأمر… طويل ومعقّد. لذلك…”
اقتربت خطوة، ثم أخرى. كان الهواء يبرد حولي مع كل خطوة تتقدم بها، وكأن وجودها يسحب الحرارة من المكان. رفعت يدَيها الشفّافتين نحوي وهي تكمل: “من الأفضل… أن تشاهديه بنفسك.”
وقبل أن أستوعب ما يحدث، وضعت يديها فوق رأسي. لم أشعر بملمس حقيقي… بل اهتزاز خفيف، كأن طاقة باردة عبرت جمجمتي. ثم انطلق ضوءٌ أبيض ساطع من يديها، يغمرني بالكامل.
اختفى العالم.
وعندما بدأ الضوء يتلاشى، وجدت نفسي أقف وسط مشهد آخر. نفس المكان… لكن زمنًا مختلفًا.
كانت هناك طفلة صغيرة بشعر بنفسجي طويل وعينين تشبهانني وتختلفان عني في آنٍ واحد. كانت تلعب وحدها، ترتّب الزهور، تضحك بخفوت.
همستُ بلا وعي: “هل… هذه ذكريات أوريانا؟”
لم يُجب أحد. لكن المشاهد بدأت تتدفق أمامي كأنها نهر انفجر فجأة. انتقلت الذكريات من طفولتها إلى سنواتها اللاحقة… وشيئًا فشيئًا تحوّل المشهد إلى ظلام ثقيل.
ثم رأيتها. أوريانا… تقف على مقصلة الموت.
كانت هزيلة، شاحبة، ودموعها تنزل بلا توقف. كتفاها يرتجفان، وصوت بكائها يختفي داخل ضجيج الجموع. الدوق كان يقف بين الناس، رأسه منخفضٌ بطريقة تُشعر بأنها انكسار وليست خزيًا. ليونارد… كان يمسح دموعه، وجهه احمرّ من كثرة البكاء. أما أوسكار… فكان واقفًا بلا أي تعبير، كأن روحه غادرت وجهه منذ زمن.
مشاعري تجمّدت. كنتُ أقف هناك، أشاهد موت فتاةٍ ربما لم يُنصِت لها أحد… لم يحبها أحد… ولم يفهمها أحد.
الذكريات كانت تتدفق إليّ… لكنها كانت تخنقني أيضًا.
وقعتُ عيناي على فيكتوريا الجالسة بجانب أوسكار. كانت تبتسم ابتسامةً واسعةً، شريرةً، وكأنها تلتهم أيّ نورٍ يمر من حولها. غَليَ الغضبُ في صدري كبركانٍ مُستعِر. صحيحٌ أني أَعرِف كلّ هذه الأحداث من الرواية، لكن رؤيتها تتجسّد أمامي فتشعل فيّ نارًا لا تُطفأ.
حين رأيت دمعة أوريانا تتسلّل من عينيها، شعرْت برغبةٍ وحشيةٍ تتصاعد داخلي – رغبةُ قتلٍ خامٍ. الهواءُ صار باردًا، والظلامُ بدأ يزحف ببطءٍ من أطراف الغرفة. ظننتُ أني سأعود إلى الواقع في النهاية؛ ظننتُ أني سأستيقظ كما في كل مرة، وأنّ كل هذا لن يترك فيّ أثرًا. لكنّي لم أستفد شيئًا. كلّ شيءٍ كان معروفًا بالفعل، كما لو أنني أُجبرُ على قراءة فصلٍ قد رُسمت نهايته مسبقًا.
فجأةً – كالصاعقة – عاودتني الذكرى الأولى. مستحيل. هل حدث خطأ؟ لماذا عدتُ مجدّدًا؟
نظرتُ، وإذا بأوريانا صغيرةً تجلس في غرفتها. كانت تحدّق في يديها بذهولٍ لا يوصف، وشفتيها ترتعشان: “مستحيل… ألم أمت؟ كيف أنا حية الآن؟”
خاطرت في نفسي فكرةٌ مرعبة: هل عادت أوريانا الحقيقية إلى الحياة؟ لكنّ الأمل سرعان ما خاب. رغم عودتها، حاولت أوريانا أن تغيّر كلّ شيءٍ – أن تنقذ الدوقة وعائلتها – لكن القدر رفض التغيّر. القصةُ رفضت أن تبتعد عن مسارها المكتوب. مهما حاولت، لم يكن بوسعها قلبُ الأحداث.
في ذكريات لاحقة، عندما كبرت قليلًا، رأيتها واقفةً على المكتب، تبكي بشدّةٍ لا تُحتمل. كانت تهتف بصرخةٍ مُنكسِرة: “عليّ إنقاذ أمي… عليّ إنقاذها مهما كَلَف الأمر.”
استمرت في المحاولة، وبدأت ببناء تلك الغرفة السرية شيئًا فشيئًا. وبطبيعة الحال، لم تكن أوريانا قادرة على تغيير الأحداث الرئيسية المذكورة في الرواية، لكنها كانت تستطيع القيام بأفعالٍ صغيرة لا تمسّ الخط الأساسي للحبكة. كانت مقيدة، تتحرك داخل حدود الرواية، عاجزة عن تغيير مصيرها أو تصرفاتها المصيرية.
وتدفقت الأحداث… تموت وتحاول من جديد، ثم تموت وتحاول مرة أخرى. حتى أنا سئمت من مجرد المشاهدة.
وفي المحاولة الأخيرة، كانت أوريانا واقفة في تلك الغرفة السرية. أمامها أبحاثٌ مبعثرة، وأوراق كبيرة مكتوبة بخط مرتبك.
قالت لنفسها بنبرة حاسمة: “عليّ أن أفعل شيئًا… إذا لم أستطع تغيير الواقع من داخله، فربما يمكن لشخصية دخيلة على هذا العالم، ليست من هذا المكان أصلًا، أن تكسر هذا القيد. يجب أن أفعل شيئًا… لا يمكنني الاستمرار بالصمت هكذا.”
وما حدث بعدها كان شيئًا لم تتخيله الرواية نفسها.
أوريانا… أخرجت روحها من جسدها. جسدها بقي واقفًا، يتحرك كما تملي الرواية عليه؛ نسخة صامتة تؤدي أحداثها بدقة كما كُتبت. أما روحها، فقد انفصلت، وخرجت من بين حدود العالم.
وجدتُ نفسي خارج الجسد معها، وروحها تطفو بجانبي. نظرتُ إلى الأعلى… “أليس هذا عالمي الأصلي؟”
ثم نظرتُ إلى الأسفل. كنت أطير في السماء، أرى كل شيء من فوق. وفجأة، رأيت نفسي… أنا من عالمي السابق. سوه. ورأيت بجانبي هيونا. “أليس هذا اليوم… الذي دفعتني فيه نحو الشاحنة؟”
كان ذلك الحدث… أعرفه جيدًا.
روح أوريانا كانت تحوم حول جسدي السابق، تراقب، تحاول، تلتف حولي بشدة، كأنها تحاول اعتراض القدر. وفجأة-
كان جسدها الشاف واقفًا أمامي، ثباته كان يملأ المكان بهدوءٍ غريبٍ، كأن الهواء نفسه يتوقف لحظة عنده. نظرت إليّ بعينين تحملان عمق الحيرة والمسؤولية، وقالت بنبرةٍ هادئة، لكنها مليئة بالثقل: “أنتِ بخير… هل فهمتِ ما حدث؟”
أطلقت تنهيدة طويلة، صدى الصوت يرتد بين جدران الغرفة وكأنه يهمس بي أسرارًا مخفية. شعرت بثقل المشهد يضغط على قلبي، وكأن كل جزء مني يحاول فهم ما شاهدته لتوه.
بدأت أحاول ترتيب أفكاري قبل أن أجيبها: “سأقول لك شيئًا مما رأيت… أولًا، أنا لم أمت في عالمي الأصلي. وسبب وجودي هنا… هو أنك نقلتِ روحي من عالمي إلى هذا المكان.”
صمتت قليلاً، كأنها تمنحني الوقت لأستوعب كلماتي، ثم أكملت: “وأيضًا… استنتجت شيئًا… سبب عودتي إلى عالمي في وقت سابق كان لأن روحي كانت تعرف جسدها الأصلي، وأرادت العودة.”
حدقت فيها بعينين مفتوحتين، أسترق النظر لكل تفاصيل وجهها، كل حركة في شفتيها، كل ارتعاشة صغيرة في نبرتها. ثم سألت بصوتٍ خافتٍ، مختلط بالدهشة والريبة: “ومن أحضرني إلى هنا… أنتِ، أليس كذلك؟”
ابتسمت ابتسامة هادئة، عميقة، تحمل في طياتها شيئًا يفوق فهمي: “أجل… معك حق… السبب كان أنا.”
نظرت إليها ببرود، محاولة كبح مشاعري المتناقضة بين الغضب، الاستفهام، والشعور بالمسؤولية: “لكن… لماذا أحضرتني؟ أحضرتني بدون إذن… أيضًا، هل تتوقعين مني أن أنفذ ما تريدين وأنقذ عائلتك؟ ولماذا وقع اختيارك عليّ؟”
أطاحت بالكلمات برقة، كما لو كانت تفتح قلبها لي بالكامل: “أعلم أنه لم يكن من الصواب أن أحضرك إلى هنا بدون إذنك… أنا أعتذر. لم أكن أستطيع فعل غير هذا.”
أضافت بهدوءٍ، وكأنها تنقّب عن فهمي العميق لمشاعرها: “أيضًا، لماذا اخترتك؟ لأنك الوحيدة التي تفهمين مشاعري… تفهمين ما يعنيه أن تكوني أماً، وتفهمين أيضًا ما أشعر به.”
ثم انحنت نحوي، وعيناها تتلألأان ببريقٍ حزين، وكأنهما تحملان كل آلام العالم: “وأنا مستعدة أن أفعل أي شيء… لذا أرجوكِ فقط…”
بدأت بالبكاء، صوتها الممزق يقطع صمت الغرفة، يرتجف كظلٍ يخاف أن ينهار: “فقط… أرجوكِ.”
أطلقت تنهيدة طويلة، وأنا أشيح بنظري عنها، شعوري بالعجز يثقل قلبي: “ارفعي رأسك… أرجوكِ… أنا لا أطلب منكِ شيئًا.”
ولكن، داخليًا، سؤال لا يزال يلاحقني كظلٍ لا يزول: “في النهاية… ماذا سأطلب من روح بلا جسد، لا تستطيع فعل شيء؟”
وبالرغم من كل شيء، شعورٌ بالحاجة للجواب ما زال يتملكني، فأضطر إلى السؤال: “عندما أنقذ الدوقة… هل سأعود إلى عالمي” قالت بصوتٍ هادئ، وكأنها كانت تراقب أفكاري قبل أن أنطق بها: “تقصدين… أجل. نعم، أنتِ لم تري كل الذكريات، ولكنك تستطيعين العودة إلى عالمك إن مُتِّ هنا. ولهذا وضعتُ حلًّا… يمكنكِ القفز من مكانٍ مرتفع وستعودين إلى عالمك.”
تجمدت للحظة، ثم سألتها بصوتٍ منخفض: “وإذا عدتُ أنا… هل ستعودين أنتِ إلى جسدك؟”
انخفضت عيناها قليلًا قبل أن ترفعها نحوي بحزنٍ ثقيل: “للأسف يا سوه… لن أستطيع. منذ أن خرجتُ من جسدي لم أستطع العودة إليه مرة أخرى. حاولتُ… حاولتُ عدة مرات… ولكن لم أعد.”
ثم قالت بصوتٍ خافت: “أيضًا… انظري إليّ.”
نظرتُ إليها، ثم إلى يديها. كانت تتحول ببطء… تصبح أكثر شفافية، أطرافها تتلاشى كدخانٍ رقيقٍ تبتعثره الرياح. قالت بصوتٍ يتكسّر: “مع مرور الوقت… أبدأ بالاختفاء. وبعد مدة… سأختفي أنا أيضًا.”
شعرتُ بشيء غريب يتحرك داخلي، شيء ثقيل يشبه الحزن لكنه أعمق. هذه الشخصية… أكثر شخصية كنت أعتقد أنها تشبهني، وحياتها مثل حياتي. لكن عندما جاءت إلى هذا العالم… أثبتت لي عكس ذلك. الجميع يحبها. الجميع يهتم لأمرها. أدركت أنني كنت مخطئة… نحن لسنا متشابهتين كما تخيلت. كان ذلك محبطًا للغاية… لكنه كان الحقيقة.
نظرتُ إليها، وخرج السؤال من فمي دون تفكير: “أوريانا… لماذا أخرجتِ روحكِ وأنت تعرفين أنك ستختفين؟”
ابتسمت ابتسامة صغيرة… هادئة، لكنها تحمل قوة في داخلها: “فقط… لأني عشتُ حياة سعيدة بفضل أمي وأبي. ألا يستحقان أن أضحي من أجلهما؟ أن يعيشا حياة سعيدة؟”
اتسعت عيناي بصدمةٍ صامتة. من يفكر بهذه الطريقة؟ بالطبع… لو كنتُ مكانها، لكنتُ سأفكر بالطريقة نفسها.
حقًا… لم أخطئ عندما جعلتُها شخصيتي المفضلة في الرواية.
مذهلة، أنستي… قالت مارسلين، وعيونها تتلألأ بالدهشة، بينما اندفعت فجأة من ورائي بخفة، وقالت وهي بالكاد تصدق ما ترى: “لا أصدق… هل أنتِ كيان من عالم مختلف؟ لا أصدق… هذا مذهل!”
شعرت بالغضب يغلي في داخلي، أمسكُها من أذنها الصغيرة بحزم: “أوتش! أنستي… ماذا تفعلين؟”
نظرت إليها ببرود، كأن لا شيء من الغضب يظهر على وجهي، ثم قلت لها: “لا أدري… هناك شيء صغير قال لي ألا أخاف، وأنه سيحميني. ومنذ أن جاءت إلى هنا، كانت تجري وتلعب فقط…”
بدأت تبكي، كأنها فتاة صغيرة: “انتظري… انتظري، سأخبرك…”
تنهدت ببطء، محاولًا تهدئة نفسي قالت وهي تبكي بطفولية : “أنا… أنا أعرف ما هو الكيان السيء من الجيد، لكن هذه الآنسة الواقفة أمامنا… لم أشعر أبدًا أنها كيان سيء. صدقيني.”
ظللت أنظر إليها ببرود، بينما ارتجفت قليلاً وبدأت تلوح بيديها بعصبية، وكأنها تقول لي أن أتوقف عن شدتها. همست، محاولة استجماع شجاعتها: “أنا آسفة… أعدك، لن أفعل شيئًا مثل هذا مجددًا.”
تركتها ببطء، ثم ابتسمت بخفة وقالت: “أشكرك… أنستي.” خطرت ببالي فكرة. نظرتُ إلى مارسلين وسألتها بنبرة منخفضة: “مارسلين… هل سمعتِ المحادثة بيننا؟”
أجابت بعد ترددٍ خفيف: “أجـل…”
وهززت رأسها ببطء، وهي تبتسم ابتسامة مرحة: “إذن… لم يكن خطأًي أن روحكِ وصلتِ إلى ذلك العالم.”
نظرتُ إليها ببرود، بينما هي التفتت إلى الجانب الآخر تداعب بأصابعها خدّها الصغير، وكأنها تحاول تبرير ما حدث. قالت بصوت خافت: “رغم أنه كان خطأي… أن أطلق كل طاقتك دفعة واحدة.”
قلتُ وأنا أحافظ على هدوئي الظاهري: “مارسلين… سأَسألكِ شيئًا بما أنكِ سمعتِ محادثتنا. هل تستطيعين… جعل روحها تعود إلى جسدها؟”
مارسلين الصغيرة، بحجم عقلة الإصبع، كانت تطير حولي بخفة. جسدها الشفاف يلمع بوهجٍ خافت، وكانت تحوم حول جسد أوريانا كما لو أنها تفحص خيط الروح نفسه. توقفت أمامي، ووجهها الصغير اكتسى جديّة غير معتادة: “لا أعتقد ذلك، يا أنستي. أظن أن أكثر ما يمكنني فعله الآن… هو إطالة مدة بقاء الروح. لا يمكنني إعادتها إلى جسدها أيضاً.”
اقتربت أكثر، وكأنها تخشى أن تفلت كلماتها في الهواء: “أنا حاليًا لا أمتلك قوتي كلها… وحتى لو امتلكتها، فكل ما أستطيع فعله هو… إطالة وجود الروح، ليس أكثر.”
كان الهواء في الغرفة ساكنًا، كأنه يشاهدنا بصمتٍ ثقيل. الضوء الخافت المتسرّب من البلّورات المنتشرة على الجدران كان يرسم ظلالًا راقصة على الأرض، تتداخل فوق قدميّ كأنها تحاول لمس أفكاري. شعرت بثقلٍ حزين يستقرّ في صدري، يهبط ببطء كحجرٍ في ماء راكد… لكن وجهي ظلّ كما هو: باردًا، لا يعكس شيئًا.
نقلت نظري بهدوء إلى أوريانا الشفافة، التي كانت واقفة بجانبي تشبه وهجًا لطيفًا من الماضي. قلت بصوت منخفض: “أوريانا… ألا ترغبين في رؤية والدتك؟”
رفّت ملامحها كأن شيئًا طُعن في قلبها. حدّقت في الأرض قليلًا، ثم أجابت بنبرة تحمل استسلامًا مؤلمًا: “بالطبع أرغب… لكني أظن أني لن أستطيع رؤيتها. سأكون قد اختفيت بالفعل.”
اختفى صوتها داخل الغرفة الواسعة، كأنه ذاب في العتمة. شدّدت ظهري، وثبّتُ قدمي على الأرض، ثم قلت بنبرة ثابتة لا مجال للشك فيها: “لا تقلقي. سأبذل جهدي للحصول على زهور ميرفيا… وإنقاذ الدوقة. وسأجعل مارسلين تطيل مدة بقائكِ كروح. وفي هذه الأثناء… أعدك أني سأحصل على زهرة ميرفيا بسرعة… وأنقذ الدوقة.”
قبل أن أكمل، رفعت مارسلين يديها الصغيرة فجأة، وهي تطير أمام وجهي. كان جسدها الصغير كانت تشبة جنية. صرخت باندهاش طفولي: “أنستي! هل تقصدين زهرة ميرفيا؟ تلك الزهرة التي… صنعها سيدي؟”
التفتُّ إليها، شعرها الازرق السماوي يتحرك كخيط دخان مع كل رفّة لجناحيها: “هل تعرفينها؟”
أومأت بحماس، وذيل ضحكتها الصغيرة ارتطم بالجدران: “بالتأكيد أعرفها!”
لم أتردد. مددت يدي نحوها بسرعة، قبضت على يديها الصغيرتين ، فاهتز جسدها الطائر قليلاً: “هل تستطيعين أن تأخذيني إليها؟ أن تساعديني في الحصول عليها؟”
ارتفعت للأعلى قليلًا، ووضعت يدًا صغيرة على خصرها، كأنها تستعد لإلقاء خبرٍ مهم. “بالطبع أستطيع… ولكن المشكلة ليست في الزهرة يا أنستي.” تقدمت نحوي حتى وقفت أمام صدري مباشرة، وأجنحتها ترف في الهواء بيننا: “المشكلة فيك أنتِ.”
رفعت حاجبي قليلًا، بينما بقي وجهي بلا تعبير: “أنا؟ ما الذي فيّ؟”
أمالت رأسها، وظهرت نظرة ناضجة بشكل غريب على ملامحها الصغيرة: “أنتِ الآن… ضعيفة للغاية. القوة التي تم استخراجها منكِ… صفر تقريبًا.” رفّ جناحاها بقوة أكبر، وكأن كلامها يثقل الهواء: “وإن ذهبتي بهذه الحالة للحصول على الزهرة… ستموتين فورًا.”
تردد صوتها في الغرفة، حتى البلّورات خفَت ضوؤها للحظة. لم أتحرك. بقيت واقفة تمامًا كما أنا.
أكملت وهي تضع يديها خلف ظهرها وكأنها تخبر طفلة بحقيقة قاسية: “لكن… إن تدربتِ حتى تصل قوتكِ إلى خمسة بالمئة فقط… عندها يمكننا الذهاب. ستنجين.”
خفضت عينيّ للحظة قصيرة. في الأصل… لم تكن هذه القوة تعني لي شيئًا. حتى لو مت كما قالت… ما كان ذلك ليشكل فرقًا. لكن صورة واحدة استقرت في قلبي دون إذن: وجه أوريانا.
رفعت رأسي ببطء، وقلت بثبات لا يتزعزع: “حسنًا، مارسلين… أعتمد عليكِ في إرشاد قوتي.”
أضاء جسدها الصغير لحظة، ثم ابتسمت بفرح خالص: “بالطبع، أنستي!”
حلّقت حولي مرة أخرى، تدور كنجمة صغيرة وسط الغرفة المعتمة… بينما الصمت من حولنا بدأ يتغيّر، كأن شيئًا جديدًا على وشك أن يبدأ.
قلتُ بصوت هادئ، لكن داخلي كان مشدودًا إلى أقصى حد: “إذن… مارسلين، هل يمكنكِ إطالة بقاء روح أوريانا؟”
أومأت بثقة خفيفة: “حسنًا… بالطبع، أنستي.”
وفجأة، توهّج جسدها الصغير مرة أخرى. كان الضوء يمتدّ حولها ببطء، يتكثّف ويعلو حتى صار ضوءًا سماويًا صافياً. تغيّرت ملامحها أمام عينيّ: جسدها تمدّد، أطرافها طالَت، شعرها انساب كشلالٍ أزرق سماويّ، وعيناها السوداوان أصبحتا أكثر عمقًا وهدوءًا. وقفت أمامي امرأة في العشرينات… ناضجة بطريقة لا تناسب خفّتها الطفولية المعتادة، تحيط بها هالة تشبه الهدوء قبل العاصفة.
لم تنظر إليّ، بل اقتربت مباشرة من أوريانا التي كان جسدها الشفاف يتلألأ بالضوء. رفعت يدها بخفّة، وتمتمت بتعويذة لم أفهم منها شيئًا… لحظتها اندفع ضوء كبير، كأن الغرفة كلّها تحوّلت إلى شمسٍ صغيرة. غطّيت عيني بيدي من شدته، لم أرَ شيئًا سوى وهجٍ أبيض ابتلع المكان.
ثم… اختفى الضوء. رمشتُ عينيّ عدة مرات حتى عاد المشهد واضحًا أمامي. مارسلين وحدها كانت واقفة… أمّا أوريانا فلم تكن في أي مكان.
تقدمتُ بخطوة سريعة نحوها، قلبي يطرق صدري رغم برود ملامحي: “مارسلين… أين أوريانا؟”
كانت واقفة بظهرها لي. وما إن التفتت… حتى رأيت شيئًا في يديها. قطة صغيرة… بلون رمادي هادئ، فروها ناعم كالسحاب، وعيناها الذهبية المتّقدة تحدّق بي بثباتٍ غريب لا يشبه الحيوانات.
توسّعت عيناي رغم ثبات وجهي: “لحظة… مارسلين، لا تخبريني أن هذه…”
أومأت بابتسامة بريئة: “أجل، هذا صحيح يا أنستي. إنها أوريانا. لقد وضعتُ روحها في جسد قطة… بهذه الطريقة ستدوم الروح لفترة طويلة جداً. لكن… هناك سؤال مهم.”
حبستُ أنفاسي ببرود مصطنع: “ما هو؟”
أخذت القطة بين يديها الاثنتين، ورفعت حاجبها: “هل يمكنكِ أن تسميها اسمًا آخر؟ الأمر… مربك بالنسبة لي. عندما تنادينها (أوريانا) وأنت ايضا أوريانا … أشعر أن عقلي على وشك الانفجار.”
نظرتُ للقطة – لأوريانا – التي كانت تحدّق في بلطفلا يشبه برودي، وكأنها تفهم كل شيء. رفعتُ القطة بين يديّ، وقلت بعد لحظة تفكير: “سأسميها… إيفي.”
صرخت مارسلين وهي تندفع نحوي، شعرها الأزرق يهتزّ من شدة اعتراضها: “ماذا؟! لماذا اسم إيفي؟!”
نظرت إليها بلا تعبير: “هل لديكِ مشكلة؟ حتى لو اخترتُ اسمًا آخر… كنتِ ستسألين نفس السؤال.”
تجمدت لثانية، ثم أطلقت ضحكة خفيفة، هادئة، قبل أن يتلاشى ضوؤها من جديد… وتعود إلى حجمها الصغير، ترفرف بجناحيها الشفافين من جديد.
حملتُ إيفي بين يديّ، شعرت بدفء جسدها الصغير ينساب إلى كفّيّ. قلتُ بصوت منخفض، وعيوني تراقب عينيها الذهبيتين: “إيفي… هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بشيء؟”
أجابت بصوت خافت: “مياووو…”
ثم رفعت إحدى قدميها الصغيرة وبدأت تحكّ رأسها الناعم، وكأنها تحاول فهم الجسد الجديد الذي وُضعت فيه.
نظرتُ إلى مارسلين بدهشة خفيفة لم أُظهرها على وجهي: “أنتِ… هل هي لا تستطيع التحدث؟”
وقفت على كتفي، وضربت خفيفًا على خدي بإصبعها الصغير: “بالطبع لا! هل تتوقعين أن أحوّل روحًا إلى قطة متكلّمة؟ لستُ كائنًا خارقًا للطبيعة لهذا الحد… بعد.”
تنهدتُ ببطء: “مارسلين… لدي سؤال آخر.”
رفرفت بجناحيها وقربت رأسها من وجهي: “ما هو يا أنستي؟”
“لماذا تعودين إلى شكلكِ الصغير؟ لماذا لا تبقين في شكلك البشري؟”
وضعت يديها الصغيرتين على خصرها، وقالت بنبرة محبطة: “هذا بسبب قوتي الحالية. التحول البشري يستهلك الكثير. أحتاج أسبوعين تقريبًا لأتمكّن من البقاء على شكل بشري لوقت أطول… وإلا سأتلاشى.”
أومأتُ ببرود: “حسنًا… لنصعد الآن.”
حملتُ إيفي إلى صدري، وشعرت بذيلها يلتفّ حول معصمي. صعدنا الدرج المظلم من الغرفة السفلية، بينما كانت مارسلين تجلس على كتفي، قدماها تتأرجحان برفق وهي تتثاقل من التعب السحري.
مرّ اليوم ثقيلًا، كأن الوقت نفسه يتثاقل فوق أكتافي. وفي تلك الليلة الطويلة… نام الجميع، بينما بقيت إيفي متكوّمة على بطني، ومارسلين نائمة فوق وسادتي وكأنها زهرة صغيرة سقطت عليها ندى الفجر.
في اليوم التالي، قبل أن يكتمل شروق الشمس، وصلت خادمات القصر بخطوات مسرعة. أرسل والدي خياطين ومجوهرات وصناديق أنيقة مكدّسة فوق بعضها، حريرٌ بألوان نادرة، وريش، وأقمشة لا أذكر حتى أني رأيتها من قبل.
ترددتُ: “لا أصدق… مرة أخرى؟ أرسل الكثير المرة الماضية أيضاً…”
وبعد يوم عمل طويل مع الخياطين ومحاولة لا تنتهي لاختيار القماش المناسب، خرجتُ من قاعة الاستقبال منهكة تمامًا.
عدتُ إلى غرفتي بعد غروب الشمس، كان الضوء البرتقالي يتسلل عبر النوافذ العالية، يرسم خطوطًا طويلة على الأرض الرخامية.
دخلتُ، ثم تركت جسدي ينهار فوق الكرسي، وسندت رأسي على المكتب البارد. كنت أشعر بإرهاقٍ ثقيل في كتفي، كأن العالم كلّه صار حملاً واحدًا فوق صدري.
اقتربت مارسلين بخفة، وجلست بجوار يدي فوق سطح المكتب. كانت عيناها الصغيرتان تنظران إليّ بقلقٍ واضح: “أنستي… هل أنتِ بخير؟”
رفعتُ رأسي قليلًا، ثم نمت على جانبي وأنا أنظر إليها بنظرة فارغة: “أجل… أنا بخير.”
نظرت الي بنظرة مرحة ولديها كثير من الفضول: “لكن… كل تلك الأشياء؟ هل لديكم حفلة؟”
أجابت وأنا أشعر بإرهاق شديد: “أجل! حفلة الالتحاق بالأكاديمية. أكاديمية سولفاير مشهورة جدًا… لذلك يقيمون حفلة كبيرة قبل الدراسة. لهذا والدي يفعل كل هذا.”
كانت على وشك الردّ، لكن فجأة…
قفز شيء خفيف على المكتب. بلمح البصر كان أمام وجهي.
إيفي.
وقفت على الورق، ذيلها مرفوع، وعيونها الذهبية تلمع بقوة. ثم أصدرت صوتًا صغيرًا، وكأنها تعلن حضورها:
“مياوووو.”
رفعتُ يدي ولمستُ رأسها برفق، فرفعت إيفي ذيلها عاليًا وهي تدفن رأسها في كفّي كأنها تبحث عن دفءٍ أعرفه جيدًا. قلتُ بصوت منخفض: “مرحبًا يا إيفي… كيف حالكِ؟”
فتحت عينيها الذهبية الواسعة ونظرت إليّ بينما كانت تستمر في حكّ رأسها في يدي، وكأنها تجيبني بطريقتها.
“اسمعي يا إيفي…” سحبتُ الدرج ببطء، وأخرجت ورقة كبيرة وضعتها أمامها على المكتب. كانت الورقة مليئة بالحروف مرتّبة بحرص، كلوحة ابتكرتها لطفلة ذكية.
“انظري… سأريكِ شيئًا. فكرتُ في هذا أمس وصممتُه لكِ. بما أنكِ تتقنين الكتابة والقراءة… لكن لا يمكنكِ التحدث الآن، أردتُ طريقة تتواصلي بها معي.”
دفعتُ الورقة نحوها: “هذه الحروف كلها هنا. عندما تريدين قول شيء… فقط أشيري إلى الحروف، وسأجمعها أنا إلى كلمات.”
وضعت إيفي مخالبها الصغيرة على الورقة، وتقدمت بخطوات صغيرة، ذيلها يتحرك ببطء يمينًا ويسارًا. ثم بدأت فجأة تقفز بخفة، وتلمس حرفًا بعد آخر:
ل… ا… ت… ر… ه… ق… ي… ن… ف… س… ك… ك… ث… ي… ر…
أعدتُ ترتيب الحروف بصوت منخفض: “لا ترهقي نفسك كثيرًا.”
توقفتْ ونظرت إليّ، كأنها تنتظر ردّي. ابتسمتُ، وربتُّ على رأسها بين أذنيها: “شكرًا لكِ يا إيفي…”
رفعت رأسها، وأطلقت “مياو” قصيرة، كأنها تقول: على الرحب.
ثم قلتُ: “إيفي… أريد أن أسألكِ شيئًا.”
رفعت رأسها واستوت جالسة، ذيلها يلتف حول قدميها الصغيرة. “مياوووو؟”
“هل… تحبين مارلين؟”
تجمّدت لثانية. ثم التفتت نحوي ببطء… نظرة اشمئزاز واضحة جدًا، كتفت فيها أذنيها، ثم قفزت على الورقة وبدأت تكتب بعصبية:
أ… ب… د… ا
رفعتُ حاجبًا: “أبدًا، إذن؟”
هزّت ذيلها تأكيدًا.
تنهدتُ بخفة، ثم قلتُ وأنا أرفعها إلى حضني: “جيد… لأنني أنوي فسخ خطوبتي به في الحفلة. وسآخذكِ معي… سترين مشاهد جميلة، لم تستطيعي رؤيتها في أحداث الرواية السابقة.”
رفعت رأسها، وعيونها الذهبية تتّسع وكأنها تفهم، ثم أطلقت “مياوو” طويلة… ليست احتجاجًا، بل حماسًا خفيفًا.
وبينما ضوء الشموع يرقص على الجدران، كان واضحًا جدًا أن مرحلة جديدة بدأت… مرحلة فيها قطة بروح إنسان، وفتاة ببرودٍ يخبّئ خلفه ألف عاصفة، ومصيرٌ يتشكل قبل أن تدركه أي منهما.
التعليقات لهذا الفصل " 42"