لكن… ألم يكن في “رحلة عمل”؟ هكذا قالت الخادمات لي، بوجوه جامدة ونبرات لا تحمل أي قلق. إذن… لماذا هذه العاطفة المفاجئة التي تكاد تخنقني الآن؟
ذراعاه كانتا تطوقانني بقوة، لدرجة أن أنفاسي بدأت تثقل، ورغم ذلك لم أتحرك، وكأن جزءًا مني كان يرفض أن يقطع هذا الدفء النادر.
مرت ثوانٍ… أو ربما دقائق، لا أدري، قبل أن أجد جسده يبتعد قليلًا عني.
نظر إليّ بصمت… صمت ثقيل، حاد، كأنه يبحث عن شيء في ملامحي، شيء يؤكد له أنني هنا بالفعل، وأنني لم أعد عالقة في الغيبوبة.
كانت عيناه…
نعم، كانتا حمراوين. ليست الحمرة الطبيعية التي أعرفها، بل حمرة متعبة، مشبعة بالسهر والبكاء المكبوت.
جلده شاحب، كأن لون الحياة تسرب منه. خطوط الإرهاق كانت محفورة تحت عينيه، وجبهته مشدودة، وكأن كل عضلة في وجهه تحمل همّ أسبوع كامل.
اقترب فجأة، ورفع كفيه… أصابعه لامست وجهي بحذر، كما لو كنت زجاجًا هشًّا قد ينكسر بأقل ضغط.
حرارة كفه تسللت إلى بشرتي، وفيها رجفة… رجفة لم أعرف إن كانت من البرد، أو من الخوف، أو من شيء آخر أعمق.
“أوريانا…”
مجرد اسمي… لكنه خرج من بين شفتيه مكسورًا، وكأنه انتظر قرونًا لينطق به.
عينيه امتلأتا بالدموع، وبسرعة لم أستطع حتى أن أرمش، انزلقت دمعة على خده، ثم لحقتها أخرى.
انحنى نحوي، شفتيه لامستا أعلى رأسي، قبلة بطيئة، ثابتة، تحمل كل ما لم يُقل.
لم يبتعد، بل عاد ليشدني إلى صدره مرة أخرى. هذه المرة لم يكن العناق مجرد دفء… كان أشبه بسور من جسده يحيط بي، يحجب عني العالم، وكأنه يحاول أن يحبسني داخله، بعيدًا عن أي خطر.
دموعه تساقطت على شعري وكتفي، وحرارتهما جعلت قلبي يضطرب.
“أنا… سعيد للغاية أنك استيقظتِ… آسف… آسف لتأخري في العودة… الرسالة عندما وصلتني… أخذت وقتًا في تجهيز رحلة العودة. وعندما جئت من مملكة رافينيا… الطريق استغرق وقتًا طويلًا…”
مملكة رافينيا…؟
الاسم كان كصفعة على ذاكرتي… إنها مملكة البطل الفرعي الثاني في الرواية!
لكن… ماذا كان يفعل الدوق هناك؟
أنا أعرف أن عمله لا يخرج عن حدود الإمبراطورية.
تجمدت ابتسامتي الباهتة.
مهلًا…
هل هذا يعني أن الخادمات… كذبن؟
شعرت بعضٍّ بارد في معدتي، وعضضت شفتي حتى كدت أجرحها.
أنا… الغبية.
رغم أنني أعرف جيدًا عدل الدوق وطبيعته التي لا تجامل أحدًا… إلا أنني، بسبب الصدمة وما مررت به، صدّقت كلام الخادمات دون أن أسمح لنفسي بأن أشك أو أبحث عن الحقيقة.
تركَني الدوق بعد دقائق، لكن أثر ذراعيه ظلّ يطوّقني حتى بعد أن ابتعد.
لم أتكلم… لم أستطع حتى لو أردت. شعور خانق يغمر صدري، كأن شيئًا يضغط على حنجرتي، يمنع الكلمات من الخروج. لم أفهم السبب، لكنني شعرت أن الصمت هو كل ما أملكه في هذه اللحظة.
جلس بجوار السرير، على الحافة القريبة من قدميّ. كان ظهره محنيًا قليلًا، يداه متشابكتان بإحكام حتى بدت مفاصلهما بيضاء من شدة الضغط.
قال اسمي بصوت منخفض:
“أوريانا…”
لكن عينيه ظلّتا معلّقتين بالأرض، وكأنه لا يجرؤ على النظر إلي. مرّت لحظات طويلة، ثقيلة، قبل أن يضيف بنبرة أضعف مما توقعت من رجل مثله:
“أنا آسف.”
رفعت نظري إليه بصدمة، اتسعت عيناي، وقلبي ارتجف للحظة. هذا… هذا هو ثاني تصرف غريب يصدر منه اليوم.
كرر، وكأن كلمة واحدة لا تكفي:
“أنا آسف حقًا… آسف لأنني كنت والدًا غير مسؤول. آسف لأنني تركتُكِ وحدكِ طوال تلك المدة. آسف لأنكِ عانيتِ بينما كنتُ بعيدًا.”
صوته كان ينكسر في النهاية، حزنه عميق كجرح قديم لم يُلتئم قط. في كل مرة لفظ فيها كلمة “آسف”، سرت قشعريرة باردة في عمودي الفقري، كأن جسدي يرفض تصديق ما يسمعه من الدوق.
شعرت أنني لا أحتمل أكثر، فانتزعت كلماتي من بين ثقل صمتي:
“سيدي الدوق… هل لي أن أسألك سؤالًا؟”
رفع رأسه فورًا، كأن صوته المبحوح قد أيقظه من غرقه. عيناه، المرهقتان الحمراوان من السهر، انعكست فيهما مشاعر لا أستطيع تحديدها، وأجاب بصوت مفعم بالصدق:
“بالطبع، تفضّلي… يا ابنتي.”
تجمدت للحظة. تلك الكلمة… “ابنتي”.
بدل أن تبعث الطمأنينة في داخلي، شعرت وكأنها تخنقني أكثر، كأنها ثقلٌ جديد على صدري.
ابتلعت ريقي بصعوبة وقلت:
“لماذا تعتذر لي؟ أنا لم أطلب اعتذارًا. ثم… أنت لم ترتكب خطأً.”
أخفضت بصري نحو الغطاء الأبيض بين يديّ.
“المفترض أن تسألني عمّا جرى، أن تشك حتى أنني… آذيت نفسي. فأنا استيقظت فجأة، من تلقاء نفسي، بلا سبب واضح.”
عضضت على شفتي بقوة، قبل أن أقكر في داخلي:
“أكره قول ذلك… لكن ما قاله أوسكار من قبل… هذا بالضبط ما سيفكر فيه أي شخص. حتى أنا… لو كنت مكانك، لظننت نفس الشيء. رغم أنني لا أعرف… لا أعرف ما حدث لي فعلًا، كيف استيقظت، أو كيف… ذهبت إلى عالمي.”
أمسكَ يدي بتلقائية، دون تفكير، وكأن جسده سبق عقله.
تجمدتُ في مكاني، عيني ترتفع ببطء نحوه… وهناك، لأول مرة، ركزت حقًا في عينيه.
عيناه الحمراوان، اللتان كنت أهرب منهما دومًا، لم أرهما بهذا الشكل من قبل… كان فيهما دفء غريب، دفء يذيب شيئًا ما في داخلي رغمت عني.
ابتسم لي ابتسامة صغيرة، مترددة، لكنها صادقة تمامًا.
قال بصوت منخفض، وكأنه يخشى أن يجرحني حتى بالكلمات:
“أتدرين… حينما سقطتِ، لم نجد أي أثر لهجوم. لم تكن هناك أدلة على أي شيء… لهذا، ظننتُ أنكِ… أنكِ قد آذيتِ نفسك.”
كلماته ارتطمت بي كحجر ثقيل.
تابع، وصوته يزداد ارتجافًا:
“شعرتُ بمرارة لا توصف… لأنني لم أكن معكِ حين احتجتِني. ومرارة أكبر لأنكِ قد… ترحلين عني، بسبب إهمالي. أن تضطرّي لإيذاء نفسك بسببنا… فقط تخيُّل ما شعرتِ به في تلك اللحظة كان كافيًا ليمزقني.”
انحنى قليلًا للأمام، ضغط على يدي بقوة أكبر، كأنه يتوسل من خلالها.
“أنا آسف… آسف جدًا. أعلم أن الندم لا يفيد، وأنكِ تألمتِ كثيرًا. لكن أرجوكِ، في المرة القادمة… إن سببتُ لكِ أنا، أو أي أحد في هذه الدوقية، ألمًا… دوسي علينا جميعًا. لا تهتمي بنا. عيشي بسعادتك فقط. وإن أردتِ الانتقام… فلتأخذيه مني.”
رفع عينيه نحوي، نظرة مفعمة بالرجاء، وصوته انكسر وهو يضيف:
“رجاءً… لا تؤذي نفسك مجددًا.”
نظرتُ إليه… والاختناق عاد يطبق على صدري بقوة.
الآن فقط فهمت.
السبب في أن وجهه يخنقني، أن نظرته تزلزلني، أن ملامحه لا أستطيع احتمالها… هو صدقه. لم يكن يكذب. لم تكن كلماته ادعاءً أو واجبًا، بل شعورًا حقيقيًا، يفيض من كل حركة، كل ارتجافة، كل لمعة في عينيه.
لكن… أنا لا أريد أن أصدّق.
لا أريد أن أسمح لنفسي بالضعف. لا أريد أن أكرر خطأي مع عائلتي الأخرى… حينما وثقت، ثم انكسر كل شيء.
أردت أن أبعده، أن أدفعه بعيدًا كما دفعت الجميع من قبل… لكن يده الدافئة، وصدق كلماته، جعلاني أعجز. جعلاني… أرغب، برغبة مؤلمة، أن أمسك هذه اليد التي تمتد نحوي.
“أختي… حقًا أنتِ لا تتعلمين أبدًا.”
صوت أنثوي بارد، ممتزج بالسخرية، انساب إلى أذني كخنجر حاد.
شعرت بيدٍ هزيلة، باردة، توضع على كتفي من الخلف.
جسدي تجمّد في مكانه، لم أجرؤ على الالتفات، لكن قلبي كان يضرب صدري بعنف.
هيونا.
التفتُ ببطء، وكأن الهواء صار أثقل من أن أقاومه.
فرأيتها…
كانت تطفو أمامي، جسدها ضبابي، ورأسها أشبه بكتلة سوداء متفحمة.
لا عيون. لا فم. لا أي ملامح بشرية.
فقط فراغ أسود يتنفس أمامي، يقترب أكثر فأكثر.
صوتها خرج من العدم، أجوف، متشظٍ، كأن آلاف الأصوات تتكلم في آن واحد:
“ألم تقولي ذلك عن أهلك؟
ألم تتمسكي بأيديهم… وفي النهاية ألقوكِ بعيدًا كالقمامة؟
قلتِ إنك تغيرتِ، وإنك لن تثقي بأحد مجددًا…
لكن ها أنتِ الآن… تعيدين الكرة، تفتحين قلبك من جديد.”
ضحكة حادة اخترقت الغرفة.
كانت ضحكة مشوهة، متكسّرة، كأنها تصدر من عمق بئر مظلمة.
هيهيهيهيه…
ترددت أصداؤها في رأسي حتى شعرت أن جمجمتي ستنشق نصفين.
أردت الرد. أردت أن أصرخ ببرود، أن أثبت أنني لا أخاف.
لكن صوتي خرج مبحوحًا، ضعيفًا:
“أنتِ… لا تُقارَنين بهم…”
خطوت للخلف، لكن الأرض تحت قدمي لم تعد موجودة.
كل شيء تلاشى.
كنت أسقط… أسقط في فراغٍ لا قاع له.
قلبي يخفق بسرعة لا تُحتمل، يدي ترتجفان، والبرد ينهش عظامي.
تجمدت الكلمات على لسان ليونارد، فخفض رأسه فورًا نحو الأرض، أسنانه تضغط على شفتيه، وكأن الأرض أصبحت أثقل من أن يرفع نظره عنها.
أطلق الدوق زفرة غاضبة، وأنهى كلامه بجملة قاطعة:
“إذن… لا تقترب منها. انتهى النقاش. أخرجا الآن.”
فتح الباب، غادر ليونارد وأوسكار في صمت مشحون.
لكن عند العتبة، لم يستطع أوسكار كبح غيظه، فتمتم بين أسنانه:
“سحقًا… كل هذه الإهانة بسبب تلك اللعينة!”
التفت ليونارد نحوه، ابتسامة ساخرة مرت على وجهه:
“أنت تستحقها يا أوسكار.
بصراحة… كنت سعيدًا حين صفعك أبي.
لكن لم أتوقع أن حماقاتك ستجرني أنا أيضًا للعقاب.”
أدار ظهره وغادر بخطوات ثابتة، تاركًا أوسكار يتفجر غيظًا، يقف متجمدًا عند الباب، قبضته ترتعش وهو يعض على لسانه كمن ابتلع مرارًا لن يزول.
ظللت حبيسة غرفتي طوال أسبوع كامل، غارقة في صمت ثقيل يخنق صدري كلما حاولت التفكير.
وفي أحد الأيام، جاء صوت الدوق من خلف الباب، هادئًا، مترددًا قليلًا:
“أوريانا… هل يمكنني الدخول؟”
شعرت بانقباض داخلي فور سماع صوته. لم أرغب في رؤيته، لم أرد أن أواجه تلك النظرة التي دائمًا ما تهزّني.
ومع ذلك، الباب انفتح ببطء، ودخل هو، مبتسمًا كعادته. ابتسامته بدت دافئة، لكنها تحمل انكسارًا لا يمكنني تجاهله. كانت عيناه تبحثان عني بقلق خفي، وكأنه يحاول أن يخفي حزنه خلف قناع الأب الحنون.
اقترب بخطوات هادئة نحو سريري، ثم قال بصوتٍ حاول جعله مرحًا:
“أوريانا… ما رأيك أن نخرج قليلًا إلى الحديقة؟ البقاء في غرفتك طوال الوقت سيجعلك تذبلين.”
خفضت بصري سريعًا، لا أريد أن ألتقي عينيه، وهمست:
“آسفة… سمو الدوق، لكن كما ترى… لا أستطيع المشي.”
ظل واقفًا للحظة يراقبني، ثم مد يده ليُخرج شيئًا صغيرًا من جيبه. بدا كقطعة قطن بيضاء، لكن فجأة، أمام عيني، بدأت تنتفخ وتتشكل، تتحول إلى كتلة سحاب ناعمة، مضيئة، كأنها قطعة مسروقة من السماء.
ارتسمت ابتسامة دافئة على وجهه، وقال بصوتٍ ممتلئ بالرجاء:
“لقد طلبت من السحرة أن يصنعوا لك شيئًا يساعدك على الحركة. والآن… فلنذهب.”
ارتبكت، رفعت يدي لأشير له أنني لست مستعدة، لكن قبل أن أنطق بكلمة، وجدت جسدي يرتفع فجأة.
حملني بخفة مذهلة، كما لو أنني لا أزن شيئًا. قلبي خفق بقوة من المفاجأة، وحرارة صدره لامستني للحظة جعلت أنفاسي تتسارع.
وضعني فوق السحابة بلطف، وكأنه يتعامل مع كنز هش قد ينكسر من أقل لمسة.
مد يده، وربّت برفق على رأسي، ابتسامته هذه المرة أكثر دفئًا، لكن عينيه كانتا تحملان قلقًا دفينًا:
“أنتِ خفيفة للغاية يا أوريانا… يجب أن تجلسي هنا الآن.”
ترددت، ثم مددت يدي ببطء، وكأنني أردت لمس أثر يده على رأسي. لم أعرف لماذا، لكنه شعور داخلي، رغبة لم أستطع كبحها.
انحنى قليلًا نحوي، وقال بصوت جاد:
“سأهتم بطعامك من الآن، سأجعلهم يعدون لك غذاءً جيدًا. لا يمكن أن تبقي بهذا الضعف… لقد أصبحتِ رفيعة لدرجة أنك تشبهين…”
توقف فجأة عن إكمال جملته، وكأن شيئًا اعتصر قلبه. أما أنا، فقد بقيت صامتة، الكلمات لم تعد تخرج من فمي، وكأنني فقدت القدرة على الحديث.
بدأ في التحرك بخطوات ثابتة، بينما السحابة الناعمة انزلقت بجانبه، تحتفظ بي كما لو كنت محمية بين ذراعيها. كان لها ظهر يحاوطني كالحاجز، وأرضيتها طرية كالمخدة، تُشعرني أنني أجلس فوق حلمٍ، حلم بعيد عن عالمي، لكنه غمرني بطمأنينة غريبة لم أختبرها منذ زمن طويل.
وصلنا أخيرًا إلى الحديقة.
كانت جميلة بشكل خاص ذلك اليوم، الأزهار تتمايل مع نسيم خفيف، والعصافير تُغرد من بين الأشجار، وكأنها تحاول نشر حياة جديدة في المكان.
لكن طوال الطريق، لم ينطق الدوق بكلمة واحدة، وأنا ظللت أراقبه بصمت. نظرت إليه مرارًا، إلى وجهه المرهق، إلى ابتسامته المتعبة، لكن شيئًا ما في داخلي كان يمنعني من الحديث.
عندما دخلنا الحديقة، توقف فجأة، عيناه تجوّلت في المكان، كأنه يسترجع ذكريات عالقة بين أغصان الأشجار وألوان الزهور.
ابتسم بخفوت وقال بصوتٍ مبحوح:
“أوريانا… هل تتذكرين آخر مرة جئنا إلى هنا؟”
تجمدت للحظة، لم أتوقع منه أن يبدأ هكذا.
تابع بصوتٍ متقطع، وكأنه يحاول كبح مشاعره:
“كنا جميعًا هنا… أنا، ووالدتك، وأنتِ، وليونارد، وأوسكار… كنا نتناول الإفطار معًا. فيكتوريا حينها بقيت في غرفتها لأنها قالت إنها لا تريد الأكل.”
أخذ نفسًا عميقًا، عينيه تلمعان بحزن ثقيل:
“كان ذلك آخر يوم نجتمع فيه هنا كعائلة… كنت أظن أن تلك اللحظة ستستمر للأبد.”
اقترب خطوة مني، ثم انحنى على ركبتيه أمامي، ليكون في مستوى نظري.
شعرت بدفء كفيه وهما يحيطان وجهي، يرفعانه برفق، يجبراني على النظر في عينيه.
صوته هذه المرة لم يكن كصوته المعتاد… كان متوسلًا، مكسورًا:
“أوريانا… أخبريني. لماذا أنتِ حزينة هكذا؟ ما الذي يزعجك؟”
ثم لوّح بيده بخفة، وفجأة أحاط بنا حاجز صامت، ليمنع أي صوت من الخروج أو الدخول. كان يريد أن تكون هذه اللحظة لنا وحدنا.
ارتجف صدري، شعرت أن الكلمات تختنق في حلقي.
تابع بنبرة مرتجفة، كأنه يقاتل دموعه:
“أوريانا… قولي لي فقط ماذا أفعل… لأعيد ابتسامتك؟ أخبريني بما تريدينه… وسأفعله. أي شيء. فقط… عودي كما كنتِ.”
رفعت يدي بتردد، أردت إبعاد يديه عن وجهي. لكنّه أمسك بيديّ بكلتا يديه دفعة واحدة، وأحكم قبضته عليهما، كأنه يخشى أن أفلت منه، أو أن أفلت من بين يديه للأبد.
هتف بصوتٍ متهدّج، تملؤه الحسرة:
“أنا آسف… آسف على كل ما فعلته في الماضي. سأعتذر مئة مرة… ألف مرة… فقط امنحيني فرصة، سأفعل أي شيء، أي شيء، إن كان ذلك سيجعلك سعيدة مجددًا.”
لماذا…؟ لماذا في كل مرة أحاول أن أبعدك، تصر على الاقتراب أكثر؟
لماذا تفعل هذا يا سمو الدوق؟ لماذا أنت لطيف إلى هذا الحد؟
كان صوتي خافتًا في البداية، ثم بدأ يرتفع تدريجيًا مع كل كلمة.
شعرت أن الدموع تملأ عيني، وانهمرت على وجنتيّ بلا توقف.
لم أعد أستطيع السيطرة عليها.
قلت وأنا أحاول أن أبدو قوية:
“قلت إنك تريد أن تعرف ما يزعجني… حسنًا، سأخبرك.”
أخذت نفسًا مرتجفًا، ثم واصلت بصوت مضطرب.
“كان من المفترض أن تسألني كيف استيقظت فجأة، وكيف نهضت من غيبوبتي. أن تشك في أمري… هذا شيء طبيعي سيفعله أي شخص. حتى أنا، لو كنت مكانك، لفكرت هكذا.”
شعرت بمرارة تخنق حلقي، ويدي المرتجفة حاولت أن تفلت من قبضته، لكنه تمسك بها أكثر.
“إذن… لماذا تعتذر لي؟ لماذا تمنحني لطفك وعاطفتك؟ أنا لم أقدّم شيئًا في المقابل، فلماذا تعطيني كل هذا؟”
رفعت عيني إليه بصعوبة، والدموع تزداد مع كل كلمة.
“المفترض أن تعطي بقدر ما تأخذ… فلماذا أنت مختلف؟”
ظل صامتًا للحظة.
عيناه كانتا عميقتين بشكل أربكني، حتى شعرت أنني أغرق فيهما.
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة دافئة، لكنها كانت تحمل مسحة حزن واضحة.
قال بصوت هادئ، لكنه مليء بالثبات:
“كل تلك الأسئلة… لها إجابة واحدة فقط.”
نظرت إليه بدهشة وارتباك، وقلبي يخفق بسرعة.
“وما هي…؟”
ضغط على يدي بقوة أكبر، كأنه يخشى أن يتركني للحظة.
دفء كفيه جعلني أرتجف رغم كل البرود الذي حاولت التمسك به.
اقترب قليلًا، وقال ببطء:
“لأنني والدك.”
تسمرت في مكاني، واتسعت عيناي من الصدمة.
شعرت وكأن الزمن توقف، وأن قلبي انقبض لدرجة الألم.
الدموع لم تتوقف، لكنها هذه المرة كانت أثقل، كأنها تكسر شيئًا داخلي.
واصل كلامه، وصوته صار أكثر دفئًا، وكأنه يلفني بعاطفة لم أعرفها من قبل:
“أن أكون والدك يعني أن أعطيك حبي بلا مقابل. يعني أن أحميك، وأن أبذل كل جهدي كي لا تعاني. أن أجلب لك كل ما تحتاجينه، وأقف بينك وبين أي ألم.”
رفع رأسه قليلًا، وعيناه ثابتتان في عيني.
“أن أكون والدك يعني أن أبذل كل ما بوسعي… فقط لأرى سعادتك.”
ابتسم ابتسامة صادقة، وأضاف بصوت منخفض لكنه قوي:
“وأنا لا أطلب منك أي مقابل يا أوريانا.”
بكيت أكثر…
لم أستطع التوقف، وكل دمعة تسقط كانت كأنها تمزق صدري من الداخل.
كنت أعرف… كنت أعرف منذ البداية أن هذا الدوق مختلف.
كنت أدرك ذلك، لكنني كنت أرفض الاعتراف.
أدرك الآن لماذا كنت أكره وجوده بجانبي، ولماذا كان يزعجني قربه.
لأنني ظننت أن “أوريانا” تشبهني في كل شيء…
ظننت أنها انعكاس لي، حتى لو كانت مجرد شخصية في قصة خيالية.
كنت أريدها أن تكون أنا، أن تحمل نفس آلامي، نفس ندباتي، نفس جوعي للحب.
لكن في كل مرة، كان الدوق يثبت لي العكس.
كنت أشعر بمرارة كبيرة، مرارة لا تُحتمل.
هي لم تكن مثلي أبدًا…
هي لم تُجبر على بذل روحها كاملة لتحصل على شيء عفن كالحب.
لم تُجبر أن تثبت نفسها لتنال مجرد فتات من العاطفة.
الحب عندها كان حاضرًا، يلتف حولها حتى لو لم تلتفت إليه.
أما أنا… فقد كنت دائمًا أركض خلفه مثل شحاذة بائسة.
كنت أعرف أن الدوق مختلف.
وكنت أعرف أيضًا أن عائلتي… مجرد حثالة.
لكن رغم ذلك، اخترت أن أسير كالعمياء، أن أغمض عينيّ وأتظاهر بأنني لا أرى الحقيقة.
والآن… كل شيء ينفجر داخلي دفعة واحدة.
رفعت رأسي، ونظرت إلى الدوق من بين دموعي.
شعرت بالاختناق وأنا أهمس لنفسي:
“هذا الدفء… هذا الحب… ليس لي. إنه لابنته أوريانا، وليس أنا.”
كانت مرارتي تتضاعف، وشعرت بالشفقة عليه.
هو يعتذر لي بصدق، ينحني أمامي بروحه، بينما لا يعرف أنني لست ابنته.
إنه يعتذر لإنسانة لم تعد موجودة.
أوريانا الحقيقة اختفت منذ زمن، وما تبقى أمامه الآن مجرد دخيلة تتظاهر بأنها هي.
أنا حقًا سيئة…
أعامله ببرود وأنا أعلم كم يعاني، أعلم أنه يتمزق من الداخل.
ولو كانت أوريانا الحقيقية هنا، لفرحت بكل كلمة، ولكانت احتضنته بلا تردد.
لكنني أنا… أنا لا أستطيع.
بكيت فجأة، بكاء صاخب وعالي.
“آهاهاهاهاها… هيه… هيه…”
خرج صوتي مكسورًا، متقطعًا، وكأنني أصرخ من قاع هاوية.
انفجرت في بكاء وصراخ، لم أعد أعي ما أفعل.
كل ما كان محبوسًا داخلي لسنوات طويلة اندفع في لحظة واحدة، كبركان فقد صبره.
صرخت حتى شعرت أن حنجرتي تتمزق، وبكيت حتى لم يعد في عيني دموع.
كان الأمر أشبه بالتحرر…
لكن ليس التحرر المريح الذي يخفف عن الروح، بل التحرر المؤلم، ذاك الذي يمزقك إلى أشلاء قبل أن يمنحك أي راحة.
فجأة… أحاطني الدوق بذراعيه.
كان حضنه قويًا، متشبثًا بي وكأنه يخشى أن أتفتت بين يديه إن تركني.
صوته المرتعش كان يلهث مع كل كلمة:
“أنا آسف… آسف يا أوريانا… سامحيني، أرجوكِ… أنا آسف بشدة.”
ترددت لحظة، ثم وجدت يدي تتحرك بلا وعي.
أمسكت بقمصيه بكل قوتي، كما لو أني أغرق وأحتاج أن أتشبث بشيء يثبتني في هذه الحياة.
دموعي انهمرت بلا توقف، وخرج صوتي متقطعًا بين شهقاتي:
“شكراً لك… شكراً لك يا أبي…”
كانت الكلمات تخرج مني للمرة الأولى بصدق، ثقيلة لكنها دافئة، وكأنني ألقيت عن كاهلي ثقلًا ظل يسحقني لسنوات.
وبينما كنت أتشبث به، شعرت أن جفوني تثقل شيئًا فشيئًا.
الدفء الذي غمرني في حضنه سرق مني آخر ما تبقى من قوتي.
استسلمت للنوم ببطء، لأول مرة منذ زمن بعيد شعرت أنني أنام بسلام…
للمرة الأولي فقط، ذقت طعم الراحة الحقيقية.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 36"
ماقرت ابدا البطلة روايات حتى تعرف لما يجيها تلك الشاشة معنها حياتها بتتغير180°<
انها اخيرا بدأت تتقبل ان تكون اوريانا بس ايه الي هيحصل في الحياه التانيه ولو ماتت هناك هتموت من غير ما تنتقم من عليتها وفين البطططططططل