ربّتت فيكتوريا على رأس أوسكار ببطء متعمّد، أصابعها تنزلق بين خصلات شعره الازرق وكأنها تراقب صدى كل لمسة داخل جسده المجمَّد. كانت نظراتها ثابتة، شفتيها معقودتين في شبه ابتسامة ساخرة لا تشبه الحنان بأي شكل، بل أشبه بمخلوق يُراقب لعبته تنكسر تحت يديه.
فتحت راحة يدها بهدوء قاتل.
وفجأة، انبثق منها ضوءٌ سحري أسود، مستقيم كالسهم، حيّ كأن له عقل وروح. بدأ الضوء يتمايل ببطء، ثم راح يلتفّ حول أوسكار، كأنّه يقيسه… يبتلعه… يقيّده من الداخل قبل الخارج. كان الضوء بلا حرارة، لكنه يبعث على القشعريرة، وكأنّه يحمل داخله صرخات الأرواح التي التهمها من قبل.
– أترى هذا، يا أوسكار؟ قالتها بصوتٍ ناعم، لكنه محشوّ بقسوة متوحشة.
– سأقول لك شيئًا… هل تعرف أسطورة الساحرة التي كانت تمتص أرواح البشر؟
تقدّمت خطوة واحدة. الظلال تسير خلفها كأنها تابعة لها. عينها اليسرى ارتعشت بلمعة شريرة.
– تلك التي إن وجدت للروح فائدة… جمّدتها في دمها. وإن لم تجد… قتلتها.
رفعت ذقنه بإصبعٍ واحد، أجبرته أن ينظر لعينيها.
– نسيت، أليس كذلك؟
ضحكت. ضحكة قصيرة، مكسورة في منتصفها، لا تحمل فرحًا بل استهزاءً خامدًا.
– طبعًا نسيت. لأنك… لا تحمل روحك.
صمتت لحظة، ثم مالت برأسها، وقالت بهمس خانق:
– أنا من ختم روحك بيدي. أنا من نزعتك من نفسك. أنا من دسست داخلك روحًا… اصطناعية. دمية. نسخة صنعتها خصيصًا لك، لتتحرّك كما أشاء، وتتنفّس بإذني، وتصمت عندما أطلب.
اعتدلت في وقفتها، ثم انخفضت قليلًا، ووضعت يديها على ركبتيها، لتقترب من مستوى عينيه، تراقب ملامحه كأنها تنتظر انكسارًا جديدًا.
– أفهمت الآن؟ أفهمت ما حدث معك؟
عيناه ظلّتا جامدتين، لكن انفراجة بسيطة في أنفاسه فضحت اضطرابه. كأنّ شيئًا في الداخل بدأ يهتز.
– والآن، ننتقل إلى السؤال الأهم…
تجمد الجوّ لحظة، قبل أن تتابع بصوت مفعم بالفضول المشوّه:
– ما الذي جعلك تنسى كل شيء عن ماضيك؟ أو لأكون أكثر دقّة… ما الذي جعلك تتحرك فجأة دون أمري؟ من منحك الجرأة على كسر خيوطي؟
صوتها صار أكثر ثقلًا، مزيج من غضب هادئ ودهشة لم تعترف بها بعد.
– الإجابة بسيطة جدًا.
– منذ أن رأيت أختك العزيزة تنهار…
كلماتها تقطّعت، لا من التردد، بل لتجعل كل كلمة تسقط كسكّين منفصل.
– الدم… الألم… حالتها…
اقتربت خطوة أخرى، وهمست بجانب أذنه:
– تلك اللحظة تحديدًا، جعلتك تجن. جعلت بقايا روحك… تبدأ بالتمرد. رفعت يديها إلى صدره، ثم قبضت على الفراغ أمامه، وكأنها تمسك بقلبه المحترق:
– روحك الأصلية… التي ختمتها، بدأت تصرخ داخلك. تضرب، تتلوّى، تمزق. كانت معركة داخل جسدك، وأنت… فزت.
– تمكّنت من كسر الروح التي زرعتها. لا كليًا… لكن بما يكفي لتظهر أنت من تحت الرماد. ولهذا… لا تتذكّر كل شيء بعد. الذكريات… متناثرة. نصفها مدفون، والنصف الآخر… يصرخ.
وقفت، سحبت يدها للخلف ببطء، وكأنها ندمت على القرب.
صمت ثقيل سقط بينهما. ثم قالت بنبرة باردة لكن مضطربة:
– عليّ أن أعترف.
اتسعت عيناها قليلاً، لا خوفًا… بل انزعاجًا من نفسها.
– حبك لأختك… تجاوز كل حساباتي. لقد قاتلتني… من أجلها.
ابتلعت ريقها، والتفتت عنه لحظة، كأن عينيه تحرقانها.
– صدقك نحوها… كان أقوى من سحري. أقوى من لعنتي.
– أنت أول من كسر دميتي. أول من خرج من تحت ظلي. أول من… خذلني.
تراجعت خطوة للخلف، ووجهها لم يعد يحمل الغرور ذاته. بل… شيء آخر. مزيج من الارتباك والخوف المغطّى بالغضب.
– تحبها، يا أوسكار. بصدق. لدرجة أنك واجهتني… ونجوت. لوّحت فيكتوريا بيديها في الهواء ببطء، وكأنها تزيح غبارًا لا يُرى. كان جسدها مستقيمًا، عنقها مرفوعًا، عيناها نصف مغمضتين كمن يملك مفاتيح الموت بين أصابعه.
قالت بصوت هادئ، لكنه كالسّم البارد يتسلل إلى العظم:
– حسنًا… هذا لا يهم. – لا يهم إن كنت تحبها، أو تموت لأجلها… في النهاية، أنا لا أطلب حبكم. لم أطلبه يومًا.
اتسعت ابتسامتها، لكنها لم تكن ابتسامة حقيقية… كانت ابتسامة مكسورة بشيء لا يشعر إلا بالكراهية.
– في النهاية، سأقضي عليكم جميعًا… حتى هي. أختك.
ارتجف وجه أوسكار. قبض على كفيه بقوة، أظافره انغرست في جلده، وعيناه اشتعلتا بنار لا يستطيع تفريغها. خطا خطوة نحوها، جسده يئن من الألم الداخلي، لكنه تحدّث بصوت مرتجف:
– أقسم… أقسم أني سأفضحك! سأجعل الجميع يعرف حقيقتك… سأجعلك تندمين، فيكتوريا!
لكن… فجأة، وبدون سابق إنذار… انزلقت دمعتان من عينيها.
سقطتا بهدوء على وجنتيها الباردتين، كأن الزمن توقف لأجلهما. حدّق بها أوسكار بذهول… جسده تشنج، وتعبير وجهه تغير من الغضب إلى الحيرة… إلى شك موجع.
– لا… لا تشي بي… همست كأن صوتها يخرج من أعماق روحها المحطمة.
– كنت مضطرة… صدقني… لم أكن أملك خيارًا.
هزت رأسها ببطء، كأنها تُكلم نفسها أكثر مما تُكلمه، وعيناها ترجفان بصدق كاذب متقن. للحظة، ارتخت ملامح أوسكار… شيء فيه أراد أن يصدقها، أو أراد أن يرى في قلبها بقية إنسانية.
لكنها فجأة… رفعت إصبعها ببطء، وضعت طرفه تحت عينها، جمعت إحدى الدموع…
ثم نظرت لها بثقل، ونفختها في الهواء ببرود… وكأنها لا تعني شيئًا.
ابتسمت، وأغمضت عينيها للحظة قصيرة، وكأنها تذوقت انتصارًا داخليًا. – حسنًا… هذا لا يهمني بتاتًا.
فتحت عينيها ببطء، نظرتها باتت أكثر عمقًا، أشد ظلمة. – في النهاية، سأختم روحك من جديد… الآن.
رفعت كفّها أمام صدره، وضوء أسود بدأ يتكثف في راحة يدها، يتلوى كدخان حارق.
– ولن تتذكر شيئًا من هذه المحادثة… لأنها لم تُقل لروحك الكاملة، بل لجزءٍ منها. قطعة صغيرة بالكاد تتنفس.
– وحتى إن حدث… وتذكرت… فسأقتلك. ببساطة. بدون ندم.
خطت نحوه أكثر، حتى لم يعد بينهما سوى نفس حارق، وهمست وكأنها تخبره بسرّ قاتل:
– أنا لا أبقيك حيًّا بدافع الشفقة، بل لأنك… مفيد.
– لكن عندما تنتهي فائدتك، سأقطعك… بلا رحمة.
ثم ضيّقت عينيها، وانحنت نحوه قليلًا، كمن يخبره بالصفعة الأخيرة:
– وعندما يحدث… سألصق كل شيء بها.
– أوريانا…
– سأجعلها تبدو أمام الجميع اشتد ضوء السحر الأسود حول أوسكار، كشعلة جحيمية راح وهجها يبتلع جسده ببطء، كأنها تقيده بأغلال لا تُرى، وتخنقه من الداخل.
انكمش جسده من شدة الضغط، ولكن عينيه ظلتا ثابتتين، تنظران مباشرة إلى فيكتوريا… تلك النظرة لم تكن مجرد غضب، بل كانت مزيجًا من الخذلان والكره، واللوم الصامت.
لاحظت فيكتوريا تلك النظرة، فمالت برأسها قليلاً، وابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيها، لكن عينيها كانتا باردتين كليًّا. اقتربت بخطوات واثقة، ثم قالت بصوت منخفض كأنها تقطع فيه كل خيط تعاطف:
– لا تنظر إليّ بتلك النظرة يا أوسكار… لا تلمني وكأنك البريء الوحيد.
– في الواقع… أنت المخطئ.
رفعت يدها قليلًا، وكأنها تزن الحقيقة في الهواء، ثم أضافت ببطء، كل كلمة منها تحمل طعنة:
– جميع أفراد عائلتكم… لم يقتربوا مني. ليونارد؟ كان يُهددني كلما سنحت له الفرصة، أبعدني عنه تمامًا، لم يتحمل حتى وجودي في نفس الغرفة. أمك؟ كانت تتجنبني بصمت، لم تؤذِني… لكنها لم تنظر لي يومًا كابنة حقيقية. والدك؟ آه، كان طيبًا، رقيق القلب، عاملني كواحدة من أولاده… لكنه لم يحبني أبدًا، ولم يشعر بالراحة بقربي.
– وكلما حاولت أن أختم روحه، أن أسيطر عليه… كان شيء بداخله – حبّه لابنته، روحه النقية – يتغلب عليّ، يدفعني بعيدًا.
سكتت لحظة، عيناها علقتا في عيني أوسكار. ثم اقتربت أكثر، انخفضت بجسدها قليلاً حتى أصبحت وجهاً لوجه معه، وقالت بصوت أشد هدوءًا… وأكثر قسوة:
– لكنك أنت… – أنت، بطبعك الطيب… بهدوئك… برغبتك الدائمة في أن تجمع شمل عائلتك…
– أجبرت نفسك على الاقتراب مني.
– حاولت أن ترى فيّ شيئًا جيّدًا… حاولت أن تجعلني “جزءًا” منكم، عنوة.
– وهذا… يا أوسكار، ما فتح لي الطريق.
– ببطء… بخطوة وراء الأخرى… دخلت إلى روحك… وبدأت أختمها.
رفعت يدها، وأشارت بإصبعها إلى قلبه دون أن تلمسه، كأنها تشير إلى ما سكنه دون علمه.
– لذا… لا يوجد بيننا “أحقاد”، لا يوجد “ظلم” وقع عليك.
– إن كان هناك أحد يجب أن يُلام… فهو أنت.
– أنت من أعطاني المفتاح… بيدك.
“الآن… إلى اللقاء.” نطقتها فيكتوريا بصوت ناعم، لكنه ممتلئ بقسوة خفية، كمن يُسدِل الستار على فصل أخير من مسرحية لم يُرِد أحد أن يعيشها.
اشتدّ السواد السحري حول أوسكار، يضيق عليه شيئًا فشيئًا كأفعى تلتفّ على جسد فريستها. بدأت أطرافه ترتجف، وعضلات وجهه تنقبض بانفعال صامت. نظراته العاجزة تعلقت بها للحظات، وداخل عينيه اشتعل سؤال لم يُنطق: “لماذا؟”
فيكتوريا لم تتزحزح. كانت واقفة تنظر إليه بنظرة محايدة، بلا شفقة، بلا رحمة. وفجأة، وقبل أن يختفي وعيه تمامًا، لفظ أوسكار أنفاسًا ضحلة، كأن قلبه يُحاول التمسك بآخر لحظة من الإدراك… ثم غرق.
ساد الصمت… واختفى السحر. لم يتبقَ إلا جسده مُلقى على الأرض، ساكن، كما لو كان دمية أُسقِطت بعد انتهاء دورها.
فيكتوريا تحركت نحوه بخطى بطيئة، وحين وصلت بجانبه، انحنت على ركبتيها بجانبه. وجهها تغيّر… كما لو أنها ارتدت قناعًا جديدًا؛ العيون الناعسة، الشفتان المرتخيتان، نبرة اللطف التي تدعي القلق.
– أوسكار… أوسكار، استيقظ، ما الذي تفعله هنا على الأرض؟
أجفانه تحركت، كأنها تثقلها سلاسل خفية. ثم فتح عينيه ببطء، بعينين شاردتين، كأن ذاكرته تائهة وسط ضباب كثيف.
– فـ… فيكتوريا؟ ما الذي يحدث…؟
ابتسمت له، ابتسامة صغيرة تلامس الحزن المصطنع، ووضعت يدها بخفة على كتفه.
– لا أعلم، وجدتُك هنا ممددًا، ظننتك فقدت وعيك… كنتُ قلقة عليك.
رفع يده ببطء، ووضعها على جانب رأسه وهو يتأوّه.
– آخ… رأسي… كأن أحدهم طرقه بمطرقة… لا أتذكر… لماذا كنتُ نائمًا على الأرض؟
أمالت رأسها قليلًا، والابتسامة اللطيفة لا تزال مرسومة، وكأنها تُخفي خنجراً خلفها.
– ربما بسبب التعب، أو التوتر… ربما كنت تحلم… أو ربما… لا شيء.
صمتَ لوهلة، ثم جلس ببطء، وتطلع نحوها بشك خفيف. لكنه لم يقل شيئًا. قطّب حاجبيه وغمغم:
– هل… هل هناك شيء؟ هل جئتِ لأجل أمر ما؟
أجابت بهدوء، وهي تُزيح خصلات شعرها خلف أذنها:
– في الحقيقة… أردت فقط أن أخبرك… أن أوريانا قد استيقظت.
ارتفع حاجباه فجأة، وشحبت ملامحه للحظة، ثم انقلبت سريعًا إلى الغضب. قبض على يده، ونهض واقفًا بقوة، كأن شيئًا انفجر في صدره.
– ماذا؟ تلك الفتاة؟! كنت أعلم أنها تمثّل! كل هذا مجرد عرض لتجذب الانتباه، لتكسب الشفقة… هي من آذت نفسها، أنا متأكد! أقسم أني سـأجعلها تندم على ما فعلته.
انحنى والتقط سترته من الأرض، ارتداها بعصبية، عينيه مشتعلتان بالغضب. خطا باتجاه الباب، وفي اللحظة التي مر فيها بجانب فيكتوريا، لم يلتفت. فتح الباب بعنف، وخرج بخطى سريعة وغاضبة.
أما هي… فظلت واقفة مكانها، تتبع خطواته الغاضبة بنظرة جامدة، باردة كليلة شتوية لا تحمل ذرة دفء. عيناها نصف مغمضتين، كأنها تتذوق انتصارًا صغيرًا بنكهة خبيثة. ثم أغمضت عينيها بالكامل للحظة، وزفير هادئ خرج من صدرها… ابتسامة دقيقة تشكلت على طرف شفتيها، ابتسامة من يعرف أنه زرع شرارة في قلب من ظن أنه لن يشتعل أبدًا.
– رائع… تمتمت بها بهمس، ناعم كالفخ، قاتل كالسم.
فتحت عينيها ببطء، وراحت تمشي بخطى رشيقة نحو النافذة. وقفت أمامها، وذراعاها متشابكتان خلف ظهرها، تنظر إلى السماء بلونها الرمادي الثقيل، كأنها ترى ما بعد الغيوم.
– لقد عاد كما كان… أوسكار الحقيقي. البارد، الحاد، العصبي… ذلك الذي لا يؤمن بالعاطفة ولا يسمح لأحد بالاقتراب من قلبه. أما ذلك الآخر… أوسكار اللطيف، الهادئ، الذي يهتم بشقيقته كأحمق… لقد اختفى. خطتي تسير كما أردت… تقريبًا.
سكتت، وعيناها تشعان بتركيز قاتم، ثم رفعت يدها اليمنى ببطء. ضمّت سبابتها إلى شفتيها برفق، وضغطت عليها بخفة، كمن يُنذر العالم بالصمت.
– لكن… هناك اثنان يُفسدان كل شيء. ليونارد… وأوريانا.
عيناها لمعتا حين نطقت اسميهما، كأنها تلوك حروفهما بين أسنانها. ابتسامة جديدة تشكلت، أوسع من سابقتها، لكنها تحمل طابعًا أكثر ظلمة، ثم مالت برأسها إلى الجانب، وصوتها انخفض حتى صار أشبه بهمس شيطاني:
– لا بأس… سأتخلّص من ليونارد، كما تخلصت من غيره. سأقتل أمه أولاً ثم هو … وسأُلبس الجريمة لأوريانا. عصفوران بحجرٍ واحد…
أغلقت عينيها من جديد، ولفّت جسدها بخفة، ثم مشت نحو الظلال التي تغمر طرف الغرفة، وكأن الظلام ذاته ينحني ليمهد لها الطريق. كل خطوة كانت خفيفة، لكن الأرض تحتها شعرت بثقل نواياها. وفي قلب ذلك الهدوء… لم يبقَ إلا همسها، يذوب في العدم: – قريبًا… ستنتهي اللعبة. وستُفتح الستارة… على النهاية التي لا يتوقعها أحد.
قالتها فيكتوريا بصوت خافت، بينما يتلاشى صداها مع خطواتها السريعة وهي تندفع خلف أوسكار. رداؤها الطويل يلامس الأرض بخفة، شعرها يتراقص خلفها في انسيابية ناعمة، لكن في عينيها… كان هناك تيقّظ شيطاني، كأنها صيّادة تراقب فريستها وهي تغلي غضبًا دون أن تدري أنها تسير في فخ مُحكم.
في الأمام، كان أوسكار يخطو بخطوات سريعة، حادة، كأن الأرض تعاقب تحت قدميه. وجهه متجهم، وعيناه مشدودتان إلى الأمام، كأن كل ما حوله اختفى. الهدوء الذي كان يحيط به سابقًا اختفى… لم يعد ذلك الأخ الهادئ، الحامي، المليء بالحيرة. كان الآن نارًا هادئة تسير على قدمين.
قبضت يداه بقوة حتى ارتجفتا، وصوته خرج مشبعًا بالغضب والخذلان، وكأنه يهمس لذاته، لكنه في الحقيقة كان يفرغ شيئًا أثقل من أن يُحتمل:
– أقسم… أقسم أني سأجعلك تندمين على كل شيء تفعلينه يا أوريانا.
عينيه لمعتا بحدة، ليس لأنهما فقدتا الشك… بل لأنهما صدّقتا كذبة مُتقنة. كذبة حاكتها يد تعرف أين تضرب، وكيف تنزع الحب من جذوره.
وراءه، لم تتوقف فيكتوريا. كانت تسير بخفة، وتبتسم ابتسامة خفية. لم تكن بحاجة للكلمات بعد الآن…
المسرح تحرّك، والممثلون خرجوا إلى خشبته، أما هي… فكانت الكاتبة، والمخرجة، والمُصفّقة في النهاية.
كان الانفجار أول من دخل الغرفة. بابي الذي ظل مغلقًا، أصبح الآن حطامًا يتأرجح على مفصّلاته… اندفع أوسكار كعاصفة هوجاء، عينيه تضجّان ببرقٍ لا يرحم، وملامحه تحمل كل شيء إلا الرحمة.
رفعتُ نظري إليه. نظرة واحدة… كانت كافية لتسكن العاصفة داخلي، لا خارجي. نظرت إليه كمن يشاهد مشهدًا تافهًا في مسرحية مكررة، دون أن يرمش.
لم أتحرك. لم أفتح فمي. حتى يدي، لم ترتجف.
فيكتوريا لحقت به، بخطى مدروسة، مدّعية الذعر. وضعت يدها على ذراعه، كأنها تحاول منعه، بينما الحقيقة… أنها تحرّضه كل مرة، ثم تتقن دور الملاك أمام الآخرين.
أوسكار لم يرد. فقط بقي واقفًا على عتبة الغرفة، كأن دخوله إليها خطيئة يُعاقَب عليها بالتردد. كان قلبه يطرق صدره، لكن لسببٍ ما، اختار أن يفرغه كله عليّ.
ظهر الطبيب من جواري، يحاول الحفاظ على ما تبقى من وقاره، وقد خذلته رجلاه أمام هذا المشهد. قال بصوت مرتجف، وكأنه يستجدي الرحمة: — “سيد أوسكار… رجاءً، الهدوء. الآنسة أوريانا حالتها غير مستقرة.”
لكن أوسكار… لم يسمع شيئًا. أو ربما سمع… واختار ألا يفهم.
— “مريضة؟… فعلًا؟ هل وصل بكِ التمثيل إلى هذا الحد؟ هل أقنعتِ حتى الطبيب؟ أم أنكِ… اشتريتِه أيضًا؟”
كان كلامه كخناجر، لكنها لم تخترقني. لا لضعفها… بل لأن جسدي لم يعد يشعر. ربما لأن روحي… سئمت الألم.
أخفضت نظري، لا هروبًا، بل اختناقًا. ماذا كنت أتوقع؟ هل حقًا ظننتُ أن وجوههم ستختلف؟ أن هذا العالم الجديد سينصفني فقط لأنني لم أعد “بين سوه”؟ ساذجة.
رفعت رأسي من جديد. أنظر إليه، بثبات… ببرود مميت. كأن نظرتي تصفعه دون أن تلمسه.
“في النهاية… أنا المخطئة، دائمًا. سواء نمتُ على الأرض من ألمٍ، أو وقفتُ بقوة… سواء بكيتُ… أو صمتُّ… أنا الملامة. فلماذا أهتم؟” الطبيب الذي كان بجواري ارتجف بشدة، كأن البرودة تسللت إلى عظامه. يده التي كانت تمسك برسغي منذ لحظات انسحبت فجأة كأنها لامست لهبًا، واتسعت عيناه بتوترٍ واضح، ثم انخفضت بسرعة إلى الأرض، يتجنب النظر في وجوهنا جميعًا.
صوت أوسكار اخترق صمت الغرفة كالسهم: — “ماذا؟ لماذا لا تتكلم الآن؟ أأكل القط لسانك؟… أليس ما قلته صحيحًا؟”
كانت نبرته قاسية… تنقّط سخريةً واحتقارًا، وعيناه تشتعلان غضبًا متجمّدًا، كأن ثلجًا ونارًا اجتمعا في صدره دون أن يذوبا.
الطبيب بلع ريقه، كتفاه تهدّلا، وفمه تحرك كأنه يريد أن ينطق بشيء، لكنه عاجز… لا صوت خرج، فقط صمته المذعور كان أبلغ من أي تبرير.
أما أنا… فلم أحرك ساكنًا.
ظللتُ جالسة في مكاني، صامتة. عيناي لم تتحركا، ملامحي ثابتة كقناعٍ حجري. لا ضيق… لا حزن… لا دفاع.
فقط برودٌ مطلق.
إن كرهني، فليكره. إن اتهمني، فليفعل.
لستُ مدينة لأحدٍ بأي شرح.
ليونارد كان إلى جانبي، يجلس بصمت على طرف السرير، يداه متشابكتان في حجره، وجهه مائل قليلًا للأسفل كأنما يتأمل الأرض. لكن فجأة… دون أي إنذار، نهض.
نهض بحركة بطيئة، لكنها كانت مشحونة بطاقةٍ غريبة، كأنها تحمل خلفها سنوات من الصمت المختنق.
لم أرَ وجهه… لم أرَ عينيه… لكن… شعرت.
شعرت بذلك الثقل الذي نزل فجأة على الغرفة، ثقيلًا كأنه يشقّ الهواء نفسه.
مددتُ يدي ببطء وغطّيت عيني. ثم… ابتسمت.
ابتسامة صغيرة، مريرة، لا تحمل إلا قهرًا مغطى بالسخرية. — “يبدو أني سأرى يونجون وهاجون هنا أيضًا…” همست لنفسي، والابتسامة لا تزال معلقة على شفتيّ. — “المشهد يعاد من جديد، بنصه، بألمه، بنهايته المعروفة سلفًا.”
— “سيقف بجانبه. كالعادة.”
بهدوء… خللت أصابعي بين خصلات شعري لأكشف عن عينيّ. أردت أن أرى اللحظة… حتى لو كانت تكرر وجعًا قديمًا.
ليونارد… اقترب من أوسكار.
كانت خطواته بطيئة… ثابتة… كل خطوة منه كانت كأنها توقظ شيئًا نائمًا في المكان.
أوسكار، الذي كان ما يزال واقفًا في منتصف الغرفة، التفت نحوه ببطء. بين حاجبيه تجعّدت خطوط الغضب، وحدقتاه اشتدتا.
لكن قبل أن ينطق أحد بكلمة…
— “بَـــــــــــاك!”
صفعة.
صفعة ليست فقط في صوتها، بل في صمتها الذي تبعها.
صفعة دوّت في الجدران، ارتد صداها في أذنيّ، كأنها كسرت شيئًا أعمق من عظام.
جسده اهتزّ… ووجهه مال جانبًا تحت قوة الصفعة. شعره الأزرق تبعثر، وصدره ارتفع فجأة بذهولٍ صامت.
أزلت يدي عن عيني.
رأيت ليونارد.
رأيت وجهه المشدود، أنفاسه الثقيلة، ويديه المرتجفتين من شدة التوتر. عينيه… كانتا تتلألأن بغضبٍ نقيّ، نادر، لا يُرى إلا مرة واحدة في العمر.
— “كنت أظنك أحمق فقط…” قالها من بين أسنانه، كل كلمة خرجت كأنها طلقة. — “لكن الآن… الآن أنا متأكد أنك مجنون تمامًا.”
أوسكار لم يرد… فقط وقف في مكانه، غير قادر على تصديق ما حدث. يده ارتفعت ببطء تلمس خده المحمّر، وذقنه يرتجف في صمت.
فيكتوريا… كانت واقفة خلفه، وقد وضعت يدها على فمها من الصدمة، ووجهها شاحب، تنظر من ليونارد لأوسكار وكأن عقلها لا يستطيع أن يربط المشهد ببعضه.
أما أنا…
كنت مصدومة. بعمق.
صدري توقف عن الحركة للحظة، وعيناي اتسعتا، وقلبي… قلبي كأن أحدهم أمسكه بيده وضغطه بقوة.
— “هاه؟ ما الذي… يحدث؟ هل رأيت ما رأيت؟ هل ليونارد… ليونارد الهادئ، اللطيف… قام للتو بصفع أوسكار؟”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
هذا احلا مشهد بالروايه حبيته اوي