ما الذي حدث للتو؟ لا… مستحيل… هل رأيتَ ما رأيتُ أنا؟ ليونارد… ضرب أوسكار؟!
الصفعة لم تكن مجرد صوت، بل كانت زلزالًا صغيرًا هزّ الغرفة كلها. حتى الجدران شعرت وكأنها ارتجفت للحظة، والهواء نفسه صار أثقل.
أوسكار، الذي تجمّد مكانه للحظة من وقع الضربة، رفع يده ببطء شديد ليلامس خده المحمّر، أنامله انزلقت على الجلد وكأنها تتحقق من حقيقة الألم. ثم… ابتسم.
لم تكن ابتسامة فرح، ولا حتى سخرية عابرة… بل ابتسامة مسمومة، متعمدة، تخرج من أعماق شخص يعرف كيف يطعن دون سيف. – “لم أظن أن هذا اليوم سيأتي… اليوم الذي تمد فيه يدك علي. والأكثر إثارة للدهشة… أنك فعلتها من أجل فتاة غريبة… ليست حتى أختك.”
تغيّر ليونارد في لحظة. لم يعد ذاك الوجه الهادئ الذي عهدته… بل بركانًا يوشك على الانفجار. اندفع خطوة واحدة، قبض بيده على ياقة أوسكار بعنف، وجذبه بقوة حتى التصق جسده بالحائط.
الارتطام كان قويًا لدرجة أن الإطار الخشبي للنافذة اهتز قليلًا، وصوت احتكاك قماش ياقة أوسكار بقبضة ليونارد كان حادًا، كأنك تسمع التهديد في الصوت نفسه. عينا ليونارد كانتا تشتعلان… نظراته ثاقبة، محملة بكل غضب مكبوت سنينًا، وأنفاسه الحارة اصطدمت بوجه أوسكار.
– “انتبه لكلامك.” خرج صوته منخفضًا… لكنه كان أشد من الصراخ. – “ألا تدرك أنك تجاوزت حدّك كثيرًا؟ وألا تفهم… أن ما تتفوه به تقوله أمام الجميع؟”
على السرير، كنت أشعر بجسدي يثقل أكثر مع كل كلمة، لكن شيئًا ما في داخلي رفض الاستسلام. ببطء، وبتنهيدة متعبة، دفعت نفسي لأجلس، وكأنني أحارب ظلام الغيبوبة التي ظللت فيها أسبوعًا كاملًا.
– “أنا… هل قلتُ سوى الحقيقة؟” قالها أوسكار بصوت ثابت، وكأنه يضع كل ثقله في تحديه.
ثم أدار عينيه نحوي مباشرة، يراقب كل ذرة حركة في وجهي. – “فتاة… وجدناها ممددة على الأرض، تتقيأ الدماء بلا سبب واضح. والأدهى… أنها تستيقظ فجأة بعد أسبوع كامل من الغيبوبة… لوحدها.”
اقترب رأسه قليلًا للأمام، وكأن المسافة بينه وبيني يجب أن تختصر ليغرس كلماته في عقلي. ابتسم ابتسامة بطيئة، ثم تابع: – “هذا لا يفسَّر إلا بطريقتين… إما أنها حاولت إيذاء نفسها، لكنها فعلت شيئًا جعلها تنجو… أو… أنها ممثلة بارعة، بارعة لدرجة أن تقنعنا جميعًا.”
كانت كلماته تسقط في الغرفة مثل قطرات سمّ بارد، تلوث الهواء وتخنق الصدور. قبضة ليونارد على ياقة أوسكار ازدادت إحكامًا، أصابعه غرست نفسها في القماش حتى تجعّد وتشققت خيوطه، وصوت احتكاك أنفاسهما كان ثقيلًا كصوت رعد قبل العاصفة.
أما أنا… فجلست صامتة، بلا كلمة، الهواء في الغرفة كان مشبعًا برائحة التوتر… ثقيلًا لدرجة شعرت معها أن صدري يضيق، وكأنني أتنفس من خلال قماش مبلل. كان الصمت يجلد المكان، يقطعه فقط صوت أنفاس متقطعة، متوترة، كأنها صادرة من صدرين يحاولان التمسك بهدوء لن يأتي.
ليونارد كان يقف أمام أوسكار كجدار حجري لا يمكن تجاوزه. كتفاه مشدودتان، وظهره مشدود حتى استقام كالسيف. كانت يده اليمنى مغروسة في ياقة قميص أوسكار، أصابعه تضغط حتى تغيّر لون مفاصلها إلى الأبيض. الخشب خلف أوسكار ارتجف قليلًا من شدة الدفع، كأن الحائط نفسه شعر بالتهديد.
انحنى ليونارد قليلًا إلى الأمام، حتى صار بين وجهه ووجه أوسكار بضع أنفاس ثقيلة، ساخنة، ممزوجة بغضب مكتوم. عيناه كانتا مثل فكين يطبقان على فريسته، تلتهمه قبل أن تنقض. صوته خرج منخفضًا، لكنه كان مشحونًا ببطء قاتل: “أتدري… منذ أن وقعت أمي في الغيبوبة…” كل كلمة خرجت منه بدت وكأنها تحمل وزن عام كامل من الألم. “لم أرغب في أن أخسر أي أحد.” جفف حلقه بحركة سريعة من ابتلاعه، لكن عينيه لم ترمش. “ظننت أنني إذا صرت هادئًا، أقل تعصبًا، وأبعدت نفسي عن الجميع… سيكون ذلك أفضل.”
شعرت أن قبضته على أوسكار ازدادت إحكامًا وهو يكمل: “كنت أحمل على كاهلي ثقلًا كلما اقتربت من أي شخص… وخصوصًا من أوريانا.” أصبحت أنفاسه أكثر خشونة، وكأن ذكر اسمي أشعل شيئًا آخر في داخله. “كانت تراودني أفكار… سوداء… لذا ابتعدت.”
رفع ذقنه قليلًا، وعينيه تلمعان بحدة باردة: “وأنت… حين بقيت معي… ظننتك شخصًا عاقلًا… حنونًا… طيبًا… هذا ما رأيته فيك.” هنا، فجأة، شد قبضته فجعل أوسكار يرتطم بالحائط، وارتد صوته في الغرفة كصفعة. “لكن يبدو… أنني كنت مخطئًا. أنت… مختلف تمامًا.”
ارتسمت على وجه أوسكار ابتسامة باهتة، لكنها لم تكن فرحًا أو تحديًا كاملًا… كانت أشبه بكسوة رقيقة يخفي بها اهتزاز أنفاسه. ليونارد دفعه مرة أخرى، بعنف أكبر، حتى تمايل إطار اللوحة على الحائط، وأصدر الزجاج ارتجاجًا حادًا. “أنا حقًا… أصبحت أكن لك كرهًا لا يمكن قياسه.”
خطوات مسرعة قطعت اللحظة-فيكتوريا اندفعت، شعرها يتمايل مع حركتها، وعيناها متسعتان بقلق يفيض. مدت يدها، قبضت على ذراع ليونارد بإصرار، رغم ارتجاف أصابعها: “أخي… توقف! ستؤذيه!” كانت أنفاسها سريعة، وكأنها ركضت مسافة طويلة، لكن قبضتها ظلت مشدودة كأنها تستمد شجاعتها من الضرورة.
ليونارد استدار نحوها ببطء قاتل، رأسه مائل قليلًا، وعيناه لمعتا بوميض بارد، لا يشبه الغضب بل أشبه بالتهديد الصامت. اقترب منها خطوة، حتى اضطرت للرجوع نصف خطوة للوراء. صوته خرج أعمق، وكأنه يزحف على الأرض قبل أن يصل للأذن، نغمة ثقيلة تتسرب ببطء وتستقر في العظام قبل أن تلامس السمع: “هل تتوقين إلى الموت بشدة… أم ماذا؟”
عيناه لم تتحركا عنها، ظل يحدق بها للحظات طويلة، نظرة جامدة كأنها تحاول اختراق أفكارها. ثم، ببطء مدروس، انحنت زاوية فمه بابتسامة صغيرة… لكنها لم تكن تحمل أي دفء، بل كانت ثقيلة، كأنها قيد من حديد يُغلق على صدرها. “كم مرة… أخبرتك… ألا تنطقي تلك الكلمة؟”
الحروف علقت في حلقها، كأن الهواء من حولها أصبح أثقل من أن يُستنشق، وارتجف لسانها بين محاولات فاشلة للخروج: “ا… ا… أن… نا… ل… لق…”
لكن فجأة، امتدت يد أوسكار وأمسكت معصم ليونارد بقوة، أصابعه تضغط وكأنها تحاول أن تثبّت غضبه في مكانه. صوته كان ثابتًا، لكن تحته خيط مشدود من الغضب المكبوت: “عليك… أن تتوقف عن معاملتها هكذا. أنت… تخيفها، وهي أختك.”
ضحكة انزلقت من بين شفتي ليونارد، قصيرة، لكن ثقيلة كصوت صخرة تتدحرج في ممر ضيق: “هههههه… بجديّة؟ هل تمزح معي؟”
أمال رأسه قليلًا، وعيونه تلمع بحدة، نبرته تتسرب ببطء، كل كلمة تنطق وكأنها طعنة: “هههههه… إذن… الجالسة الآن في السرير ورائي، متعبة… ولم تكترث لها، وأذللتها مرارًا… هذا لا يهمك، أليس كذلك؟” اقترب خطوة للأمام، حتى صارت أنفاسه الساخنة تصطدم بوجه أوسكار ببطء ثقيل، وصوته انخفض أكثر حتى كاد يلامس همس التهديد: “أما أنا… فبمجرد تهديد بسيط… لهذه الفتاة… تنزعج؟” بدأ الخدم من حولي يتبادلون نظرات جانبية قبل أن تنفلت منهم همسات متعمدة، همسات مشحونة بنبرة لاذعة، تتسرب إلى أذني كما لو كانت خناجر صغيرة مغلفة بالابتسام.
إحدى الخادمات، كانت تضع يديها أمامها بانضباط زائف، مالت قليلًا نحو أخرى وقالت بصوت لا يخلو من العمد:
“أنظري إليها… لم يكفها أنها تركتنا نعاني طوال تلك المدة وهي غارقة في النوم، بل تسببت أيضًا في شجار السيد ليونارد والسيد أوسكار بسببها. السيد ليونارد… هادئ ولطيف بطبيعته، لا بد أنها فعلت شيئًا ليستفزه.”
ابتسمت الأخرى ابتسامة جانبية، وكأنها تستمتع بنسج خيوط القصة أمامي، ثم أطلقت ضحكة مكتومة لم تكتمل.
كانت الكلمات تتسلل إلى مسامعي بوضوح، ومعها إحساس بالملل أكثر من الغضب. ارتفعت زاوية فمي بابتسامة قصيرة مشبعة بالسخرية، ثم خرجت مني ضحكة خافتة لكنها حادة كالنصل، لتثبت لهم أنني سمعت كل شيء.
يا للعجب… ما الذي كنت أظنه؟ هل يختلف هذا المشهد عن حياتي السابقة حين كنت “بين سوه”؟ حتى وإن لم أفعل شيئًا، حتى وإن بقيت صامتة، سأظل دائمًا الهدف الذي تتجه نحوه أصابع الاتهام.
بدأت الفكرة تتضح في ذهني: هل كل هذا مجرد مسرحية؟ مشهد مُرتب بعناية لعرضي كالشخصية الشريرة؟ على الأقل هؤلاء يحاولون الإبداع قليلًا… على عكس إخوتي السابقين، الذين كانوا يعتمدون على أساليب خشنة مباشرة—العنف، الشتائم، والقصص الكاذبة التي تهمس في الظلال. أما هذان… فهما يذهبان أبعد، ينقلان الأكاذيب من الحكايات إلى الأفعال، يجعلانها واقعًا ملموسًا. مذهل… حقًا مذهل.
قاطع شرودي صوت أوسكار، ضحكته القصيرة كانت ساخرة كطَرق معدن على حجر، ورأسه مائل قليلًا، عيناه تضيقان في تحدٍ متعمد:
“انظر… يبدو أنها جُنّت الآن. ما زالت تضحك! أرأيت؟ كانت تمثل منذ البداية.”
كانت نبرته لاهية لكن حدّتها ظاهرة، كمن يستمتع بدفع خصمه نحو الحافة.
على الجانب الآخر، كان ليونارد يحدق بي بعينين تكسوهما غمامة قلق حقيقي، حاجباه متشابكان، وشفتيه مضغوطتين كما لو كان يكتم شيئًا. تحرك خطوة صغيرة للأمام، وكأنه يريد قطع المسافة بيننا ليفهم ما يحدث، ثم نطق باسمي بهدوء، صوته خافت لكن مشدود:
“أوريانا…”
رفعت يدي ببطء مدروس، أصابعي تنزلق على جانبي رأسي حتى وصلت إلى خصلات شعري، أزيحت عن وجهي بانسياب متعمد. حين انكشفت ملامحي بالكامل، ثبّتُّ نظري عليهما، عيني باردة ساكنة، لا تحمل سوى صمت ثقيل.
بصوت منخفض لكنه صلب، قطعت الجو المتوتر:
“هل ستظلان تُحدثان ضجة وتتعاركان بينما أنا مرهقة حقًا؟”
ثم تركت جفنيّ يضيقان قليلًا، نبرتي تهبط درجة أكثر حدة:
“اذهبا وتشاجرا بعيدًا عني. وإن أردتما قتل بعضكما… فلتفعلا ذلك بعيدًا أيضًا.”
كان صوت أوسكار حادًّا، يخترق المسافة بيننا بثقة متعجرفة:
“أنتِ لا يحق لكِ قول هذا لي. لا تنسي… أنا وريث الدوقية أيضًا. هذا المكان كله ملكي، وأذهب حيثما أشاء، وقتما أشاء.”
تسللت إلى ملامحي ابتسامة باردة، لكن نبرتي كانت قاطعة كالسيف:
“لا يهمني إن كنت وريث الدوقية… أو حتى شبحها. لا يهمني من تكون. وإن كان هذا المكان ملكك، فلا تنسَ… أن هذه الغرفة تحديدًا ملكي أنا أيضًا. الدوق أعطاها لي، لذا… أخرجوا جميعكم من هنا.”
لكن لا ليونارد تحرك، ولا أوسكار أبدى نية للمغادرة. ليونارد كان واقفًا بهدوء قاتم، في عينيه ظل أسى عميق وكأن شيئًا في قلبي يثير شفقته. أما أوسكار، فكان يثبت مكانه بعناد جلي، كتفاه مرفوعتان قليلًا ونظراته تتحداني بلا كلمة.
أطلقت زفرة هادئة، نبرتي مشحونة بسخرية خفيفة:
“إذًا… لن تخرجا؟ ولا أعتقد أن الحراس أو الخدم سيجرؤون على إخراجكما إن أمرت بذلك.”
تركت الصمت يتسرب بيننا لحظة، ثم تابعت:
“لا بأس… أنا من سيخرجكما.”
دفعت الغطاء عن ساقي ببطء، مددت قدمي نحو الأرض، وشعرت ببرود البلاط يتسرب عبر جلدي. نهضت من السرير، لكن… في اللحظة التي حاولت فيها الوقوف، ارتجفت ركبتاي، ثم خذلتني ساقاي تمامًا. اختفى الإحساس منهما وكأن شيئًا قد سُحب من داخلي. فقدت توازني وسقطت، صوت ارتطامي بالأرض كان كصفعة في الصمت، وصداه تردد في الغرفة.
“أوريانا!”
كان صوت ليونارد، يختنق بالقلق، وهو يركض نحوي بخطوات سريعة.
حاولت تحريك ساقي… لكن بلا جدوى.
ما الذي يجري…؟ لماذا لا أستطيع النهوض؟
وضعت يدي على الأرض، دفعت بجسدي محاولة النهوض، لكن ثقله كان أشبه بثقل جبل على صدري. بقيت ساقاي جامدتين تمامًا، بلا استجابة، وكأنهما صارتا حجرين.
انحنى شعري الطويل إلى الأمام، تساقطت خصلاته على الأرض كستار معتم أمام عيني، حاجبًا وجهي عنهم. كنت أتنفس ببطء، لكن قلبي ينبض بعنف.
وفجأة… من جانب بصري الأيسر، اخترق المشهد وميض أزرق باهت. رفعت رأسي قليلًا، وأزحت خصلات شعري جانبًا لأرى مصدره. من بين خصلات شعري المتساقطة على الأرض، اخترق بصري وميض أزرق أضاء طرف الغرفة بخفوت، كأنه نبض قلب يلمع وسط الظلام. رفعت رأسي قليلًا، وعيني تلتقط ذلك المشهد الغريب.
هناك، أمامي مباشرة في الهواء، ظهرت نافذة ضوئية شفافة، حوافها تلمع بخطوط زرقاء متحركة كتيارات ماء مضيئة. الكلمات كانت واضحة، محفورة كالنقش على الزجاج:
يرجى تحميل ملفات المعلومات لقوة “أمستارا”
وتحتها مباشرة… كانت كلمة واحدة تتوهج بإغراء، وكأنها تنتظر لمسة أصابعي:
تحميل
شعرت ببرودة غامرة تسري في أطرافي، وارتجاف خفيف يطرق أصابعي. قوة… أمستارا؟ ما هذا؟ وما الذي يحدث لي؟ أحسست وكأن الهواء من حولي أصبح أثقل، والوقت بدأ يتباطأ، وصوت دقات قلبي يعلو في أذني.
— “أوريانا… هل أنتِ بخير؟”
صوت ليونارد اخترق شرودي، دافئ لكنه مشدود بالقلق. التفت برأسي ببطء، لأجده قد اقترب مني حتى صارت ظلاله تغطي الضوء الأزرق. عيناه كانتا تفتشان وجهي بقلق صادق، وحاجباه مقطبان، وأنفاسه متلاحقة قليلًا من سرعة حركته نحوي.
لم أرفع بصري نحوه حتى، وكأن كلماته تذوب في الهواء قبل أن تصل إلي. مدت يدي إلى حافة السرير، أصابعي تنغرز في الخشب، أجر جسدي إلى الأعلى ببطء، كل عضلة في ساقي تصرخ بالرفض.
“أوريانا… أعطني يدك، سأساعدك.”
صوته كان أكثر إلحاحًا، لكنني تجاهلته تمامًا، مستمرة في سحبي لنفسي حتى وقفت أخيرًا، أو بالأحرى… توازنت بصعوبة، ثم عدت للسرير وكأنني نجوت من هاوية.
حين استقرت قدماي على الفراش، شعرت بظل ليونارد يقترب أكثر، يده التي كان يمدها إليّ قبل قليل انخفضت ببطء، لكن قبضته اشتدت فجأة، وملامحه تحولت إلى قتام صامت. عيناه فقدتا ذلك البريق الدافئ، واستبدلتهما ببرود ثقيل.
التفت إلى الطبيب الذي كان ينتظر قرب الباب:
“أيها الطبيب، قم بفحصها فورًا… أريد أن أعرف لماذا لا تستطيع التحرك.”
هززت رأسي بقوة، نبرتي قاطعة:
“لا، شكرًا لك… لا أريد أي فحص.”
رفع حاجبيه بدهشة، صوته ارتفع قليلًا:
“ماذا؟! هل جننتِ؟”
ضحكة قصيرة ساخرة انطلقت من أوسكار، نبرته لاذعة:
“أرأيت؟ قلت لك إنها كانت تمثل… ولهذا لا تريد الفحص.”
التفت ليونارد نحوه فجأة، صوته حاد:
“أوسكار، توقف عن الكلام. أنا أتحدث مع أوريانا، لا تتدخل.”
ثم عاد ينظر إليّ، محاولًا إعادة نبرته الهادئة:
“أوريانا… أنت متعبة. يجب أن يفحصك الطبيب. ثم… أنتِ للتو سقطتِ على الأرض.”
ابتسمت بسخرية باردة، وكلماتي خرجت كصفعة:
“هل يمكنك التوقف عن تمثيل القلق؟”
تجمد في مكانه، عيناه تضيقان قليلًا:
“ماذا؟”
أكملت، صوتي ثابت، كل كلمة تنزل بثقل:
“أعلم أن هذه مسرحية أعددتماها أنت وأوسكار… لتظهرا أنني الشريرة التي تثير المشاكل للجميع، وتفتعل الفتنة بينكما.”
هز رأسه ببطء، وكأن كلامي أصابه في مقتل:
“أوريانا… هذا غير صحيح. أنا فعلاً قلق عليكِ.”
لم أعلق، فقط أمسكت بملاءة السرير، تمددت ببطء حتى استقر جسدي بالكامل فوق الفراش، ثم سحبت القماش لأغطي جسدي كله، تاركة وجهي موجهًا نحو الجدار البعيد.
“إن كنتَ قلقًا حقًا… فاخرج من هنا. وأخرج الجميع معك.”
ظل يحدق بي للحظات، قبضته على جانبه اشتدت حتى ابيضت مفاصله، وعضّ شفته السفلى. ثم، بصوت منخفض وكأنه يبتلع مرارة ما:
“حسنًا… كما تريدين، أوريانا. ليخرج الجميع.”
لم ألتفت لأرى إن كانوا خرجوا أم لا. وضعت يدي على أذني، أغلقت عيني، وتركت كل شيء خلفي. لبضع دقائق… لم أعد أعرف إن كانت الغرفة قد خلت أم بقيت مزدحمة بالأنفاس. كل ما كان يهمني هو الصمت الذي ابتلع كل الأصوات، الصمت الذي شعرت أنه يلتف حولي مثل بطانية باردة.
وحين فتحت عيني أخيرًا، ألقيت نظرة سريعة حولي. الغرفة كانت فارغة. زفرت ببطء، وكأن عبئًا انزاح عن صدري. جيد… هذا أفضل.
مرّ أسبوع كامل بعد ذلك. أسبوع من العزلة الثقيلة، لم يتغير فيه شيء سوى أن ليونارد كان يأتي كل يوم، في نفس التوقيت تقريبًا، ويطرق على الباب ثلاث طرقات متتابعة. لم أفتح له مرة واحدة، ولم أسمح له بالدخول.
لكن المزعج… أنه لم يمل. سمعت من الخادمة التي كانت تجلب لي الطعام أنه كان يبقى واقفًا أمام الباب حتى يحل المساء، وكأنه يحرس صمتي. لم أكن أرى في ذلك إلا محاولة منه لترسيخ صورتي كـ الأخت الشريرة التي ترفض أخاها، وهذا لم يكن يهمني. خلال هذا الأسبوع… لم أستطع الوقوف على قدمي ولو مرة واحدة. عقدت يدي على صدري، محاولةً كتم ذلك الإحساس الثقيل الذي يلازمني، لكن ثمة أمر آخر أخذ يزعجني أكثر من العجز نفسه.
فجأة، كما في المرة السابقة، شق الظلام وميض أزرق هادئ، لتظهر أمامي من جديد تلك النافذة الشفافة المعلّقة في الهواء. نفس الإطار المضيء، نفس الحواف اللامعة بخيوط زرقاء تتحرك كأنها ماء حيّ… ونفس الجملة التي صارت تطاردني:
يرجى تحميل ملفات المعلومات لقوة “أمستارا”
كانت الكلمات تتوهج بهدوء، وكأنها تتحداني أن أمد يدي وأضغط على الزر الذي يلمع أسفلها.
أطبقت شفتي بقوة، نظري مثبت على تلك الكلمات التي لا تشرح شيئًا. تحميل؟ قوة أمستارا؟ لا أريد أن أضغط عليها بتهور… فقد يحدث ما لا يمكن التراجع عنه.
لكن النافذة اللعينة تظل هناك، بلا أي توضيحات، وكأنها تستمتع بإغراقي في الحيرة.
وقبل أن أقرر صرف نظري، قطع الصمت صوت عجلات عربة قادمة من بعيد. التفتت برأسي نحو النافذة الحقيقية بجانب سريري، أزحت الستار قليلًا، فرأيت العربة تقترب من بوابة القصر. عرفتها فورًا… شعارها وخطوطها المذهبة تخص الدوقية.
وما إن توقفت حتى رأيت الباب يُفتح، ونزل منه الدوق نفسه. أخيرًا جاء؟
كنت قد بدأت أتعجب فعلًا من غيابه طوال هذا الأسبوع، حتى سألت إحدى الخادمات عنه فأجابتني ببرود:
“سيدي الدوق في رحلة عمل.”
مذهل… ابنتك في غيبوبة، مريضة، عاجزة عن الحركة… وأنت في رحلة عمل. لكن، وبصراحة، لم يكن الأمر صادمًا بالنسبة لي. لقد توقفت منذ زمن عن توقع أي شيء من أحد.
دخل الدوق إلى القصر، وغاب عن ناظري. لم تمر سوى ثوانٍ حتى سمعت ارتطامًا حادًا بمقبض الباب، دفعه أحدهم بعنف، ثم فُتح على مصراعيه. خطوات ثقيلة سريعة اخترقت الغرفة، وصوت جهوري ارتفع باسمي:
“أوريانا!” دخل الدوق بخطوات ثابتة، شعره الأزرق الداكن يتماوج مع كل حركة، وعيناه الحمراوان تشعان بحدة لم أفكر في تفسيرها. لم أكلف نفسي عناء التدقيق في ملامحه، ولم أرغب حتى في النظر طويلًا إليه…
رائع… سأرى والدي في هذا العالم من جديد. لكن التساؤل الذي دار في ذهني كان مرًّا: هل سيصفعني كما فعل والدي في عالمي السابق؟ أم سيتهمني بالتمثيل ببرود وجفاء؟
لم تتح لي الفرصة لاستكمال أفكاري. في لحظة، كان أمامي تمامًا. خطواته الأخيرة كانت سريعة لدرجة أنني لم ألحظها إلا حين شعرت بظله يغمرني، ثم انحنى فجأة، وأحاطني بذراعيه في عناق مفاجئ… قوي… ودافئ.
ذلك الدفء كان غريبًا عليّ، ينساب في عروقي ببطء، يذكرني بشيء كنت قد فقدته منذ زمن بعيد… بشيء يشبه حضن أمي. حرارة جسده كانت حقيقية، حاضرة، كأنها تحاول إذابة الجدار البارد الذي أحطت به نفسي لسنوات.
صوته ارتجف وهو يكرر اسمي، وكأن الكلمات تثقل على لسانه لكنها أيضًا تنفجر من قلبه:
“أوريانا… أوريانا…”
شعرت بارتعاش خفيف في ذراعيه، وكأنه يخشى أن أختفي من بين يديه لو تراخى ولو قليلًا. تجمدت للحظات، عقلي يضج بالأسئلة، وعيني ترفضان الإغماض خوفًا من أن أجد الأمر كله وهمًا.
ما الذي يحدث؟ لماذا يحتضنني هكذا… وكأنه فقدني منذ زمن؟ ولماذا يرتجف كطفل تائه وجد أخيرًا بيته؟
أخذت نفسًا حذرًا، وحاولت أن أحرر بعض المسافة بيننا، ثم خرج صوتي مرتعشًا، مترددًا، وكأنني أخشى كسر تلك اللحظة:
“سيدي… الدوق؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 35"
انا عايزه اسأل سوال هو البطل هو الساحر الي ليونارد جابه عشان يبطل تعويذة الاخفاء