ما الذي يفعله هنا؟! أليس هو رئيس برج السحرة؟! فما الذي يجعله في مكانٍ كهذا؟
مصيبة… مصيبة! ماذا لو تعرّف عليّ؟ صحيح أننا لم نلتقِ سوى مرةٍ واحدة، ولكن… أليس ساحرًا؟ قد يتعرّف عليّ بسهولة!
اهدئي… اهدئي يا أوريانا، عليكِ ألا تُبدي توترك.
تلك الفتاة بدأت بالكلام بصوتٍ حادٍ ومغرور: “سيد لوسيان، فلتترك يدي! هل تفعل هذا لأجل تلك العامية؟!”
أجابها بنبرةٍ هادئةٍ صارمة تحمل في طياتها هيبة لا يمكن تجاهلها: “آنسة كاريسا، حتى لو كانت عامية، فهذا أمرٌ نُفرّق فيه في المال والمكانة، لكن في الأكاديمية… أظن أنكِ سمعتِ أن هذا غير موجود هنا. لذا، رجاءً، الالتزام والهدوء في هذا الموقف… أم أنكِ تفضلين أن أحضر أحدًا ليتدخل؟”
شدّت يدها منه بعنفٍ واضح وقالت بغضبٍ ممزوجٍ بالاحتقار: “لا داعي، لن أُزعج نفسي بمعاملة حشرة!” نظرت إليها ببرود وعدم اهتمام مطلق لكلماتها
عندما تحرّكت لتغادر، حدث ما لم تتوقعه… فجأة، رفع لوسيان يده بهدوء، وخرج من كفّه ضوءٌ أخضر ناعم، وفي لحظاتٍ قليلة، تكوّنت فراشة خضراء جميلة من بين أطراف أصابعه، تحلّق بجناحين يلمعان بضوءٍ زمرديٍ خافت.
انطلقت الفراشة بخفةٍ نحو كاريسا، التي توقفت في مكانها متوترة، ثم صرخت فجأة وهي تلوّح بيديها في الهواء: “ما هذا؟! أبعدوها عني!”
بقيت الفراشة تقترب منها أكثر فأكثر، وهي تدور حولها برشاقةٍ خبيثة، حتى بدأت كاريسا تصرخ وتترنح بخوف، ثم بعد لحظاتٍ قصيرة، غادرت الفراشة اتجاهها وعادت تطير برقةٍ نحو لوسيان، لتقف على إصبعه بهدوءٍ كأنها قطعة من الضوء، تخفق أجنحتها الصغيرة في سكونٍ عجيب.
نظرت كاريسا إليه بغضبٍ شديد، ووجهها احمرّ من الإهانة، وقالت بصوتٍ مرتجف: “سيد لوسيان! هل هذه مزحة؟!”
ابتسم بلطفٍ هادئ، لكن في عينيه ومض من سخريةٍ باردة، وقال: “لا، ليس كذلك. أنتِ فقط قلتِ إنكِ لن تُتْعبي نفسك بمعاملة حشرة، لذا… أحضرت لكِ واحدة حقيقية.”
ثم أمال رأسه قليلًا بابتسامةٍ خفيفةٍ وأضاف: “صحيحٌ أنها حشرة، لكن… هل رأيتِ جمالها؟ وهل رأيتِ ماذا فعلت بكِ؟”
كانت ابتسامته رقيقة ولطيفة، كأن شيئًا مما حدث لم يكن خطأه أصلًا، وكأن سكب الفراشة السحرية على تلك المتعجرفة لم يكن سوى نزهة قصيرة في الحديقة. ذلك الهدوء الغريب في ملامحه زاد من غضب كاريسا التي عضّت شفتها وتمتمت بحدة: “تسك… اللعنة!” ثم استدارت بخطواتٍ غاضبة وغادرت المكان وهي ترفع رأسها بتصنّعٍ وكبرياءٍ مجروح.
جلستُ في مكاني، أنظر إلى ما يجري بلا اهتمامٍ يُذكر، وكأن الأمر لا يعنيني. ظننت أنه بما أنها رحلت، فسيغادر هو الآخر… لكن على عكس ما توقعت، اقترب لوسيان مني بخطواتٍ هادئة وثابتة.
“آنسة أوريانا، هل أنتِ بخير؟” سألني بصوته الهادئ، بينما كان ظلّه يُغطي طرف الطاولة أمامي.
رفعت نظري إليه، ولا تزال نظرة البرود تكسو وجهي. حسنًا… اعتقدتُ أنه لم يتعرف عليّ، لكن يبدو أن تخميني كان خطأ. هذا الشخص سيتعرف عليّ بسرعة، فهو رئيس برج السحرة في النهاية.
قلت ببرودٍ خافت: “عذرًا أيها السيد الشاب، هل لك أمرٌ معي حتى تحدثني؟”
بدت ملامحه مترددة للحظة قبل أن يقول بنبرةٍ ودودة: “آه، آنسة أوريانا، يبدو أنكِ لا تتذكرينني. أنا…”
قاطعته فورًا، بصوتٍ جافٍ خالٍ من الاهتمام: “أيها السيد، لا أهتم بمعرفتك أو تذكّرك. لذا، رجاءً، هل يمكنك الابتعاد عني الآن؟”
كنت أشيح بنظري عنه، ألتقط قطعة صغيرة من الطعام وأتناولها ببرودٍ تام، دون أن أُكلف نفسي حتى عناء النظر في وجهه.
الأمر مزعج… حقًا مزعج. لا أرغب في التورط مع أي شخص من الأبطال. شخصٌ التقيتُ به مرةً واحدة فقط، فلماذا يثير كل هذه الضجة عن التذكّر والمعرفة؟ كم هذا سخيف…
قال بصوتٍ هادئ وهو ينظر إليّ بصدقٍ واضح: “أنا حقًا أعتذر… لم أقصد مضايقة الآنسة.”
رفعت عيني إليه ببطء، لأجده يبدو فعلًا متأسفًا. كانت ملامحه جادة، وعيناه الخضراوان تشعّان بنبرة صدق لا يمكن إنكارها.
حسناً… يبدو كما قيل في الرواية تمامًا. كان لوسيان شخصًا هادئًا ومنعزلًا في صغره، وتعرّض لشتى أنواع المعاملة السيئة من الناس من حوله، باستثناء عائلته. السبب؟ لأنه كان يمتلك قوةً كبيرة من سحر الظلام، وكان يفقد السيطرة عليها بسهولة. وقيل أيضًا إن الأميرة كانت حبه الأول… وهي من ساعدته على تخطي تلك المحنة عندما كان صغيرًا.
تنفست بهدوء وأنا أشيح بنظري عنه. لماذا أتذكر كل هذا الآن؟ على أي حال، أنا لا أنوي الاختلاط مع أيٍّ من الأبطال في الأساس.
قلت ببرودٍ تام، وأنا أتناول قطعة من الطعام دون أن أرفع بصري: “عذرًا أيها السيد… إن كنت قد اعتذرت، فلماذا لا تغادر من هنا؟”
كنت أقولها بنغمةٍ هادئة، خالية من الانفعال، كما لو أني لا أعبأ بكونه أحد أقوى السحرة في المملكة. لم أكن أكترث لسمعتي أو لأي مظهرٍ خارجي… كنت فقط أريد إنهاء هذا الحديث.
ظلّ صامتًا لبرهة، ثم أخرج شيئًا من جيبه ومدّه نحوي. كان رقمًا صغيرًا محفورًا بعناية: 218.
نظرت إليه بارتباكٍ خفيف وسألت: “ما هذا؟”
أجاب بهدوء: “إنها غرفتكِ يا آنسة. لقد تواصل الدوق معنا هذا الصباح، وقال إنه ربما لا تريدين أن يعرفكِ أحد، لذا طلب ألّا يُكتب اسمكِ على أي غرفة، وأن نخبركِ برقم الغرفة التي ستذهبين إليها دون أن نُفصح عن هويتكِ لأي شخص.”
حدّقت في الرقم قليلًا وأنا أمسكه بين أصابعي، ثم رفعت نظري نحوه… ولمحت في عينيه نظرةً هادئة يصعب فهمها — مزيج من الاهتمام والاحترام… أو ربما شيء آخر لم أُرِد التفكير فيه.
كان تفكيري كله منغمسًا في تلك اللحظة في والدي. ذلك الرجل الذي لم أُخبره بشيء… لا عن سبب إخفائي لهويتي، ولا عن رغبتي في الابتعاد عن الأعين، ومع ذلك، فهمني دون أن أنطق حرفًا واحدًا. مجرد تذكّري له جعل شيئًا دافئًا يتحرك داخلي.
ابتسمتُ ابتسامة خفيفة، بالكاد لامست شفتي، الدوق حقًا شخص لا يُشبه أحدًا… هو وصديقي جاي، الرجلان الوحيدان اللذان أستطيع القول إنهما “رجلان بحق”. أما الباقون… مجرد ذكورٍ يتفاخرون بما لا يملكونه.
رفعت حقيبتي ببطء، وقلت بنبرةٍ هادئة لكنها حازمة: “حسنًا، شكرًا لك، لذا أستأذنك الآن أيها السيد.”
وضعت آخر كتاب في الحقيبة، سُمِع صوت خفيف لاحتكاك الورق بالقماش، ثم وقفت، سُكوني كان كافياً ليجعل الهواء من حولي أثقل قليلًا. تحركت بخطواتٍ رتيبة نحو المخرج، لكن صوته جاء من خلفي، هادئًا أول الأمر، ثم ارتفع بنبرةٍ مترددة وكأنه يخشى أن يزعج الصمت:
“آنسة… هل يمكنني أن أسألك سؤالًا؟”
التفتُّ نحوه ببطء، نظراتي كانت باردة، جامدة كصفحة مرآة لا تعكس سوى الغربة. “ماذا الآن؟”
كان يقف بخطواتٍ مترددة، أنامله تنقبض وتنفرج كمن يبحث عن شجاعةٍ مفقودة. في عينيه لمعة صغيرة من الحيرة، امتزجت بشيء يشبه الأسف.
قال بصوتٍ خافت: “آنسة، أنتِ بالتأكيد تتذكرينني عندما جئتِ في المرة السابقة… لكننا تقابلنا قبل تلك المرة أيضًا، ألا تتذكرين؟”
تقدّمت نحوه نصف خطوة، ورفعت حاجبي قليلًا في برودٍ مقصود، بينما قلت بنبرةٍ منخفضة لكنها حادة: “لا، لا أتذكر أني قابلتك من قبل. وحتى إن كنتُ قد قابلتك، فما الذي يدعوني للتذكّر؟”
سكت للحظة، وكأن كلماتي وقعت عليه بثقلٍ غير متوقع. كنت أرى كيف تلاشت ابتسامته الصغيرة، وكيف فتر بريق عينيه شيئًا فشيئًا.
أخفضتُ نظري إلى الأرض، ثم تابعت السير بخطواتٍ ثابتة، وتكلمت بصوتٌ ساخر خافت: أنا حقًا لا أفهم لماذا هذا السيد مهتمٌّ بشأني إلى هذه الدرجة… ولماذا يصرّ على الاقتراب مني؟
قالها بصوتٍ هادئ، خالٍ من أي ارتباك: “هذا لأنني… مُعجب بالآنسة.”
في تلك اللحظة، تجمّدت الكلمات في حلقي، بل حتى وجهي رفض أن يُظهر أيّ تعبير. اكتفيت بالنظر إليه بصمتٍ مطبق، كأن العالم بأسره توقف على جملته تلك.
مُعجب؟ بي أنا؟ كيف يمكن أن يُعجب بي أحد؟ قرأتُ عشرات الروايات عن التجسيد، عن البطلات اللواتي يدخلن أجساد الشريرات فيغيّرن مصيرهن بأفعالٍ نبيلة… فيقع الأبطال في حبّهن. لكنني… لم أفعل شيئًا من هذا القبيل. بل على العكس، شخصيتي الآن أسوأ مما كانت عليه في الرواية الأصلية. فلماذا؟ كيف؟
نظرتُ إليه ببطء، لمعة عينيه كانت صادقة لدرجةٍ أربكتني، لكني رفضت الاعتراف بذلك حتى لنفسي. رفعت حاجبيّ ببرودٍ متعمّد، وقلت بصوتٍ منخفضٍ لكنه حاد كالشفرة:
“هل يعقل يا سيدي أنك… مجنون؟”
ارتبك لوهلة، انعكست الدهشة على وجهه، قبل أن يقطّب حاجبيه بخفة. “ماذا؟”
تنفست بعمق، وأجبت ببرودٍ أكبر: “بصراحة، لا أرى تفسيرًا آخر. إما أنك مجنون… أو أنك تستمتع بمغازلة الفتيات.” ثم أكملت، ونبرتي هادئة لدرجة قادرة على سحق أي شعورٍ بالثقة في الطرف المقابل: “اعتذر، لكني لا أتقبل مشاعرك. ليتك تحتفظ بها لنفسك… أو الأفضل، ادفنها في أسفل قاع الأرض.”
مرّ صمت ثقيل، امتزجت فيه أنفاسنا المتوترة مع سكون المكان. نظر إليّ، وكأن كلماتي اخترقت شيئًا بداخله، لكني لم أسمح لنفسي برؤية أكثر من ذلك.
أخفضت نظري، التقطت حقيبتي بخفّة، ثم قلت بهدوءٍ خالٍ من أي ندم: “اعذرني الآن.”
ودون أن ألتفت، خرجت من المكان بخطواتٍ ثابتة. كان الهواء في الممرّ أبرد من المعتاد، لكني لم أشعر به. كل ما أردتُه هو أن أبتعد عنه، عن تلك النظرة، عن كل شيء قد يوقظ شيئًا لا أريده أن يتحرك بداخلي.
سرتُ نحو المبنى السكني المخصص للطلاب، والهدوء يلفّ المكان إلا من صوت خطواتي التي تتردد بخفّة على الأرض الرخامية اللامعة. كانت الممرات طويلة تتخللها نوافذ عالية يدخل منها ضوء الغروب الذهبي، فيصنع خطوطًا دافئة على الجدران الحجرية العتيقة.
كنت أمشي ببطء، أبحث بعيني بين الأرقام المنقوشة على الأبواب الخشبية حتى توقفت أمام غرفة تحمل الرقم (٢١٨). تنفستُ بعمق، وضعت يدي على المقبض وفتحته بهدوء.
في الداخل، استقبلتني رائحة خفيفة من عطرٍ زهريّ، وكانت الغرفة مرتبة على نحوٍ بسيط وجميل. لكن أكثر ما جذب انتباهي كانت الفتاة الممددة على أحد السريرين، شعرها الأسود ينسدل على الوسادة كستارٍ ليليّ، وعيناها الحمراوان كانتا تلمعان بخفوتٍ وهي ترفع رأسها عن الوسادة وتنظر إليّ.
قالت بصوتٍ ناعسٍ لكنه مرح: “أوه… أنتِ إذًا شريكة غرفتي؟”
توقفت لثوانٍ أحدق فيها دون أن أجيب، لم أتوقع أن يكون معي أحد في الغرفة، ظننت أن الغرفة ستكون لي وحدي كما قال لوسيان. تمتمت بهدوء وأنا أنظر حولي: “كنت أظن أنها ستكون غرفتي وحدي…”
ضحكت بخفة، ثم أضافت بحماسٍ غريب: “أنتِ إذًا الفتاة التي جعلت كاريسا تستشيط غضبًا اليوم!” مالت للأمام، وعيناها تلمعان بإعجابٍ حقيقي. “أهنئك، لقد حطّمتِ غرورها تمامًا… أنا حقًا من معجباتك.”
نظرتُ إليها بدهشةٍ خفيفة، بينما داخلي لم يدرِ كيف يتفاعل مع كلماتها. كل ما استطعت فعله هو أن أرمقها بصمتٍ هادئ قبل أن أقول بنبرةٍ محايدة: “معجباتي؟… هذا جديد.”
ابتسمت الفتاة ابتسامة خفيفة وقالت بنبرةٍ مرحة يملؤها التحدي: “أجل، ربما لأنك من العامة لا تتوقعين أن تُعجب بك واحدة من النبلاء، لكنّي لا أكترث لمثل هذه الأمور. إذاً، ما رأيك أن نتعرّف؟”
تجمّدتُ للحظة. اسمها… تيرفال؟ شعرتُ بخيطٍ من التوتّر يمرّ في صدري. في الرواية، كان اسم تيرفال واحدًا من الأسماء التي لا يمكن نسيانها أبدًا.
أخذتُ نفسًا هادئًا بينما ذهني يعيد ترتيب المعلومات القديمة: دوقية سيريوس في الشمال… دوقية تيرفال في الشرق… دوقية دي فالنتين في الغرب… ودوقية إيفرين في الجنوب… أربع دوقياتٍ عظيمة تحكم أركان الإمبراطورية من الجهات الأربع، وكلٌّ منها تحمل سلالة ذات نفوذٍ وسحرٍ فريد.
وهذه الفتاة أمامي، بشعرها الأسود وعينيها الحمراوين اللامعتين، تنتمي إلى واحدةٍ من تلك الدوقيات… إذًا، فتاة الشرق تقف أمامي الآن.
“آنِسة؟” صوتها اللطيف قطع شرودي، فرفعت رأسي نحوها. كانت تنظر إليّ باستغرابٍ خفيف وعيناها تميلان قليلاً إلى الفضول. “أنا أسألك ما اسمك؟”
أجبت بعد لحظة صمتٍ قصيرة، وأنا أحاول استعادة برودي المعتاد: “آه، آسفة… شردت قليلاً.” ثم أضفت بنبرةٍ هادئة خالية من أي حماس: “لكنّي لا أرى أن هناك حاجة لنتعارف. في النهاية، سنجري اختبار القوّة السحرية غدًا، وبعدها لن نرى بعضنا مجددًا.”
رفعت أليسا حاجبيها بدهشةٍ صغيرة، ثم مالت للخلف على سريرها وهي تبتسم ابتسامةً خبيثة بعض الشيء. “تتحدثين وكأنّ أحدنا سيرسب في الاختبار ولن ينضم إلى الأكاديمية.” لم يكن هذا مقصدي… ما قصدته هو أننا لن نبيت معًا مرةً أخرى. حتى لو انضممنا للأكاديمية، فلن تكون هناك أي ضرورة للكلام بيننا.” قلت ذلك بنبرةٍ هادئة، متعبة، وكأنني أضع حدًا لأي محاولة للاقتراب أكثر. ثم أضفت وأنا أشيح بوجهي عنها: “أستاذنك الآن… أريد النوم.”
اتجهت نحو فراشي، وضعت الحقيبة بجانبي، واستلقيت ببطء على الوسادة الباردة. شعرت بعضلاتي تتراخى بالكامل، كأن جسدي قد أعلن استسلامه بعد يومٍ طويلٍ من الإرهاق والاختبارات والتوتر. لم أدرِ حتى متى أغمضت عيني… كلّ ما أتذكره أنّ النعاس غلبني سريعًا، كمن انطفأ فجأة وسط العاصفة.
مع أول خيوط الصباح، كنتُ قد غادرت السكن واتجهت إلى الممر الواسع المؤدي إلى ساحة الأكاديمية، حيث كان الجميع ينتظر إعلان نتائج الاختبارات النظرية التي أُجريت بالأمس، تمهيدًا لاختبار كشف القوة السحرية.
كان الهواء مشحونًا بالترقّب، والهمسات تتطاير في الأرجاء كشراراتٍ صغيرة. خطوات متسارعة، أنفاس متوترة، عيون تحدّق في الجدار الذي ستُعلّق عليه النتائج.
وفجأة، دوّى صوت أحد الطلاب من بعيد وهو يصيح بحماسة: “النتائج! لقد علّقوها هناك! هيا بنا!”
تحرك الجمع كتيارٍ واحد، وانسقت معهم بهدوء، أتابع بخطواتٍ ثابتة وملامح باردة، رغم أن قلبي كان يخفق بخفةٍ غير معتادة. لم أكن متوترة… أو على الأقل هذا ما أقنع به نفسي.
وقفت أمام اللوحة الكبيرة التي امتلأت بالأسماء، والهمهمات تزداد حولي. مررتُ بنظري على الصفوف بسرعة، حتى توقفت عيناي عند السطر الأول.
الاسم الأول: أوريانا إدوارد سيريوس.
ظللت أحدق بالاسم للحظات، أقرأه مرارًا وكأنني لا أصدق ما أراه. المرتبة الأولى…؟ أنا؟ شعور غريب اجتاحني — لم يكن فرحًا خالصًا، بل مزيجًا من الدهشة، الرضا، وشيء يشبه الخوف الهادئ الذي لا أعرف سببه بعد.
مهلًا… الاسم الأول هو أوريانا؟ لكن أين هي؟ لم أرَها حتى البارحة!” سمعتُ الصوت الأنثوي المألوف يتسلل من الخلف — كان صوت كاريسا، بنبرتها المليئة بالدهشة والامتعاض في آنٍ واحد.
التفتت إليها فتاة أخرى وهمست بصوتٍ خافتٍ لا يخلو من السخرية: “أيُعقل أنهم منحوا تلك المرتبة لها فقط بسبب نفوذ دوقية سيريوس؟” ثم تابعت بصوتٍ أعلى قليلًا، وكأنها تريد أن تسمعني: “لا أصدق أن الدوق سيريوس قد يستخدم سلطته بهذه الطريقة… كما توقعت، إنها فتاة شريرة حتى النخاع!”
فتاة شريرة… كم كرهوها في الرواية السابقة، وكم رددوا هذه الكلمات. ابتسمتُ بسخريةٍ هادئة ووضعت يدي خلف ظهري، ثم فكّرت بلا اكتراث: أنا حقًا لا أهتم بما يقولون، إرضاء الناس غاية لا تُدرك، فلمَ أرهق نفسي بمحاولة تحقيقها؟
في تلك اللحظة، دوّى صوت المراقب في الساحة بنغمةٍ رسمية واضحة: “المعذرة، فليستمع الجميع! سنبدأ الآن اختبار القوة السحرية. أول شخص في القائمة: الآنسة أوريانا إدوارد سيريوس، فلتتقدّم رجاءً!”
ساد الصمت، وكأن الهواء نفسه توقّف عن الحركة. شعرتُ بعدة أنظارٍ تتجه نحوي في الوقت ذاته، بعضها يحمل الفضول، وبعضها الشك، والبعض الآخر لم يخفِ الكره. يبدو أن لحظة كشف الهوية قد حانت… عاجلاً أم آجلاً كان هذا سيحدث.
أخذتُ نفسًا عميقًا، ثم خطوت إلى الأمام بخطواتٍ ثابتة، والهدوء البارد الذي يميزني عاد يتسلل إلى ملامحي. همسات خفيفة بدأت تتعالى خلفي، لكني لم أُعِرها أي اهتمام. رغم أن الجميع كان يحدّق بي، لم أزل أرتدي القناع.
وصلت إلى مدخل الغرفة المخصصة للفحص، فتحت الباب بهدوء ودخلت، بينما أغلقت ورائي ضجيج القاعة كمن يغلق فصلًا من فوضى العالم. الجو في الداخل كان مختلفًا — أهدأ، وأبرد، تملؤه رائحة سحرٍ غريبة تتطاير في الهواء كذرات ضوءٍ خفية.
وقفت في منتصف الغرفة، نظري يتجوّل ببطء نحو الجهاز البلّوري الكبير في المنتصف، والدوائر السحرية المضيئة تحيط به كأنها أنفاس كائنٍ نائم ينتظر أن يُستيقظ.
وضعتُ يدي على سطح الدائرة السحرية بترددٍ خفيف، متوقعةً أن تتوهّج بالضوء فورًا كما يحدث عادة. انتظرتُ… ثوانٍ مرّت ثقيلة، دون أيّ تفاعل.
تجمدت نظرات المشرف على الجهاز، ثم انحنى قليلًا يتفحّص الرمز السحري أمامه. قال بصوتٍ متوتر: “ما هذا؟… الدائرة تُظهر أن هناك خطأ ما…”
أحسستُ ببرودةٍ تسري في أطرافي، لكني تماسكت. قال الرجل مرة أخرى وهو يحاول الابتسام: “آنِسة، من فضلك ضعي يدك مجددًا.”
أنزلتُ يدي بهدوء، ثم وضعتها من جديد على البلّورة الباردة. لحظة صمتٍ أخرى… ثم تلاها صوته المتردد، وكأن كلماته كانت تثقل على لسانه: “هذا… غريب. أنا آسف يا آنسة، لكن… يبدو أنه ليس لديكِ قوة سحرية.”
في تلك اللحظة، شعرتُ بانقباضٍ حادٍ في صدري، كأن قلبي انكمش فجأة. كل الضوضاء من حولي اختفت. لم أسمع سوى صوت أنفاسي المتقطعة، الهادئة عن عمد حتى لا تفضح ارتجاف قلبي.
ليس لدي قوة سحرية…؟ كان هذا مستحيلًا.
لكنني رغم ذلك رفعت رأسي بثباتٍ مصطنع، وقلت بنبرة هادئة متماسكة: “حسنًا، شكرًا لك يا سيدي. أعذرني الآن.”
أدرتُ ظهري وغادرت الغرفة بخطواتٍ ثابتة، بينما أحسّ بنظراتهم تطعنني من كل اتجاه — نظرات الشفقة، الفضول، والشماتة. كلها كانت كافية لتسحق أي فتاة أخرى… لكني واصلت السير وكأن شيئًا لم يحدث.
خرجت من مبنى الأكاديمية، وصعدت إلى العربة. بمجرد أن أغلقت الباب خلفي، انفرط التماسك الذي كنت أتشبث به. قلت للسائق بصوتٍ منخفضٍ أجشّ: “انطلق.”
تحركت العربة ببطء، والعجلات تصدر صريرًا خافتًا فوق الطريق المرصوف. مددتُ يدي إلى القناع، ونزعته ببطءٍ عن وجهي، وكأنني أزيح معه كل الوجوه التي اضطررتُ لتمثيلها.
نظرتُ من النافذة، والريح تعصف بشعري الطويل، تتراقص خصلاته أمام وجهي. كنت أشعر بضيقٍ خانق، كأن الهواء نفسه يرفض أن يدخل صدري.
لماذا… لا يسير أي شيء كما أريد؟ لماذا… أشعر برغبةٍ في البكاء؟
لكن رغم كل هذا، لم أستطع البكاء. عيني ظلّتا جافتين، هادئتين على نحوٍ قاسٍ. ربما لأن الألم أصبح مألوفًا لدرجةٍ تمنع الدموع من النزول.
همستُ لنفسي بصوتٍ واهٍ، وأنا أتابع الأفق الذي يبتعد أمامي: “عليّ الآن أن أجد طريقة أخرى… للعثور على زهرة ميرفيا.”
وصلتُ إلى الدوقيّة، وها هي العربة تتوقّف أمام البوّابة الكبرى المزدانة بشعار العائلة المنقوش على الحديد الأسود. انفتح الباب ببطءٍ، كأن الهواء نفسه يتهيّب الدخول. نزلتُ بخطواتٍ هادئة، لكن قلبي لم يكن كذلك. لم أكن أتوقّع أن أراه… واقفًا هناك.
كان الدوق واقفًا عند مدخل الدوقية، ينتظرني. ثبّت نظره عليّ، وارتسمت على وجهه ملامح هدوءٍ لا يُشبه البرود، بل دفءً مكبوتًا.
قال بصوته الرزين: “أوريانا، كيف كان أول يومٍ لكِ؟”
توقّفتُ في مكاني، وشعرتُ بشيءٍ غريبٍ يجتاحني… هل كان ينتظرني حقًا؟ هكذا… بنفسه؟ هذا لم يحدث قطّ من قبل.
في حياتي السابقة، لم يفعل ذلك الرجل الذي يُفترض أنه والدي. ذلك الذي لم يعرف عن الأبوة سوى الاسم. أما هذا الرجل… الدوق… فهو مختلف. غريب كيف يمكنه أن يُثير مشاعري المتناقضة إلى هذا الحد.
انكمش شيءٌ في صدري، كأن ذكرياتي القديمة تحاول أن تشق طريقها عبر جدارٍ كنت أظنه صلبًا. لماذا… أشعر برغبةٍ في البكاء؟
أخفضتُ بصري للحظةٍ أقاتل فيها تلك الرجفة الخفيفة التي صعدت إلى حلقي. لا، لن أسمح لها بالخروج. الدموع ليست شيئًا يليق بي بعد الآن. تماسكتُ، ورفعتُ رأسي بابتسامةٍ خفيفةٍ كانت الأولى التي شعرتُ فيها بدفءٍ حقيقي، لا تصنّع فيه. قلتُ بهدوءٍ وصدقٍ غريبين حتى على نفسي: “أجل، أنا بخير يا أبي.”
للحظة، لمعت عيناه بشيءٍ لم أستطع تفسيره — ربما ارتياح، أو حنان خافت، أو فخرٌ مكتوم.
مرّ ذلك اليوم بسلامٍ غير متوقّع، وحدثني والدي لاحقًا أن النتيجة النهائية لاختبار الأكاديمية ستصدر بعد ثلاثة أيام. لم أشأ إخباره أنني فشلت في أحد الاختبارات الفرعية. كنت أعلم أنه سيبتسم رغم ذلك، لكني… لم أرد أن أرى خيبة الأمل في عينيه.
مرّت الأيام الثلاثة التالية كأنها تتسلل من بين أصابعي ببطءٍ مملّ. كل يومٍ كان يشبه الآخر — الصباح الهادئ، صوت الخدم في الممرات، رائحة القهوة التي تملأ القصر، وأنا في غرفتي أقرأ بلا تركيز، أراقب الوقت وهو لا يفعل شيئًا سوى المضيّ.
لم أكن أتطلّع إلى النتيجة. كنت أشعر أنني أعيش في سكونٍ هشّ، يخشى أي حركةٍ قد تكسره.
وفي اليوم الثالث، حين حلّ موعد النتيجة، كنت مستلقيةً على السرير، أقرأ كتابًا دون أن أعي ما أقرأ. كانت الغرفة تغمرها إضاءة الغروب الذهبية، تنعكس على الستائر المخملية بلونٍ دافئٍ كأنه يودّع اليوم.
طَرق… طَرق… طَرق… تردّد صوت الطرق على الباب، تبعه صوت والدي الجادّ الهادئ: “أوريانا، هل يمكنني الدخول؟”
رفعت رأسي عن الكتاب، وقلتُ: “أجل، تفضّل يا أبي.”
دخل بخطواتٍ واثقةٍ كما هي عادته، لكن هذه المرّة بدا عليه السرور. ابتسامته الهادئة كسرت شيئًا في صمتي الداخلي. كان يحمل ظرفًا أبيضَ مختومًا بشعار الأكاديمية.
“أوريانا، لقد أرسلوا نتيجة اختبارك.” قالها بنبرةٍ مشوبةٍ بالحماس الهادئ.
أجبتُ بصوتٍ خافت: “آه… أجل؟”
تقدّم نحوي ومدّ يده بالظرف. “خُذيه.”
نظرتُ إليه للحظة، دون حماس، دون فضول، بل بشيءٍ من الضيق الخفي. ذلك الشعور المزعج الذي يُهمس في داخلي: سيُصاب بخيبة أملٍ بي… تمامًا كما حدث من قبل.
مددتُ يدي ببطءٍ، وقلبي يضرب بإيقاعٍ باردٍ في صدري، كأنني أعرف مسبقًا ما ينتظرني خلف ذلك الختم الأحمر.
“انتظري، أوريانا!” تجمّدت يدي فوق الظرف حين سمعت صوت والدي، فرفعت نظري نحوه. كانت عيناه تلمعان بفرحٍ حقيقي، نادرٌ عليّ أن أراه.
قال بابتسامةٍ صافية: “لا تفتحيه بعد، لقد أمرتُ الخدم بتجهيز العشاء وغرفة الطعام للاحتفال بكِ. هل يمكنك الانتظار قليلًا؟”
لمعت عينيه بذلك البريق الأبوي الذي يجعل القلب يتردد بين الفخر والاختناق. كادت الكلمات تخرج مني — “ليس هناك داعٍ لكل هذا، يا أبي.” لكن شيئًا ما في نبرته… في حماسته الصادقة… جعلني أبتلعها بهدوء.
خرجت الكلمات بتلقائيةٍ لم أُردها، كأن لساني خشي أن يجرح لحظته النادرة. أومأ برضا، وقال وهو يستدير نحو الباب: “إذًا انتظري هنا، سأذهب للإشراف على كل شيء بنفسي، وسأرسل لك خادمًا ليأخذك حين يصبح كل شيء جاهزًا.”
“حسنًا، يا أبي.” غادر الغرفة، تاركًا خلفه أثر دفءٍ خفيفٍ سرعان ما تلاشى مع صوت انغلاق الباب.
بقيتُ وحدي. سكونٌ ثقيلٌ خيّم على المكان، لا يُسمع فيه سوى أنفاسي الهادئة ونبضاتٍ بطيئةٍ تضرب صدري. نظرتُ إلى الظرف في يدي، بيدي المرتعشة قليلًا. رغبتُ في فتحه… وفي تمزيقه في الوقت نفسه.
شعورٌ بالضيق بدأ يزحف داخلي، كأن شيئًا يخنق صدري ببطء. “لماذا كل هذا…؟” لم أعد أحتمل هذا الانتظار ولا هذه المشاعر المتضاربة.
وفجأة، قبل أن أكمل أفكاري، لمع ضوءٌ أزرقٌ خافت في طرف الغرفة. تجمدت في مكاني، أحدّق نحو مصدره.
في لحظاتٍ قليلة، ازداد الضوء قوّةً حتى غمر المكان كله. لمعت جدران الغرفة وانعكست الألوان على وجهي ويديّ. رفعت ذراعيّ لأغطي عينيّ من شدّة البريق، لكن الضوء كان يخترق كل شيء.
“ماذا… يحدث؟!” خرج صوتي هامسًا، متقطّعًا بين الدهشة والخوف.
وفجأةً… ارتجّ الهواء حولي، وظهرت أمامي نافذةٌ شفافةٌ بلون السماء، تومض بأحرفٍ غامضةٍ مضيئة. كانت الكلمات تتشكل ببطءٍ أمام عينيّ:
«تم تحميل قوة أمستارا»
تسارعت أنفاسي. “ماذا؟!”
لكن قبل أن أستوعب ما أراه، انفجر الضوء من جديد، أقوى من المرة الأولى، كأن السماء نفسها انسكبت داخل الغرفة. غطّيت وجهي بذراعيّ، لكن حرارة غريبة تسللت من أطراف أصابعي إلى جسدي كله.
ثم… سُمِع صوت.
صوتٌ أنثويّ، قويّ لكنه يحمل في نبراته شيئًا من التعب… ومن الحنين. “آه… أخيرًا. لقد خرجت. كنت أظن أنني سأبقى حبيسةً للأبد.”
اتسعت عيناي، قلبي خفق بعنفٍ وأنا أحدّق حولي. ذلك الصوت… أعرفه. سمعتُه من قبل، لكن… أين؟
التفتُّ ببطءٍ نحو مصدره. وهناك، وسط وهجٍ أزرقٍ ما زال يتلاشى تدريجيًا، ظهرت فتاةٌ ذات شعرٍ سماويٍّ يتلألأ كالماء تحت ضوء القمر. كانت واقفةً وسط الغرفة، تحيط بها بقايا الضوء كأجنحةٍ من طيفٍ ناعم.
قولت بصوتٍ خافتٍ، والكلمات تسللت من بين شفتيّ بذهولٍ خالص: “أنتِ…”
_______________________________________ احم احم (〃 ̄ω ̄〃)ゞ طبعًا رجعنا بعد غياب ✨ اشتقتلكم كتييير (っ˘̩╭╮˘̩)っ بتمنّى أنتظم إن شاء الله، ادعولي يا جماعة ( ˶ˊᵕˋ˵ )♡ وطبعًا بتمنّى الفصل يكون عجبكم (≧◡≦) معلش ارضوا بمستواي الضعيف شوي 😭 بس بتمنّى فعلًا يكون نال إعجابكم ( •̀ ω •́ )✧
التعليقات لهذا الفصل " 40"
حلو اوي