سبحان الله العظيم ✨ لا تجعلوا قراءة الروايات 📖💕 تلهيكم عن الصلاة 🕋 وعن ممارسة الشعائر الدينية 🤲🌸
⋆。゚☁︎。⋆。 ゚☾ ゚。⋆⋆。゚☁︎。⋆。 ゚☾ ゚。⋆⋆。゚☁︎。⋆。
خرجت فتاةٌ بشعرٍ أزرقَ سماويّ، يشعّ كضوءٍ سائلٍ يتراقص مع كل حركة، تتلألأ خصلاته الدقيقة كأمواجٍ صغيرةٍ من النور. كانت بحجم عقلة الإصبع تقريبًا، تحلّق أمامي بخفةٍ أشبه بوميض الفجر
تقدّمت نحوي قليلًا، وعيناها اللامعتان تشعّان ببريقٍ حيٍّ غريب، ثم قالت بصوتٍ طفوليٍّ يحمل في نبراته ارتجاف التعب: “أخيرًا خرجت من ذلك السجن… ظننت أني لن أخرج أبدًا، بسبب أن قوة أمستارا كانت في أقصى حدودها…”
كان صوتها خافتًا لكنه مليء بالحياة، كأنها تحاول استعادة أنفاسها بعد زمنٍ طويلٍ من الصمت. كانت على بُعد بوصاتٍ فقط من وجهي، قريبةً إلى حدٍّ جعلني أرى انعكاس وجهي في عينيها الصغيرتين اللامعتين.
بدت عليها الدهشة وهي تحدّق بي لثوانٍ طويلة، ثم شهقت بحدةٍ طفولية قائلة: “مهلًا، أنتِ! لحظة… لا تخبريني أنكِ أنتِ من تمتلكين القوة؟!”
ارتسمت على وجهها الصغير ملامح صدمةٍ حقيقية، قبل أن تلوّح بذراعيها الصغيرتين وتقول بنبرةٍ متذمرةٍ مضحكة: “مستحيييل! ظننت أنه عندما سأخرج، سأرى رجلًا وسيمًا بشعرٍ بنفسجي مثل سيدي! لكنك فتاة؟ هذا محبط!”
ظلت تحدّق بي كأنها تحاول فهم ما تراه، بينما أنا كنت غارقةً في ذهولٍ كامل، لا أستوعب إن كان ما يحدث أمامي واقعًا أم وهمًا من أوهامي. قلبي خفق بسرعةٍ غير مريحة، وخرج صوتي أخيرًا ضعيفًا، مرتبكًا، مترددًا بين الحيرة والدهشة: “عذرًا… ألستِ أنتِ من قبلتَها في أحلامي؟”
توقفت الفتاة الصغيرة عن الحركة، وكأن كلماتي صدمتها للحظة. استدارت نحوي ببطءٍ، وأجنحتها ترفرف بخفةٍ جعلت الضوء الأزرق يتراقص على وجهي. كانت عيناها تتأملانني بتركيزٍ غريب، كأنها تبحث في ملامحي عن شيءٍ مألوفٍ ضائع منذ زمن.
ارتجفت شفتاي قليلًا، وانخفض صوتي أكثر حتى صار أشبه بالهمس، همسٍ خرج من أعماقٍ لم ألمسها من قبل: “صحيح أنكِ صغيرةٌ قليلًا… ولكنكِ تشبهين تلك السيدة التي ظهرت في حلمي…”
ساد الصمت بعدها، صمتٌ عميق كأن الزمن توقف لثوانٍ. كان الضوء الأزرق يحيطني من كل جانب، ينساب على الجدران، ويتسلل إلى صدري كدفءٍ غامضٍ لم أعرف له اسمًا.
يبدو أن لديكِ ذاكرةً قويةً يا أوريانا. توهّج جسد الفتاة الصغير فجأة، انبعث منه نورٌ أزرقُ ساطع، حتى اضطررتُ لإغماض عينيّ من شدّة الضوء. وحين انطفأ التوهّج، لم تعد تلك الفتاة الصغيرة موجودة… بل وقفت أمامي امرأة في العشرينيات من عمرها، بشعرٍ أزرق سماوي يتلألأ تحت الضوء، وعيونٍ سوداء عميقة تشبه غابةً لا تُرى نهايتها. كانت فاتنةً إلى حدٍ يصعب وصفه، فاتنةً بطريقةٍ غير واقعية.
انحنت برشاقةٍ مثالية، وانبعث من حركتها مزيجٌ من الرقة والهيبة. قالت بصوتٍ رزينٍ هذه المرة، وقد اختفى ذلك النبر الطفولي الذي سمعته سابقًا: “أنا آسفة جدًا، آنسة أوريانا، على ما بدر مني من تصرفٍ طفولي في السابق.”
ثم ابتسمت ابتسامةً مرحةً ودافئة، تنبع منها خفةُ روحٍ يصعب تجاهلها. “فقط كنتُ أمزح، بالطبع كنتُ أعرف أنكِ فتاة، لكنني تمنّيت لو كنتِ رجلًا… لا تسألي لماذا، يبدو أنني أحببت تلك الفكرة قليلًا.”
ضحكت بخفةٍ وهي تضيف: “وأعتذر عن صوتي الطفولي وتصرفي، لكن سحري لم يكن قد تجمّع بالكامل لأتخذ هيئتي الحقيقية بعد.”
نظرتُ إليها ببرودٍ واضح، لا أثر للدهشة على ملامحي، رغم غرابة ما حدث. “عذرًا، لكنكِ تتحدثين كثيرًا، ولم تُجيبي بعد عن سؤالي.”
ارتبكت قليلًا، ثم وضعت يدها على صدرها بانحناءةٍ خفيفة وقالت: “آه، صحيح… اسمـي مارسيلين. أنا مشرفُ النظام المسؤول عن تطوير قوة أمستارا.”
تكرّرت الكلمة في ذهني مرارًا… مشرف نظام؟ تطوير قوة أمستارا؟ لم أفهم شيئًا. كل ما عرفته أن تلك النافذة الغريبة التي كانت تظهر لي بلا توقف لها علاقة بهذه المرأة.
نظرتُ إليها بجدية وسألت: “مشرفُ قوة أمستارا؟ لا أفهم… تلك النافذة التي استمرت في الظهور لي عن قوة أمستارا، ما معناها؟ ما الذي يحدث حقًا؟”
قالت المرأة ذات الشعر الأزرق السماوي بنبرةٍ هادئة تحمل اعتذارًا خفيفًا: “أنا آسفة، اسمحي لي أن أشرح الأمر بوضوح يا آنسة أوريانا.
في البداية… قوة أمستارا ليست قوة عادية. إنها قوة فريدة من نوعها، تمنح من يمتلكها القدرة على استخدام معظم أنواع السحر، إن لم يكن جميعها. إنها أول قوةٍ وُجدت في هذا العالم… القوة التي امتلكها سيدي، ميركاس.”
تجهمتُ قليلًا وأنا أردد الاسم ببطء: “من… ميرك؟”
أجابت بابتسامةٍ بسيطة، وكأنها تتحدث عن أسطورةٍ مقدسة: “ميركاس. إنه سيدي بالطبع. لن تسمعي عنه، فقد مضى زمنٌ طويل جدًا على وجوده. كما قلت لكِ، إنها قوة نادرة للغاية، لا يمتلكها سوى نسله. لكن…” تغيرت ملامحها فجأة، وصار صوتها أكثر جدية. “تلك القوة تحمل في داخلها عيبًا قاتلًا.”
رفعتُ حاجبي بترقب، فتابعت قائلة: “إذا لم يتمكن حامل أمستارا من إتقانها وتفعيلها بشكلٍ صحيح قبل بلوغ سن العشرين، يبدأ جزءه الداخلي بالتصدع… ويموت.”
توقفت لحظة، ثم وضعت يدها على صدرها وقالت بابتسامةٍ متماسكة: “ولهذا السبب صمّمنا نحن، مرشدي أمستارا، لأرشد من يحملونها. سيدي أنشأ عدة مشرفين مثلي لهذا الغرض، وأنا من حسن حظي أنكِ أطلقتِ سراحي للتو. يبدو أنكِ في السابعة عشرة من عمرك، أليس كذلك؟”
أومأتُ بخفة، رغم أن الشك بدأ يتسلل إلى عقلي. “هذا جيد”، قالت وهي تهمس، “إن اتبعْتِ إرشاداتي، فستتمكنين من السيطرة على القوة قبل فوات الأوان…”
قاطعتها بحدةٍ هادئة: “لحظة فقط، لديّ عدة أسئلة. قلتِ إنني من نسل سيدكِ، ميركاس… كيف أنتِ متأكدة من ذلك؟”
ابتسمت بثقةٍ غامضة. “الأمر واضح جدًا… بسبب لون شعرك.”
تجمدتُ للحظة. “ماذا؟”
قالت بصوتٍ واثق: “الأشخاص الذين يحملون قوة أمستارا يولدون بشعرٍ بنفسجيٍّ جميل مثلكِ تمامًا. كما أنني أستطيع رؤية طاقة روحكِ – إنها طاقة أمستارا، متفردة عن كل أنواع السحر الأخرى. لذا، من المؤكد أنكِ من سلالة سيدي.”
ارتفعت حرارة رأسي قليلًا من كثرة ما سمعت، لكنني تماسكت وسألتها مجددًا: “حسنًا… لننتقل إلى السؤال الثاني. لماذا ظهرتِ الآن؟ من بين كل الأوقات، لماذا هذا التوقيت تحديدًا؟ وكيف عرفتِ بوجودي أصلًا؟”
ابتسمت بخفةٍ كمن يوشك أن يكشف سرًا. “آه، هذا بسبب الكتاب.”
ضيّقتُ عينيّ بدهشة. “كتاب؟ أي كتاب؟”
ابتسمت بثقةٍ ووميضٍ صغير في عينيها. “الكتاب المزيّن بحجرٍ بلّوري بنفسجي…”
انقبض صدري فجأة، وتذكرت. “لحظة… أتقصدين ذلك الكتاب المزخرف الذي وجدته؟”
“لكن… لحظة، أين هذا الكتاب؟ لم أجده عندما استيقظتُ من غيبوبـ…” توقفتُ فجأة، كأن فكرة انغرست في رأسي بقوة. “لحظة، لديّ سؤال آخر… لقد ظهرتِ لي قبل أن أستيقظ من غيبوبتي، وقلتِ إنكِ أخيرًا وجدْتِني… ماذا كنتِ تقصدين بذلك؟”
ارتسمت على وجه مارسيلين ابتسامة باهتة، تخالطها لمحة ندمٍ خافتة. قالت بصوتٍ هادئٍ يشوبه التردد: “بمناسبة هذا… أنا أعتذر حقًا. لم أكن أتوقع أن تكون قوتكِ كبيرة إلى هذا الحد. عندما فتحْتِ الكتاب، أطلقتِ كل طاقتكِ دفعة واحدة دون أن ألاحظ كم هي هائلة… لذا حدث ما حدث. آسفة حقًا، لم أكن أظن أن الأمر سيصل إلى هذا.”
نظرتُ إليها ببرودٍ ظاهري، لكن في داخلي كانت الأسئلة تتصارع بعنف. “أجل، ولكنكِ لم تجيبي بعد… ما معنى قولكِ أخيرًا وجدتكِ؟”
صمتت للحظة، وكأنها تختار كلماتها بعناية، ثم قالت: “عندما أطلقتِ قوتكِ، كان من المفترض أن يُغمى عليكِ فقط من أثر الصدمة، لكن ما حدث لكِ كان غريبًا جدًا… روحكِ كانت… ترفض وجودها.”
تجمدت نظراتي. “ترفض وجودها؟ ماذا تعنين؟”
نظرت نحوي بجدية، وقد خفّ بريق عينيها السوداء قليلاً: “بدت روحكِ وكأنها لا تنتمي لهذا الجسد… كانت تبتعد عنه، كأنها تحاول الهرب من هنا. لم أكن أفهم السبب، لكن فجأة… اختفيتِ. روحكِ عبرت إلى بُعدٍ آخر، إلى مكانٍ لم أستطع الوصول إليه بسهولة. ظللت أبحث عنكِ، أتبع أثر طاقتكِ لأيامٍ طويلة حتى وجدتُكِ أخيرًا… وعندما وجدتكِ، أعدتُ روحكِ إلى جسدكِ.”
ساد صمت قصير… كانت كلماتها تتردد داخلي كأصداء بعيدة.
“روحكِ كانت ترفض وجودها…”
أخفضتُ رأسي ببطء، وبدأت أفكر بعمق. “هاه… إذًا لم يكن ذلك حلمًا…”
تسللت الدهشة إلى ملامحي وأنا أتمتم لنفسي: “لقد ذهبتُ إلى عالمي مجددًا… لقد كنتُ في عالمي حقًا…”
ازدادت أنفاسي اضطرابًا، فكل شيء بدأ يتضح أمامي ببطء مؤلم. “لقد ساورني الشك طوال الوقت… لم أكن أعلم من أنا بالضبط، أو ما إذا كان ذلك العالم – حيث كنتُ بين سوه – حقيقيًا أم مجرد وهم صنعه هذا المكان… لكن الآن، بفضل كلمات هذه المرأة… أستطيع أن أؤكد أنه كان عالمي… عالمي الحقيقي.”
رفعت نظري نحو مارسيلين مجددًا، وصوتي يحمل حذرًا خافتًا: “لكن… أين هو ذلك الكتاب الآن؟”
أشارت مارسلين بإصبعها نحو الطاولة، كانت حركتها دقيقة وواثقة، كأنها تحدد شيئًا مهمًا يستحق انتباهي الكامل.
نظرت إليها ثم إلى الطاولة، فإذا بعيني تقع على الكتاب الموضوع هناك. رفعت حاجبيّ بدهشة، وأخذت أنظر إليه عن قرب، محاولًة أن أفهم ما يحدث: “مهلًا… ولكن هذا ليس نفس الكتاب… إنه لا يحمل أي بلورة، حتى إنه يبدو ككتاب عادي!”
ابتسمت مارسلين ابتسامة هادئة، وكأنها تعرف أثر تلك اللحظة على قلبي، وقالت بصوت ناعم لكنه يحمل شيئًا من الدعابة: “أجل، لأني أخفيت شكله. أنتِ لا تتوقعين مني أن أترك كتابًا بمثل هذا المنظر الملفت، أليس كذلك؟”
تنفست بعمق، ثم همست لنفسي: “أجل، أنت على حق…”
فجأة، طرق الباب بعنف، فارتجف المكان للحظة، وسمعت الصوت يقول: “آنستي، سأدخل. أمرني الدوق بإحضارك.”
رفعت نظري نحو مارسلين، كانت تراقبني بابتسامة خفيفة، وملامح وجهها تقول بوضوح: لا تقلقي، لا أحد يمكنه رؤيتي سواكِ.
فتحت الباب بخطوات متأنية، ودخلت سوزي، ملامحها مشدودة وتعبيرات وجهها واضحة الانزعاج والضيق. عيناها لم تخفيا استياءها من تواجدي، وكان كل شيء فيها يوحي بالتذمر.
قالت بنبرة حادة قليلًا: “آنسة أوريانا، أرجوكِ، الدوق يريدك في غرفة الطعام.”
نظرت إليها، ثم إلى مارسلين التي ابتسمت لي مجددًا بابتسامة لطيفة، شعرت حينها براحة طفيفة لأنها كانت هناك، تدعمني بصمت.
أجابت سوزي بلا مبالاة، وكأنها تحاول الضغط عليّ بالوقت: “آنستي، ألم نرحل؟ سنتأخر إن بقيتِ هنا.”
رفعت عينيّ نحوها بحذر، وأخذت أسمع كلمات مارسلين تتردد في عقلي بصوت هادئ: “حقًا، بعض الناس لا يتعلمون… يقولون إن عليك قيادة الناس باللين والعصا، إنها مقولة مشهورة، ولكن في بعض الأحيان، هناك أشخاص لا ينفع معهم سوى العصا.”
ابتسمت في سرّي، وحاولت أن أتمالك نفسي، ثم توجهت بخطوات واثقة نحو الباب، وأنا أفكر في أن عليّ التوجه إلى والدي، فهو بلا شك ينتظرني.
وصلتُ إلى المائدة بخطواتٍ بطيئة، كأن الأرض تُثقل قدميّ عمدًا. كان والدي يجلس في صدر الطاولة، شامخًا كالعادة، تُحيط به تلك الهالة التي تجمع بين الوقار والصرامة. رفعتُ بصري قليلًا… ورأيتهم.
أوسكار. ليونارد. فيكتوريا. وجوهٌ مألوفة غابت عني لشهرٍ كامل، كنت أظن أن رؤيتهم ستُشعرني بالدفء، بالحنين. لكن… لا. ما شعرت به كان عكس ذلك تمامًا. إحساسٌ بالقذارة، بالتنافر، كأن مجرد وجودهم يعيد إليّ شيئًا من ماضيّ الذي ظننت أنني تخلصت منه. عائلتي السابقة… ذكراهم تلتصق بي كظلٍّ لا يزول.
“أوريانا، تعالي… اجلسي هنا.” أشار والدي إلى الكرسي بجواره، فاقتربت وجلست بصمتٍ ثقيل. إلى يمينه جلس ليونارد، صامتًا، لم يلتفت نحوي حتى حين مررت بجانبه. وجهه كان جامدًا إلى حدٍ مزعج، ملامحه مقيّدة، لا توحي بشيء… لا غضب، لا رضا، لا أي شيء. أما أوسكار، فكان العكس تمامًا. نظراته تحرقني كأنها طُعنات صامتة. كرهٌ خالص، واضح، لا يحتاج إلى تفسير. وفي الجهة المقابلة… فيكتوريا، بابتسامتها الهادئة، تلك التي تبدو للوهلة الأولى ملائكية، لكنها تخفي تحتها شيئًا آخر – شيء لا أجرؤ على تسميته.
أخذ أبي كأس العصير أمامه، ثم طرق عليه بملعقته الصغيرة – خبطات معدنية رنانة ملأت الغرفة، كأنها نذير لبداية شيء لا أريده. ارتفعت رؤوس الجميع نحوه في آنٍ واحد. صوته خرج قويًا، هادئًا، لكنه يفرض الإصغاء:
“بالتأكيد تعرفون أن أوريانا قد التحقت باختبار الأكاديمية، واليوم أُعلنَت النتائج. لذا جمعتكم هنا اليوم للاحتفال بها.”
توقفت أنفاسي لحظة. الاحتفال؟ كلمة بدت لي قاسية جدًا في تلك اللحظة. مدّ يده وأشار نحو الظرف الأبيض الذي أخضرته معي ووضعته على الطاولة، ووضعه أمامي. “أوريانا، يمكنك فتح الظرف الآن.”
مددتُ يدي ببطء. كانت أصابعي باردة كأن الدم توقف عن الجريان. أمسكت الظرف، فتحتُه… وأنا أعرف جيدًا ما بداخله. أعرف النتيجة قبل أن تُقال، وأعرف أيضًا كيف سيبدو وجه أبي بعد لحظات.
شعورٌ ثقيل بالأسى اجتاح صدري. ليس لأجل نفسي، بل لأجل خيبته التي ستولد بعد لحظة، خيبة لا أستطيع منعها مهما حاولت.
فتحتُ الظرف ببطء، كأن كل ثانية تمر وكأنها دقّة قلب تُثقل صدري. كانت الصدمة تضغط على صدري قبل أن أقرأ أي كلمة. كنت أعلم النتيجة قبل أن أرى السطور، لذا شعرت بضيقٍ خفي… إحساسٌ بالرهبة، وكأن عقلي يحاول الاستعداد لما سيأتي.
لكن مع كل كلمةٍ كنت أقرأها، تغير كل شيء. كانت النتيجة… أني مقبولة.
صدمة. حقًا لم أتوقع هذا أبدًا. كنت مستعدة للرفض، كنت أعرف جيدًا… فشلت في اختبار القوة السحرية، كنت أعلم أن أكاديمية النخبة لن تمنحني فرصة، وأن كل حلمي سيتبدد أمامي. لكن الآن… هذا لا يُصدق.
“أوريانا… ما النتيجة؟”
صوت أبي جاء صافيًا، هادئًا كما اعتدت، لكنه يفيض بالفضول والحماس.
“لقد قُبلت.” ابتسم ابتسامته المعتادة، الابتسامة التي كانت دائمًا تشع بالثقة والاطمئنان. “كنت أعلم أنك ذكية، أوريانا… لذا كنت متأكدًا.”
ابتلعت أنفاسي، وقلبي يرفرف بسرعة. لكن قبل أن أتمكن من الإفصاح عن دهشتي، جاءت الحقيقة التي حاولتُ أن أخفيها عن نفسي منذ يوم الاختبار: “لحظة، أبي… أنا… لم أرغب في قول هذا منذ يوم الاختبار، لكن… لقد فشلت في اختبار السحر.”
“ربما أرسلوا النتيجة خطأ… أو ربما…” كلماتي كانت مهزوزة، مزيج بين الخجل والارتباك والخوف من خيبة أمله.
“أوريانا… ألم تسمعي الخبر؟”
صوت ليونارد جاء من جانبي، جافًا، صريحًا، بلا أي زخرفة. “يبدو أن الأكاديمية قد ألغت شرط أن من يجب أن يدرسوا هم من يمتلكون قوة سحرية، وقرروا عمل فصول خاصة لأولئك الذين لم يمتلكوا القوة.”
نظرت إليه. وجهه كان شاحبًا، عابثًا بالملل أحيانًا، لكني بالكاد التفتّ إليه. كل ما كان يهمني في تلك اللحظة… كان صدى الصدمة، شعور الانتصار المفاجئ، وارتباك الخوف من خيبة أبي…
كان كل شيء معقدًا… لكن بدا لي أن قلبي لم يعرف بعد كيف يستوعب هذا الانقلاب الكبير في المشاعر.
نظرتُ إلى والدي وهو يشرب العصير بهدوء، كل حركة منه هادئة، محسوبة… لا يبدي أي ردة فعل تجاه موضوع فشلي، ولا تجاه القرار الجديد للأكاديمية. لا دهشة، لا تعجب، لا استياء. كان كل شيء بالنسبة له طبيعيًا، وكأن كل ما حدث كان متوقعًا منذ البداية، كأن قلبه قادر على قراءة ما بداخلي قبل أن أتجرأ أنا على التفكير فيه.
“أبي… هل يمكن أن…” بدأت بالكلام، لكن توقفت فجأة، لم أعرف كيف أصيغ كلماتي.
“أني ماذا، أوريانا؟” صوته هادئ، صريح، بلا أي أثر للغضب أو الاستياء.
“لا شيء… فقط… هل يمكنني البدء بتناول الطعام؟” ابتسم لي، تلك الابتسامة التي تعرفني جيدًا… الرجل الذي يفهمني، ويعتني بي بطريقة تبدو أحيانًا غير طبيعية، كأن قلبه مرتبط بقلب آخر يعرفه دون كلمات.
تناولنا الطعام بهدوء، لم يكن هناك أي حديث زائد، لكن كل لحظة شعرت فيها بالدفء، بالطمأنينة، وكأنني أستعيد جزءًا من نفسي المفقودة. وبعد أن انتهينا، غادرت الغرفة وأنا أشعر بخفة غير مسبوقة، فرحة صافية تتسرب إلى قلبي. لقد استطعت أخيرًا الانضمام إلى الأكاديمية، أخيرًا يمكنني أن أبدأ رحلتي للبحث عن زهرة ميرفيا، الحلم الذي ظل يراودني منذ زمن بعيد.
“أوريانا…”
توقف قلبي للحظة، صوت مألوف جاء من خلفي. صوت ليونارد. هادئ، ودي، لكنه ممتلئ بحزن لا يمكن تجاهله. تجمّدت للحظة، شعور بالانزعاج اجتاحني. لم أرغب برؤيته، لم أرغب بالتحدث إليه… الشهر الماضي كان هادئًا بسبب ابتعاد الجميع عني، ومع ذلك، ها هو يظهر فجأة، كأن كل سكوني لن يدوم.
التفتُ إليه وأنا أشعر بانزعاجٍ خافتٍ يتسلل في صدري، لكنه لم يترك أثرًا على ملامحي. وجهي ظلّ هادئًا كما هو، ونبرتي حين نطقت بدت متزنة، خالية من أي انفعال: “ماذا هناك؟”
مدّ يده ببطءٍ محسوب، وكأنه يخشى أن يوقظ شيئًا نائمًا في الهواء بيننا. كانت أنامله القوية تحمل شيئًا صغيرًا، وبمجرد أن انزلق المعدن في الضوء، انكشفت سلسلةٌ فضيةٌ براقة، تتلألأ تحت وهج الشمس بخفةٍ أنيقةٍ تسرق النظر. لمعت الأحجار الصغيرة المعلقة بها كأنها تخبئ سرًّا ما، أو تحمل ذاكرةً قديمة لا تخصّ أحدًا سواي.
قلت بهدوء، دون أن أُغيّر ملامح وجهي التي بقيت على برودها المعتاد: “ما هذه؟”
أجاب بصوتٍ خفيضٍ، حذرٍ، وكأنه يزن كلماته قبل أن يُطلقها: “لقد أعطيتِني هذه… وطلبتِ مني أن أحتفظ بها، وألا أُعيدها إليك إلا إذا شعرتُ أنكِ تغيّرتِ فجأة.”
تجمّدت الكلمات في الهواء. للحظةٍ قصيرة، لم أُظهر أي رد فعل، لكن داخلي امتلأ بعشرات الأسئلة. أنا قلت له هذا؟ متى؟ منذ أن تجسدت، لم أفعل شيئًا كهذا… لا بد أنها أوريانا الحقيقية. ومع ذلك، يزداد الأمر غرابة: لماذا قالت ذلك؟ وكأنها توقعت أن يتجسّد أحد داخلها… كان هناك شيءٌ مريبٌ، متشابكٌ كخيوطٍ لا تُرى.
“ألستِ ستأخذينها؟” قالها بنبرةٍ هادئة، لكن تحتها ظلّ من التردد وكأنه يخشى رفضي.
تقدّمت خطوة، نظري ما زال ثابتًا على السلسلة التي تعكس الضوء. في النهاية، عليّ أن أعرف ما يجري، ولو قليلاً. مددت يدي وأخذتها بهدوء، دون أي انفعالٍ ظاهر، وقلت ببرودٍ جافٍّ كالمعتاد: “أجل، شكرًا لك.”
ثم رفعت نظري نحوه، ونطقت بالكلمات التالية بنفس النبرة المتزنة، كأنها جملة عابرة في حديثٍ لا يعني لي شيئًا: “إذاً… وداعًا. أتمنى ألا أراك أو أقابلك مصادفةً مجددًا.”
لكن قبل أن أتحرك، أحسست بيده تمسك يدي فجأة، قبضته دافئة لكنها مشدودة، كأن شيئًا بداخله يرفض أن يتركني أرحل. لم أتحرك، فقط نظرت إليه بعينين خاليتين من أي اضطراب، لكن داخلي كان يراقب المشهد بترقّبٍ صامت. لم أفهم تمامًا ما الذي يدفعه لذلك… ولا ما الذي يريد قوله، ولكن شيئًا ما في عينيه كان يقول إنه لم ينتهِ بعد.
“أنا حقًا قلت إنّي آسف لكِ مرارًا يا أوريانا… ماذا عليّ أن أفعل كي تسامحيني؟” كان صوته خافتًا، تملؤه رجفةٌ من لا يعرف إن كان ما يقوله سيجد طريقًا إلى قلب من أمامه أم سيرتدّ عليه كصدى ضائع في فراغٍ بارد.
رفعتُ نظري إليه ببرودٍ متعمّد، وقلت بنبرةٍ ثابتة: “اسمع، ليونارد… توقف عن النظر إليّ بتلك الطريقة، وكأنك الضحية هنا.” ثم أضفتُ بفتورٍ أكثر: “أخبرتك من قبل، لا داعي للاعتذار لي. لأنّي لم أطلب اعتذارك… ولا أريده.”
خفض رأسه قليلًا، كمن أُطفئ فيه آخر بصيصٍ من الأمل. كانت ملامحه مائلة للحزن، عينيه تائهتين في ندمٍ لا طائل منه. لكنني لم أشعر بشيء. كيف سيفيده هذا الندم الآن؟ حتى لو اعتذر ألف مرة، فإن الشخص الذي كان يجب أن يوجَّه إليه هذا الاعتذار لم يعد موجودًا… أوريانا الحقيقية اختفت، وما تبقّى منها مجرد صدى في داخلي.
تقدّمت نحوه بخطواتٍ هادئةٍ، كأن الأرض تحت قدميّ تُنصت. “اسمع يا ليونارد، اسمح لي أن أفعل شيئًا.” مددت يدي، لم يتراجع، فقط ظلّ واقفًا أمامي، كمن سلّم نفسه لقدرٍ يعرف أنه قادم. بأطراف أظافري، خدشتُ جانب وجهه بخفةٍ محسوبة، فسال خيطٌ دافئ من الدم على بشرته الشاحبة.
نظرت إليه بعينين جامدتين، ثم قلت بنبرةٍ خافتةٍ تشوبها سخرية باهتة: “أوه… أنا آسفة حقًا يا ليونارد. هل آلمك؟” تقدّمت أكثر، كأنني أريد أن أرى ما خلف ذلك الألم، ثم تمتمت: “تتألم، أليس كذلك؟ لكن رغم أني اعتذرت، لماذا لم يلتئم الجرح؟ ولماذا شعرت بالألم رغم اني اعتذرت ؟”
تجمّد صوته في حلقه، لكن عيناه قالتا ما لم يقله لسانه. ابتسمتُ بمرارةٍ خفيفةٍ وقلت: “أنت فهمت مقصدي، أليس كذلك؟”
استدرت بهدوء، دون انتظارٍ لإجابة، وغادرت المكان بخطواتٍ ثابتةٍ. وصلت الي غرفتي و حين أغلقت الباب خلفي، ساد صمتٌ ثقيل، كأن العالم نفسه حبس أنفاسه.
في الداخل، كانت مارسلين قد عادت إلى حجمها الصغير، تطفو بخفةٍ في الهواء قالت بصوتها الهادئ: “آنسة، هل قضيتِ وقتًا ممتعًا؟”
نظرت إليها بملامحٍ جامدةٍ، ثم أجبت: “أجل… ربما. لكن شيئًا ما عكّر صفو مزاجي.” ابتسمت بخفةٍ وهي تميل برأسها قليلًا، وقالت بنبرةٍ مرحةٍ معتادة: “إذًا، هل نكمل حديثنا؟”
لكن قبل أن تُكمل كلماتها، انبعث ضوءٌ خافت من القلادة التي كنتُ أمسكها. لمع الضوء على الأرضية كخيطٍ من الفضة، وبدأت الأرض من تحتي ترتجّ ببطءٍ غريب. تراجعت خطوة إلى الوراء، أراقب بذهولٍ كيف أخذ الضوء ينتشر على هيئة دوائرٍ متداخلةٍ، ثم بدأ البلاط يتشقق في منتصف الغرفة بصوتٍ مكتومٍ يشبه أنين الصخور القديمة.
“هاه؟! ما هذا؟” تمتمتُ، وصوتي خرج مشوبًا بالارتباك. تراجعت أكثر، خشية أن تنهار الأرض فجأة تحت قدميّ.
وفي لحظةٍ خاطفة، انفتح جزء من الأرضية ببطءٍ، كأنها بوابةٌ تستيقظ بعد سباتٍ طويل، وظهرت أسفلها سلالمٌ حجريةٌ غارقةٌ في الظلام، تنحدر إلى عمقٍ لا يمكن تخمينه.
اقتربت مارسلين بخطواتٍ حذرة، عيناها الواسعتان تعكسان وهج الضوء القادم من القلادة، ثم همست بدهشةٍ صافية: “ما هذا؟”
نظرت إليها بجديةٍ وقلت: “أنا مثلك… لا أعرف.”
صمتت لحظة، ثم ابتسمت فجأةً وقالت بمرحٍ طفوليّ: “حسنًا، لننزل.”
حدّقت فيها بذهولٍ، ثم رفعت حاجبيّ وقلت بحدةٍ منخفضة: “ماذا؟ هل أنتِ غبية؟ ننزل إلى أين بالضبط؟!”
ضحكت بخفةٍ وهي تضع يديها خلف ظهرها، وقالت بنبرةٍ خفيفةٍ، كأنها تتحدث عن نزهةٍ عادية لا عن ممرٍ غامضٍ تحت الأرض: “ننزل لنرى ما هذا. لو بقيتِ هنا، فلن تعرفي أبدًا، أليس كذلك؟”
أطلقتُ تنهيدةً قصيرةً وقلت بغيظٍ: “هل أنتِ غبية؟ ماذا لو حدث شيء بالأسفل؟”
ردّت بابتسامةٍ مطمئنةٍ وهي ترفرف بجناحيها الصغيرين قليلًا: “لا تقلقي، أنا معكِ. لو حدث شيء… سأحميكِ.” غمزت مارسلين بعينها بخفةٍ، وقالت بنغمةٍ مرحةٍ رغم غموض الموقف: “لا تقلقي كثيرًا… هيا.”
ثم اندفعت بخفةٍ نحو السلالم، تختفي درجاتٌ من جسدها الصغير شيئًا فشيئًا داخل العتمة. صرخت وأنا أراها تنزل دون تردد: “هاي! أنتِ! توقفي فورًا!”
لكنها لم تلتفت، واكتفت بالضحك بخفةٍ وهي تواصل النزول. تمتمتُ بغيظٍ خافتٍ: “تلك المجنونة… عليّ أن أحضرها قبل أن تقتل نفسها!”
نزَلتُ خلفها بسرعة، تتردد خطواتي على الدرج الحجري الذي يبتلع الأصوات. ومع كل درجةٍ، كان الهواء يزداد برودة، وضوء القلادة يرقص على الجدران كظلالٍ غامضةٍ تحاول أن تهمس بشيءٍ لا يُفهم.
وحين وصلت إلى الأسفل، تجمدت في مكاني. المكان كان أشبه بمكتبةٍ سحريةٍ دفنها الزمن؛ رفوفٌ عاليةٌ تمتد حتى السقف، مكدسةٌ بالكتب القديمة والمخطوطات المتآكلة. على الطاولات تنتشر أدواتٌ غريبة: أنابيب زجاجية، ومواد تلمع بألوانٍ خافتةٍ، وبلّورات صغيرة تشع بوميضٍ غامضٍ كل حين.
تقدمت بخطوةٍ حذرةٍ أستكشف المكان بعينيّ، وفجأةً، اخترق الصمت صوتٌ عميقٌ جاء من خلفي: “أخيرًا… أتيتِ، سوه.”
تجمّدت الدماء في عروقي. سوه؟ كيف…؟ كيف تعرف هذا الاسم؟ اسمي من عالمي السابق؟!
التفتّ بسرعة، وصدري يعلو ويهبط بعنفٍ، لأرى أمامي كيانًا نصف شفاف، يقف وسط الهالة المضيئة المنبعثة من البلّورات. كانت له خصلات شعرٍ بنفسجيةٍ تنساب كالدخان في الهواء، وعينان بنيتان لامعتان تخترقان الظلام.
التعليقات لهذا الفصل " 41"