شعرت بأشعة الشمس الدافئة تلامس وجهي، فتحت عيني ببطء. كان الضوء يتسرب من النافذة وينتشر في الغرفة بهدوء، فنهضت ببطء وجلست على السرير، وضعت يدي على رأسي محاولة استيعاب ما يحدث.
“ما الذي يجري… وأين أنا؟” همست لنفسي بصوت متردد، بينما ذاكرتي بدأت تستعيد أحداث الليلة الماضية.
تذكرت دموعي، انهياري، وصوتي الذي اختنق وسط البكاء. تذكرت الدوق وهو يضمني بكل قوته، ثم ذلك المشهد العابر… عندما فتحت عيني للحظة ورأيته يحملني برفق كما لو أني كنز هش يخاف أن ينكسر بين يديه. لكن الإرهاق غلبني، وعدت إلى النوم كطفلة صغيرة.
شعرت بوجنتي تحمران بشدة، وضعت يدي عليهما بخجل. “لا أصدق… بكيت! أنا لا أبكي أمام أحد، بل حتى وحدي بالكاد أفعل… فما الذي جرى لي؟” ازداد احمراري أكثر حين تذكرت أنه لم يكتفِ برؤية دموعي، بل حملني بنفسه حتى سريري. الحرج كان يلتهمني من الداخل.
وضعت يدي على رأسي، وتنهدت بمرارة: “آآآه… أنا غبية حقًا.”
وفجأة… ظهرت تلك الشاشة الزرقاء المزعجة أمامي من جديد. نفس الجملة التي ظهرت من قبل، ذلك الطلب الغامض: “يرجى تحميل ملفات المعلومات لقوة أمستارا.”
صرخت بضيق وأنا ألوح بيدي في الهواء كمن يطرد ذبابة مزعجة: “أخخخخخ، فلتتركي حياتي وشأني! لم تقدمي لي أي شيء سوى الإزعاج، فارحلي!”
لكنني توقفت فجأة. فكرت في الأمر قليلًا… الشاشة بدأت بالظهور منذ أن فقدت قدرتي على المشي. هل يمكن أن تكون هي السبب في كل هذا؟
حدقت فيها طويلًا، وكأنني أنتظر أن تمنحني جوابًا، لكنها ظلت صامتة، تتوهج بنفس الإصرار المزعج. زفرت بضيق: “سحقًا لكِ… إن لم تكوني ستجيبينني، فلماذا تظهرين إذًا؟”
نظرت إلى الزر الذي يشع أمامي. لم يكن هناك أي خيار آخر. “أرى أنه لا فائدة من الهروب… إن ظللت مكاني لن أكتشف شيئًا.”
لم أكن أعلم ما الذي سينتظرني… لكن كل ما أعرفه أنني سئمت من الجلوس هكذا، سئمت من العجز، والآن… حان الوقت لمواجهة ما تخبئه لي هذه القوة.
أغمضت عيني بقوة، لم أكن أعلم ما الذي سيحدث بعد هذا، لكن لم أجد خيارًا آخر. مرت ثوانٍ ثقيلة، ثم ترددت قليلًا وفتحت إحدى عيني ببطء.
كانت الشاشة أمامي، تعرض ذلك المستطيل المألوف… علامة التحميل التي لا تراها إلا في الألعاب. وضعت يدي على رأسي وهززت شعري بخفة، وكأن عبئًا ثقيلاً انزاح عن كتفي أخيرًا. لم يحدث شيء غريب كما توقعت، لكن… هذا أفضل.
خفضت بصري إلى الأرضية بجانبي. تسلل إلى ذهني خاطر عابر: “هل يمكنني… المشي لو وضعت قدمي عليها؟”
ترددت قليلًا، ثم أنزلت قدمي اليمنى من السرير، شعرت ببرودة الأرض تلامسها. أتبعتها باليسرى، وبقيت جالسة لحظات أراقب نفسي وكأنني لا أصدق. ثم دفعت جسدي ببطء لأقف، مترددة، يدي ترتعشان قليلًا.
وفجأة… شعرت بقدمي تحملان وزني. خطوت خطوة… ثم أخرى… ثم وجدت نفسي أتحرك بالفعل.
اتسعت عيناي بذهول، وخرجت الكلمات من فمي متقطعة: “مستحيل… ه-هذا حقيقي؟”
هل كان عجز قدمي طوال الوقت بسبب تلك النافذة اللعينة؟ غلي الدم في عروقي، ونظرت نحو الشاشة بغضب.
لكنها لم تختفِ… لا تزال هناك، تواصل تحميلها ببطء شديد وكأنها تتعمد استفزازي. زفرت بحدة، وصوتي يخرج مليئًا بالانفعال: “ألم تحصلي على ما تريدين؟ أعطيتكي ما طلبت… فلماذا لا تختفين؟!”
حينها اختفت تلك النافذة فجأة بعد كلماتي. تجمدت في مكاني، أحدّق في الفراغ الذي تركته خلفها، وكأنني ما زلت أبحث عنها. شعرت بانزعاج عارم، فتمتمت بحدة: “إذا كنتِ تسمعينني حقًا… فكان عليكِ أن تجيبي على أسئلتي منذ البداية.”
لكنها رحلت ببساطة، وكأنها تسخر من غضبي. زفرت بعمق، محاوِلة تهدئة أعصابي المتوترة.
نظرت إلى قدميّ… ما زالتا ثابتتين على الأرض، تتحركان بإرادتي. كان المشي الآن أمرًا طبيعيًا، وكأن العجز الذي لازمني طوال الفترة الماضية لم يكن إلا كابوسًا. رفعت بصري إلى السقف، وأنا أشعر بثقل فكرة جديدة تسيطر على عقلي: ماذا سأقول لهم؟ إن خرجت وأخبرت الجميع أنني استطعت المشي فجأة، سيظنون أنني كنت أمثل. ولا اريد ازعاج نفسي بنظرات الاتهام أو الشك.
بينما كنت غارقة في أفكاري، دوى صوت طرق خفيف على الباب. طرق… طرق… تسارعت أنفاسي، واتسعت عيناي في ذعر.
ثم جاءني صوت مألوف، عميق ودافئ: “أوريانا… سأدخل.” كان صوت الدوق.
قفز قلبي بقوة، وأسرعت لأعود إلى السرير وكأنني لم أتحرك قط. جلست للحظة مرتبكة، ثم تمددت على الفراش بتوتر. غطيت ساقي بالأغطية بعناية، وضعت يدي على صدري في محاولة لإخفاء ارتجافها، وأغمضت عيني قليلًا حتى أبدو كأنني مسترخية.
فتح الباب بهدوء، ودخل الدوق بخطوات ثابتة. ابتسامته المعتادة كانت تزين وجهه، ابتسامة دافئة، لكنها تخفي خلفها شيئًا مكسورًا. ومع ذلك… شعرت أنها هذه المرة أقل حدة، وكأن حزنه خفّ قليلًا بعد ما جرى بيننا ليلة الأمس.
اقترب بخطوات هادئة، وجلس على الكرسي بجانب سريري. عيناه لم تفارقا وجهي، كان ينظر إليّ كما لو أنه يخشى أن أختفي لو غفل للحظة. ابتسم بخفة وقال بصوت رقيق: “صباح الخير يا صغيرتي… هل نمتِ جيدًا؟”
أخفضت بصري بسرعة نحو الأغطية، متجنبة نظراته. كان قلبي يخفق بعنف، ليس فقط بسبب المفاجأة، بل أيضًا لأنني ما زلت أتذكر لحظة انهياري بين ذراعيه، ودموعي التي لم أستطع منعها، وتلك اللحظة التي حملني فيها كما لو كنت شيئًا هشًا يخاف أن ينكسر.
أطلقت تنهيدة صغيرة، محاوِلة أن أستجمع شتات نفسي بعد كل ما جرى. كان قلبي ما يزال مثقلًا، لكنني حاولت أن أبدو هادئة.
قطع الدوق الصمت بصوته العميق الهادئ: “أوريانا… لقد طلبت من الخدم تجهيز الإفطار. ما رأيك أن نتناوله معًا؟”
رفعت نظري إليه قليلًا، ثم أجبته بصوت خافت: “كما تريد، سمو الدوق.”
ابتسم ابتسامة دافئة، ومد يده ليربت على رأسي بحنان، ثم قال بنبرة تحمل شيئًا من الرضا: “فتاة مطيعة.”
لم تمضِ دقائق حتى جاء الخدم وأعلنوا أن المائدة جاهزة. لم يمنحني فرصة لأقول شيئًا، بل انحنى وحملني برفق بين ذراعيه، كما لو أنني ما زلت ضعيفة لا أقدر على الحركة. ضغطت شفتي معًا في صمت، بينما كنت أراقب ملامحه الجادة وهو يضعني على الكرسي أمام الطاولة التي ازدانت بأطباق الطعام.
بدأنا بتناول الإفطار. كان الجو هادئًا على غير العادة، حتى كسره الدوق بقوله: “أوريانا، هناك أمر أردت التحدث معك فيه.”
رفعت رأسي ببطء، فتابع كلامه: “هل تتذكرين حين قلتِ إنك ترغبين في الانضمام إلى أكاديمية سولفار؟”
توقفت يدي عن الحركة لوهلة، وسرت قشعريرة خفيفة في جسدي. صحيح… لقد نسيت أمرها تمامًا. ربما لأنني كنت قد استسلمت في ذلك الوقت… استسلمت لإنقاذ نفسي، لإنقاذ الدوقة… استسلمت حتى لفكرة أن لي مستقبلًا.
غصت في تلك الأفكار المرة، لكن صوته أعادني: “أوريانا… هل تسمعيني؟”
ارتبكت قليلًا، ثم أجبته بسرعة: “نعم… سمو الدوق، ماذا قلت؟”
نظر إليّ طويلًا، وكأنه يحاول أن يقرأ ما يدور بداخلي، ثم قال بصوت منخفض: “أصبحتِ تشرُدين كثيرًا هذه الأيام.”
لم أجد ما أقوله، فاكتفيت بخفض بصري إلى الطبق أمامي. تابع هو بعد لحظة صمت قصيرة: “كنت أقول… إن أكاديمية سولفار ستعقد اختبار القبول بعد شهر من الآن. لذلك… كنت أفكر.” تردد قليلًا، وكأن كلماته تُثقل عليه، ثم أكمل: “أنت تعرفين حالتك، أوريانا. لا أظن أنك قادرة على خوض الاختبار في الوقت الحالي. ما رأيك… أن نسحب التقديم هذه المرة؟ يمكنك التقديم لاحقًا، حين تكونين بخير. لا أريد أن أضع عليكِ ضغطًا إضافيًا.”
ترددت قليلًا قبل أن أتكلم، ثم همست بصوت متردد: “ولكن… إن انسحبنا الآن، فلن أستطيع التقديم إلا العام القادم، صحيح؟”
رفع الدوق نظره إليّ للحظة، ثم أومأ برأسه ببطء. “أجل، هذا صحيح. لن تستطيعي الانضمام هذه السنة… لكن يمكنك المحاولة في العام المقبل. حينها ستكونين قد ارتحتِ قليلًا. لا تضغطي على نفسك الآن.”
أخفضت بصري، وأمسكت أطراف ثوبي بيدي. هو لا يعلم… لا يعرف أنني استعدت قدرتي على المشي بالفعل. كلماته كانت كالسكاكين في صدري. إن انتظرتُ للعام المقبل… سيكون الأوان قد فات. لن يكون لكل شيء معنى، لأن الدوقة ستكون قد رحلت بالفعل.
رفعت عيني ببطء، أنظر إلى الدوق الذي كان يكمل طعامه بهدوء مصطنع. ترددت لحظة، ثم سألت بصوت منخفض يكاد يختنق بين شفتي: “سمو الدوق… هل ما زلت تبحث عن علاج لأمي؟”
توقف، رفع رأسه نحوي، لكنه لم يقل شيئًا في البداية. ذلك الصمت أثقل صدري أكثر من أي جواب.
ابتسمت بخفة حزينة، وكأنني أحاول أن أُريحه: “لا بأس… أعلم أنك لم تتوقف عن البحث.” ثم أضفت بنبرة أكثر جدية: “لكن… هل وجدت شيئًا؟ أي حل أو دليل؟”
في تلك اللحظة، وضع الدوق الشوكة جانبًا. أراح كفيه على الطاولة، ثم تنهد بعمق، وصوته خرج مثقلاً بالأسى: “أعلم… أنني تأخرت كثيرًا في إيقاظ كاميلا. أعلم ذلك جيدًا، وآسف.”
تصلبت ملامحه وهو يتابع: “منذ أن دخلت كاميلا في الغيبوبة، صارت على عاتقي مسؤوليات ضخمة. في تلك اللحظة وعدت نفسي أنني سأكون مكانها… أنني سأقف كالأب والأم معًا، حتى لا تشعروا بالنقص.” أخفض رأسه قليلًا، وكأنه يخجل من نفسه: “لكن… للأسف، لم أستطع الوفاء بوعدي. والدليل هو وضعك أنتِ الآن… آسف حقًا، أوريانا.”
رفع عينيه إليّ، وفي نظرته ألم دفين. “صدقيني… أحاول بجد أن أجد حلًا. أتمنى من كل قلبي أن تستيقظ كاميلا، لتخفف عني بعض هذا العبء. لا أريد أن يتأذى أحد منكم مرة أخرى… بسببي أنا وغبائي.”
تنهدت ببطء، ثم نظرت إلى سمو الدوق بجدية يملؤها القلق: “أتمنى ألا تثقل نفسك كثيرًا… يظهر عليك التعب طوال هذه الأيام. رجاءً، لا تضغط على نفسك أكثر من اللازم، لأنه لو حدث لك شيء—وأتمنى ألا يحدث—فسنغرق جميعًا في تعاسة أكبر. صدقني، سأحزن كثيرًا إن جرى لك مكروه.”
ظل يحدّق في وجهي للحظة بصمت، قبل أن يبتسم ابتسامة هادئة وقال: “حسنًا… سأفعل.” ثم صمت قليلًا، وعاد صوته ليخرج بنبرة دافئة تحمل شيئًا من الرجاء: “لكن، أوريانا… ألا تنوين التوقف عن مناداتي بـ سمو الدوق؟”
تفاجأت من سؤاله، فأكمل وهو يبتسم بخفة، وعيناه تمتلئان بذكريات قديمة: “حين كنتِ صغيرة، ناديتي كاميلا بـ أمي بسرعة شديدة، وكأن الأمر طبيعي تمامًا. لكنكِ ظللتِ تنادينني بالدوق لوقت طويل، ولم يتغير ذلك إلا حين طلبت منك أن تناديني بـ أبي.” توقف قليلًا، ثم أضاف بنبرة تحمل شيئًا من العتاب الدافئ: “ألم يكن لديك مانع ؟ أيمكنك… ألا تناديني بالدوق بعد الآن؟ أن تناديني… أبي؟ حتى البارحة، حين قلتها، شعرت بشيء افتقدته طويلاً.”
انخفض صوته فجأة، وكأنما كلماته كانت اعترافًا يثقل قلبه: “أعلم أنني أخطأت كثيرًا، وربما تكرهينني بسبب ذلك… أنا آسف. أعدك أنني سأحاول التقليل من أخطائي قدر ما أستطيع.”
هززت رأسي بسرعة، وقلت بصدق لم أستطع كبحه: “لا، سموك مخطئ. أنا لم أكرهك في يوم من الأيام، ولم تخطئ معي أبدًا. فلا داعي للاعتذار.”
رفعت عيني إليه بابتسامة صغيرة، تحمل امتنانًا حقيقيًا: “على العكس تمامًا… سموك أفضل أب عرفته حتى الآن.” ترددت لحظة، ثم أضفت بصوت يملؤه الدفء: “وأردت أن أخبرك بشيء… شكرًا على ما فعلته لأجلي البارحة، وشكرًا على كل شيء… أبي.”
حين لفظت كلمة أبي، لاحظت كيف تغيّرت ملامحه فجأة. ارتخت كتفاه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة، لكنه خفض رأسه قليلًا وكأنه لا يريد أن أرى الدموع التي كادت تفيض من عينيه. همس بنبرة منخفضة وحنونة: “أنتِ غريبة يا أوريانا… أخبرتك من قبل، لا داعي لشُكري على أي شيء. هذا ما أفعله… كأبك.”
فجأة اجتاحني ألم حاد في قدمي، كأن نصلًا ساخنًا انغرس في العظم. شهقت بعنف، يدي قبضت على طرف الطاولة بجانبي، وبدأت أتلوى من شدة الألم، يخرج من فمي أنين متقطع: “آه… قدمي… تؤلمني!”
نهض الدوق من مكانه بارتباك شديد، عيناه اتسعتا وكأن قلبه سقط في صدره: “أوريانا! هل أنت بخير؟!”
لم أستطع حتى الرد، كان الألم يلتهمني، أنفاسي متقطعة، فصدر عني فقط صوت مبحوح: “آه… لا… قدمي…”
في لحظة لم تمنحني فرصة للتفكير، اندفع الدوق تجاهي، رفعني بين ذراعيه بقوة وكأن جسدي الهش قد ينكسر إن تُرك ثانية واحدة. خطواته كانت سريعة، كمن يركض لينقذ حياته هو لا حياتي. كان صوته يعلو في الممر وهو يصيح للخدم: “أسرعوا! أحضروا الطبيب حالًا!”
لم تمض سوى لحظات حتى كنت في غرفتي، أنزلني الدوق على السرير برفق، لكن يديه لم تتوقف عن الارتجاف وهو يبعد الخصلات المبتلة من جبيني. كان وجهه شاحبًا، والقلق قد حفر خطوطه في عينيه.
طرق الباب بعجلة، واندفع الطبيب إلى الداخل وهو يحمل حقيبته. لم يضيّع ثانية واحدة، جلس بجانبي، وبدأ بفحص قدمي بعناية، صوته هادئ لكنه مليء بالتركيز: “سمو الأميرة، أخبريني… بماذا تشعرين؟”
أخذت نفسًا مرتجفًا، وصوتي خرج متقطعًا: “أشعر… بالألم… في قدمي…”
ارتسمت على وجهه ملامح دهشة خفية: “إذن… أنتِ تشعرين بها الآن؟”
تبادل الطبيب والدوق نظرات قصيرة، كان القلق ما زال يسيطر على ملامح الدوق، بينما الطبيب بدا وكأنه يدرس الأمر بجدية. ثم التفت إليّ الطبيب مجددًا، وقال بنبرة حذرة: “سمو الأميرة، هل يمكنك محاولة تحريكها؟”
قلبي خفق بعنف، هذه اللحظة التي كنت أستعد لها. رفعت قدمي ببطء، أصابعي ارتجفت مع كل محاولة، ثم دفعت نفسي قليلًا لأثبت لهم. آه خفيفة خرجت مني، لكني تمكنت من تحريكها. “نعم… أستطيع تحريكها.”
ابتسم الطبيب بدهشة أكبر، بينما لمعت عينا الدوق بسعادة غامرة، كأنه رأى ضوءًا بعد عتمة طويلة. قال الطبيب بعد لحظة صمت: “إن كان الأمر كذلك… فلتجربي أن تقفي، سمو الأميرة. حاولي المشي بضع خطوات.”
كانت لحظة حاسمة. داخلي يغلي بين الخوف والتردد، لكنني لم أملك خيارًا. وضعت يدي على السرير، تنهّدت بعمق، وبدأت أرفع نفسي ببطء. ارتجف جسدي كله، قلبي يخفق كطبول حرب، ثم… وضعت قدمي على الأرض.
خطوة أولى… ثم ثانية. الأرضية الباردة استقبلت قدمي كأنها تختبرني، لكني—رغم الارتباك—تمكنت من المشي.
حينها شهق الدوق بفرحة صافية، لم يتردد لحظة حتى اندفع نحوي، واحتضنني بشدة إلى صدره، صوته يرتعش بين الفرح والارتياح: “أوريانا… لقد فعلتِها! لقد استطعتِ المشي من جديد!”
شعرت بحرارة عناقه تخترق جدار قلبي، ذلك الدفء الذي لم أعرفه يومًا. أما الطبيب فكان يراقب المشهد بذهول حقيقي، كأنه يشهد معجزة تحدث أمام عينيه.
لكن في أعماقي… كان هناك صراع آخر. ابتسمت بخفة لأخفي ارتباكي، بينما يدي قبضت على ثوب الدوق ببطء. هذه لم تكن معجزة… بل خطتي. أردت أن أظهر لهم أني أستطيع المشي الآن. لم أكن أعرف إن كنت قد أقنعتهم تمامًا، أو إن هذا السيناريو سينجح عليهم.
بعد أن انتهى الطبيب من إجراء بعض الفحوصات البسيطة وأعطاني بعض المسكنات، غادر الغرفة أخيرًا، تاركًا خلفه هدوءًا ثقيلًا. ظل الدوق بجانبي طوال الوقت، لم يبرح مكاني للحظة، وكأن عينيه تخشيان أن تفقداني لو ابتعد للحظة واحدة.
جلست على السرير، أتنفس ببطء، بينما هو ظل واقفًا، يرمقني بعينين غارقتين في القلق. ابتسم بخفة وقال بصوتٍ هادئ: “سأتركك لترتاحي الآن يا أوريانا.”
ترددت للحظة، ثم نطقت بسرعة قبل أن يغادر: “انتظر… أبي.”
توقف في مكانه، نظر إليّ باستغرابٍ خفيف، وكأنه يحاول قراءة ما وراء كلماتي. شعرت بخفقات قلبي تتسارع، لكني جمعت شجاعتي وقلت: “بما أنني… أستطيع المشي الآن، أليس بإمكاني الالتحاق بالأكاديمية؟”
ساد صمت قصير. حدّق بي طويلًا، وعيناه تمتلئان بقلقٍ عميق، ثم هز رأسه نافيًا بحزم: “لا… لن تذهبي.”
اقترب مني بخطوات هادئة، ثم مد يده وخبط جبيني بخفة بإصبعه، كأب يؤدب طفلته المدللة: “ألا تفهمين حقًا يا أوريانا؟” صوته كان مزيجًا من الحزم والحنان. “أنتِ الآن ما زلتِ متعبة. إن ضغطتِ على نفسك أكثر مما يجب، سيتدهور وضعك، وأنا… لا أريد أن أراكِ تتألمين من جديد. ثم هناك أمر آخر… لن تستطيعي أن تدرسي جميع المواد في وقت قصير من أجل امتحان القبول.”
عضضت شفتي بمرارة، شعرت كأن الهواء يُسحب من صدري. لم أستطع تقبّل رفضه بسهولة لا… يجب أن يوافق! إن لم أذهب الآن، فلن يكون هناك داعٍ للانتظار للسنة القادمة… ستكون هذه التمثيلية التي قمتُ بها بلا معنى!
ارتجفت يدي وأنا أمدها نحوه كمن يتوسل، وقلت بصوت مبحوح: “أرجوك… أرجوك يا أبي. صدقني، لن أضغط على نفسي، لن أفعل شيئًا يرهقني… لكن… أريد الانضمام. أريد هذه الفرصة… رجاءً…”
أغمض الدوق عينيه لثوانٍ، وزفر بضيق شديد، ثم رفع يده ليمسح وجهه. كان واضحًا أن رفضه ينهار أمام إلحاحي ونبرة الرجاء في صوتي. فتح عينيه مجددًا، وفيهما انعكست الهزيمة أمام إصراري، ثم قال بنبرة مترددة: “هاه… حسنًا. سأفعل هذا من أجلك… بما أنه أول طلب حقيقي تطلبينه مني.”
تسارعت أنفاسي، لم أستطع إخفاء بريق الفرحة في عيني، بينما أضاف بصرامة ممزوجة بالحنان: “لكن بشرط… أن تركزي في هذه الأيام على التعافي فقط. مفهوم؟”
أومأت بسرعة، وابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهي: “حاضر…”
تأملني لبرهة، ثم أردف: “وأيضًا… سأرسل لكِ معلمين يدرّسونك. في المرة السابقة رفضتِ هذا الأمر، لكن هذه المرة لن أقبل رفضك. وجودهم سيسهّل عليك الاستعداد كثيرًا.”
منذ تلك اللحظة، بدأت الأيام تمضي بوتيرة مختلفة. كنت أتحرك كل يوم أكثر قليلًا، لكن دائمًا بحذرٍ مدروس، حتى لا يلحظ أحد أن قدمي استعادت قوتها فجأة. لم أعد أسير بخطواتي المعتادة، بل اخترت أن أظهر تقدّمًا بطيئًا ومتدرجًا، كي لا يثير الأمر أي شكوك.
وبينما كنت أستعيد السيطرة على جسدي، بدأ المعلمون والأساتذة الذين أرسلهم الدوق بالحضور واحدًا تلو الآخر. في البداية، كنت متأكدة أنهم سيعملوني باستحقار وكنت مستعدة لذلك، فقد اعتدت في حياتي السابقة أن أُعامل باستهزاء أو تقليل من شأني، لكن… الأمر هذه المرة كان مختلفًا. صحيح أنهم لم يغمروني بالود أو الحنان، لكنهم أيضًا لم ينظروا إليّ باحتقار. كانت معاملتهم حيادية، مهنية، وهو أمر أراحني أكثر مما توقعت.
ما أثار استغرابي حقًا هو أن الدروس بدت… سهلة! الكلمات والمفاهيم التي كانوا يشرحونها انزلقت إلى عقلي بسهولة غير معتادة، وكأنني سبق لي أن درستها من قبل، أو أن ذاكرتي خبأت هذه المعلومات في مكان ما وأعادت فتحه الآن. كل درس كان يمر بيسر، حتى أنني أحيانًا كنت أسبق الشرح بخطوة، وكأن عقلي يتذكر الطريق قبل أن أصل إليه.
خلال تلك الأسابيع، لم أرَ أيًّا من ليونارد أو أوسكار أو حتى فيكتوريا. لم أعرف إن كان غيابهم صدفة أم تعمّدًا، لكن الهدوء الذي رافق ذلك جعل أيامي أكثر احتمالًا. كنت أتناول طعامي في غرفتي في معظم الوقت، وأحيانًا، كان الدوق يفاجئني بالانضمام إليّ، يجلس أمامي بابتسامته الدافئة، يطمئن عليّ ويسألني عن دروسي. تلك اللحظات الصغيرة كانت كفيلة بتخفيف جزء من الإرهاق المتراكم بداخلي.
ومضت الأيام سريعًا، ثم الأسابيع… كانت مرهقة بحق، جسديًا وذهنيًا، لكنني لم أسمح لنفسي بالتراجع. كنت أشعر أن كل ساعة أقضيها في المذاكرة، كل كلمة أراجعها، تقرّبني أكثر من هدفي، وتجعلني أكثر استعدادًا لمواجهة ما ينتظرني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات