ابتسمتُ… ابتسامة ساخرة، مريرة، كأنها طُعنة عكسية ترتد إلى صدري لكنها تخرج عبر شفتي.
“أتعلمين؟ رغم أن هذا… غريب. مقزز. يثير في النفس كل شعور مَرَضي من الاشمئزاز والغثيان…” سكتُّ لحظة، عينيّ تنظران في فراغ كأنه مرآة مشروخة، “إلا أني… لستُ مستغربة.”
نظرتُ إليها مجددًا، نظرة من تعوّد الألم حتى صار جلده، “هذه العائلة… يخرج منها أي شيء. هذا شيء أنا اعتدتُ عليه.” رفعت كتفي قليلًا، كأنني أتحدث عن يوم ممطر عادي… “والأغرب… أن كل هذا لا يزعجني.”
توقفت لحظة. هدأت نبرة صوتي، لكن بها ارتجاف خفيف، كأن الكلام يُجرح وهو يخرج.
“سوى شيء واحد…” نظرت في عينيها مباشرةً… “أنه خان أمي.”
هنا… تغيّر وجهها قليلًا. نظرة عابثة.
“أجل، فأمك ساذجة… مثلك.” ضحكت ضحكة قصيرة، شريرة، ثم تابعت: “كنتُ أتساءل دومًا عن سبب سذاجتك… والآن فهمت. لقد ورثتها منها.”
كلماتها كانت مثل سكاكين حادة، تقطع ببطء في داخلي… لكن شيئًا ما تغيّر.
“أنتِ… لا تُسيئي إلى أمي.” تقدّمت خطوة… “وإلا… سأقتلك.”
ارتجفت قليلاً. ظهر ارتباك خفيف في ملامحها لأول مرة… لكنها سرعان ما أخفت ذلك، وابتلعت خوفها بكلماتها.
“إذاً، سوه… متى سترجعين كما كنتِ؟”
أعدتُ جفنيّ إلى نصف إغلاق، بجمود. كرّرت هي، بنبرة متعمدة، وكأنها تحاول إثارة شيء مكسور بداخلي:
“أرجع كما كنتِ…”
ثم اقتربت. اقتربت مني ببطء. رفعت يدها، بإصبعين دقيقين، ولامست ذقني برفقٍ مقيت… لم يكن اللمس لمسة حنان، بل استفزاز، إذلال بارد.
“ففي النهاية، لا أحد يقف معك، أنتِ تعلمين هذا.” همست كأنها تُخبرني بسر دفين… “لذا أعلم… أنك ستعودين إلى ما كنتِ عليه سابقًا.”
ابتسمت ابتسامة صغيرة… ابتسامة من يعلم أن السم قد بدأ يتغلغل بالفعل.
“لأنكِ، سوه…”
سكتت لحظة، ثم أكملت ببطء قاتل: “أينما ذهبتِ… سيكرهك الجميع.”
كلماتها سقطت كالمطر البارد على جروح مفتوحة. “مهما فعلتِ… حتى لو لم ترتكبي شيئًا، سيكرهك الجميع.”
هنا… شعرتُ بالهواء حولي يُصبح أكثر ثِقلاً. تسارعت نبضاتي، لكن لم يظهر ذلك على ملامحي. العالم بدأ يتلاشى من حولي… شيء ما، بعيد في ذاكرتي، يُسحب من الأعماق… ويطفو.
أوريانا… تلك الشخصية، وذلك الاسم… ذلك العالم الذي دخلتُه يومًا… حين كنتُ أظن أنه مجرد حلم.
رأيتُ ذلك القصر البارد. رأيتُني وأنا أركض بين الممرات، أحاول إنقاذ الدوقة… أتلقى الإهانات، الكراهية، النبذ… من الجميع.
كل شيء عُدتُ أراه الآن… رأيت أوريانا، وأنا، كأننا شخص واحد… نتقاطع عند تلك الجملة التي لطالما طعنتنا:
“حتى لو لم تفعلي شيئًا… سيكرهك الجميع.”
رغم كل شيء… ذلك العالم ليس عالمي. كان كما لو أنني دخلتُ في جسد غريب، عشت حياة ليست لي، شعرت بألم لا يُشبه ألمي، ولكن… ذلك لم يكن عالمي.
وإنني حقًا… لم أعد أهتم. من يحبني؟ من يكرهني؟ كل هذا لم يعد يعني شيئًا بالنسبة لي.
حتى لو لم يحبني أحدٌ في هذا العالم… يكفيني فقط صديقيَّ الذَين ينتظران بالخارج. إن كان العالم قد استدار ضدي، فوجودهما وحده… كافٍ ليبقيني واقفة.
لكن وسط هذا الهدوء… شيءٌ ما أدهشني.
ابتسمتُ ابتسامة ساخرة، صغيرة، خرجت من قلبي كأنها سؤال موجّه إلى السماء:
“أنا مندهشة حقًا… هيونا.” نظرت إليها، نظرة صامتة تحمل بين طياتها ألف استفهام… “كيف أمكنك فعل ذلك… مع أخويك؟”
رفعت يدها في الهواء، بحركة متعجرفة، وكأنها تزيح قرفًا غير مرئي:
“لا أهتم. ليسا أخويّ. هما من ولدتك، وتربطني بهما فقط صلة دم من جهة الأب. لذا… لا يهمّني إن ماتا بعيدًا عني.”
قالتها ببرود، بجمودٍ شنيع، كأنها تتحدث عن حشرات عابرة… نبرة صوتها لم تحمل أي ذرة من الندم، بل نوعًا من النشوة الغريبة.
ثم نظرت إليّ بعينين جامدتين… وكررت سؤالها المقيت:
“والآن، سوه… لم تُجيبي عن سؤالي. متى ستعودين كما كنتِ؟”
“أنا أجيد التمثيل… أكثر منك. لا تنسي… أني حصلت على جوائز في العديد من المهارات.”
اقتربت خطوة منها، وحدّقت في عينيها مباشرة:
“كل ذلك… فقط لأحصل على حب تلك العائلة القذرة. وللأسف…”
أخفضت صوتي، بنبرة ساخرة:
“أنتِ لا تعرفين هذا… لأنكِ لا تحاولين.”
عضّت هيونا على شفتها السفلى بقوة، كمن يُحاول كبح شيء داخلها ينفلت…
ثم هتفت بحدة، نبرتها مشوبة بالغضب واللامبالاة معًا:
“أجججججج… لا أهتم! افعلي ما ترين.”
دارت بجسدها سريعًا، شعرها يتحرك بانفعال خلفها، وقبل أن تصل إلى الباب، التفتت إليّ، وعيناها تضيقان ببطء كأفعى تستعد للانقضاض:
“لكنك… ستندمين أشدّ الندم يا سوه… أتفهمين؟ فقط… اعلمي ذلك.”
واندفعت خارجة من الغرفة.
في الخارج، عند الممر الهادئ الذي تفوح منه رائحة المطهّرات… وقف “جاي” و”تشاه”، يسندان ظهريهما إلى الحائط البارد، أعينهما شاخصة نحو الباب المغلق، وجسدهما متوتر كما لو كانا ينتظران كارثة.
رأياها تخرج. خطواتها كانت بطيئة… محسوبة… وجهها متلونٌ بدقة مذهلة – لم يكن فيه أثر لبرود ما حدث بالداخل. بل… البكاء؟ دموع مزيفة تُبلل رموشها كما لو كانت خارجة من مأساة إنسانية.
همس “جاي” لتشَاه” دون أن يحوّل عينيه عنها:
“انظري… الحية السوداء قادمة نحونا.”
كتمت “تشَاه” ضحكة متوترة، لكنها عقدت حاجبيها كأنها تتوقع السمّ الذي سيتقطر من فمها بعد لحظات.
رفعت يدها لتجفف خدّها الظاهري المبلل، ثم أكملت، نبرتها ترتجف كما لو كانت مكسورة:
“كنت أريد فقط أن أقول… اعتنيا بها، من فضلكما. لأنها… لأنها عندما كنت أكلمها… ضربتني!” وضعت يدها على جانب وجهها بلطف، بحركة بطيئة، وكأن الألم لا يزال ينبض في خدها – بينما عيناها تمتلئان بالدموع المُفبركة.
“وقالت لي أن أخرج!”
خفضت رأسها، واهتز جسدها قليلاً وكأنها تبكي من قلبها، ثم تمتمت:
“أعلم… أعلم أن أهلي قاسون معها، لكني… لكني أحبها، وأحاول دومًا الوصول إليها، لكنها… ترفضني دوماً.”
رفعت عينيها إليهما ببطء، صوتها ينكسر:
“لا أدري… لا أدري ماذا أفعل أكثر لكي تقبلني أختًا…”
ثم غطّت وجهها بيديها، وانفجرت في بكاء خافت.
في تلك اللحظة، تبادلت عينا “جاي” و”تشاه” نظرة صامتة. كان فيها كل شيء: الشك، السخرية، الإدراك الكامل لمن تمثل أمامهما.
“تشاه” أدارت وجهها قليلاً جانبًا، متجنبة النظر إلى هذا العرض السخيف. أما “جاي”، فرفع حاجبه ببرود، وابتسم ابتسامة صغيرة ساخرة. قال “جاي” ببرود ساخر، دون أن ينظر نحوها مباشرة، نبرته مشبعة بالاحتقار:
“هل كنتِ تتحدثين معنا؟ لم أكن أعلم أن الكلب القاتلة تتحدث.”
كلماته نزلت على هيونا كصفعة.
توسّعت عيناها في دهشة، نظرة مفاجِئة خاطفة ارتسمت على ملامحها، لكن سرعان ما أخفتها بسرعة مذهلة، كما لو أنها متعودة على ارتداء الأقنعة في جزء من الثانية.
رفعت حاجبيها في براءة مصطنعة، وقالت بنبرة مكسورة:
“هل أخبرتك أختي عن هذا؟ إنها تظل تهمس لي بذلك ونحن في الداخل… لا أعرف ما الذي أصابها، أنا… أنا لم أؤذها، أقسم.”
لكن صوتها، رغم محاولاته أن يبدو وديعًا، كان يحمل نغمة زائفة، كأنها تخبر كذبة تدربت عليها ألف مرة.
جاي لم يُظهر أي تعاطف. استدار نحو “تشاه”، وأمسك يدها بحركة حاسمة، فيها حماية ووضوح موقف:
“هيا بنا ندخل. ليس الأمر وكأنني جننت لأُصغي لكلام الحيوانات.”
ومضى الاثنان بخطى ثابتة، واثقة، نحو غرفة “سوه”. لم يلتفتا خلفهما.
وقفت “هيونا” مكانها، وحدها، داخل الممر الخالي، والأنوار البيضاء الباردة تسلط ضوءًا ساطعًا على وجهها المتصلب.
مرّت لحظة… ثم رفعت يديها إلى شعرها، وغرزت أصابعها فيه بعصبية، تشده للخلف كأنها تكبح صرخة.
ابتسمت ابتسامة صغيرة… لكنها لم تكن مرحة. كانت ابتسامة شرٍّ خالص… مزيج من الغيرة والحقد والتصميم.
تمتمت بصوت خافت، لكن يحمل احتراقًا داخليًا:
“آه… أنا أرى الآن… سبب تغيّر سوه بهذا الشكل…”
صوتها ارتفع قليلًا، بنبرة مريرة:
“هو… حب هذين الشخصين لها.”
شدت على شعرها بقوة أكبر، وكأنها تستمد طاقة من حقدها:
“لا بأس… سأحصل عليهما. حينها… ستضعف مجددًا.”
“وسأحصل على شراكتها، نعم… الشراكة التي تنكر أنها تهمها، لكنها تبكي إن اقتربت منها.”
رمقت باب غرفة “سوه” بنظرة طويلة، باردة، ثم تمتمت:
“ألم يكن يكفيها أن أصدقائي دائمًا يشيدون بشهرتها وجمالها؟”
“بل أيضًا… غنية؟”
أطلقت ضحكة صغيرة، خافتة، كأنها تتحدث إلى ظلها:
“لا بأس… تدميرها سيشفي صدري.”
وبقيت واقفة هناك، في قلب الممر، حيث لا أحد يسمع… لا أحد يرى… لكنها تخطط بصمت، كمن يبرم صفقة مع الجحيم.
دخل جاي وتشاه الغرفة. كان الباب يُفتح ببطء، لكن الهواء الذي تسلل معه لم يكن هادئًا… شعرت بثقل الجو أكثر.
لاحظتُ أول ما لاحظتُ على وجه تشاه شيئًا لا تخطئه العين: توتر. توتر خفيف، لكنها تحاول تغطيته بابتسامة مصطنعة. كانت عيناها تتحركان بسرعة، تبحثان عن أي شيء تهرب إليه من الصمت الذي ملأ الغرفة.
أما جاي… فوجهه لم يكن محايدًا أبدًا. كان الغضب خافتًا في ملامحه، غضب مكتوم، كالنار تحت الرماد. لم يتكلم، لكنه بدا كأنه على وشك أن ينفجر في أي لحظة.
لكن… كل هذا تلاشى أمام نظري حين وقعت عيناي على شيء واحد فقط: الرباط الأبيض الملفوف حول رأس تشاه.
توقفت أنفاسي للحظة. كنت أحدّق فيه، أطيل النظر إليه، رغم أنني لم أنطق بكلمة. شعرتُ بثقل داخلي… بالذنب يلتف حول صدري مثل حبل.
تشاه لاحظت نظرتي، وابتسمت بسرعة، ابتسامة خفيفة فيها محاولة لإزالة قلقي: “سوه… انظري. عندما أنزلني جاي لشراء العصائر والمقبلات… أنظري ماذا حصلت عليه.”
أشارت بيدها إلى الأكياس الموضوعة على الطاولة بجانب السرير، وصوتها كان مزيجًا من الفخر والمرح: “أشياء جيدة… وبسعر رخيص جدًا!”
حاولت أن أبادلها ابتسامة… لكنها لم تصل لوجهي. كنت ما أزال أُحدّق في الرباط على رأسها، كأنه الشيء الوحيد الذي أراه.
تشاه أضافت بخفة، لكن نبرة ضحكها اهتزّت قليلًا: “أنا فقط… تضايقت لما حدث.”
لم أجب. لكن جاي لاحظ صمتي، لاحظ نظرتي الطويلة نحو الجرح.
اقترب خطوة، صوته خرج عميقًا، حادًا قليلًا: “توقفي عن النظر هكذا.”
كانت عينيّ ترفرفان من أثر الدموع التي لم أسكبها. لكنه قالها بجديّة أكبر، كأنها أمر: “سأستدعي الطبيب ليراكي، ويعيد عمل المحلول لك… ويعيد فحصك.”
ظلّت عيناي متعلّقتين بتشاه، لكنني لم أرد أن أسمع أكثر. رفعت بصري نحو جاي بهدوء، وقلت:
“جاي… انتظر. أريد أن أطلب منك طلبًا.”
ارتبك قليلًا، لم يتوقع أن أتكلم فجأة. حتى تشاه توقفت عن الحركة، نظرت إليّ بتساؤل، وكأن الهواء في الغرفة تجمّد.
سحبتُ أنفاسي… ثم نطقت ببطء، كل كلمة كانت تخرج من أعماقي، ثقيلة كأنها حجر:
“أريدك أن تكون… رئيس الشركة.”
… في لحظة واحدة، كأن العالم توقّف.
نظرتُ إلى وجهيهما – جاي وتشاه – فرأيت الصدمة ترتسم على كليهما.
تشاه اتسعت عيناها كأنها سمعت شيئًا غير واقعي، شفتيها ارتجفتا، لكنها لم تنطق.
أما جاي… فقد جمد تمامًا. توقف حتى عن التنفس للحظة، وعيناه ثبتتا في وجهي.
الصدمة لم تكن فقط لأنه لم يتوقع طلبي… بل لأنه يعرف ماذا يعني هذا الطلب.
اقترب جاي مني فجأة – خطوة… ثم أخرى… حتى شعرت بظلّه يغطي وجهي.
لم يُمهلني ثانية. مدّ يده، أصابعه التفّت على ياقة ثوبي عند عنقي بعنف. شدّني نحوه دفعة واحدة… حتى شعرت بخيط المحلول في ذراعي يشدّ على جلدي، وحتى أنفاسي صارت متقطعة.
عيناه كانتا مشتعلة. لم أرَ تلك النار فيه من قبل… تلك النار التي تُشعل الغضب بالحياة.
صوته انفجر، خشن، متوتر:
“هل تمزحين معي الآن، سوه؟! هل تستسلمين… وتتنازلين عن الشركة لي؟! لهذه الدرجة جعلوكِ تنهارين؟! لهذه الدرجة دمّروكِ؟!”
كان صوته يعلو، يزداد حِدّة، كل كلمة كطعنة:
“أتعطينني الشركة… لأنكِ خائفة منهم؟! تستسلمين… بسبب تلك العائلة القذرة؟!”
ارتجفتُ للحظة… ليس خوفًا منه، بل من ثقل مشاعره، من الألم الذي يخرج من صوته أكثر من الغضب نفسه.
رفعت يدي ببطء، وضعتها فوق يده التي تُمسك بياقتي، أصابعي ضغطت على معصمه. نظرت في عينيه – بعُمق، ببرود هادئ رغم الفوضى التي بداخلي – وهمست:
“جاي… اهدأ.”
لم يهدأ. كان جسده مشدودًا كقوس، أنفاسه حادة. لكن عينيه لم تتحرّك عنّي… كان ينتظر، يستمع، رغم طوفان غضبه.
أخذت نفسًا طويلًا، ثم قلت:
“كل ما أقصده… هو أن تأخذ الشركة… إلى أن أُشفى، إلى أن أنهض من مكاني.”
أغمضت عيني لثانية، فتحتها وأنا أتابع، صوتي حازم لكنه منخفض:
“أخاف… أخاف أنه إن حدث لي شيء… إن توقّف قلبي ثانية… إن بقيت في غيبوبة أخرى… فإن الشركة ستسقط بين أيدي تلك الكائنات القذرة… عن طريق الوراثة.”
شعرت بيده ترتخي قليلًا… قبضته لم تعد كسابقها، لكنه ظل ممسكًا بياقتي، يحدّق بي.
“لكن… إن كانت الشركة معك، فلن يستطيعوا فعل شيء.”
خفضت نبرة صوتي أكثر، لكنها اكتسبت ثِقلاً:
“ولا تقلق… أنا لم أستسلم.”
ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكن باردة، قاسية – ابتسامة أوريانا أكثر منها سوه.
“أنا أنوي أن أجعلهم يموتون وهم أحياء.”
توقفت للحظة، ثم قلتها ببطء، كل حرف كان كالسكين:
“سأتركهم أجسادًا بلا روح.”
تذكّرت لحظة واحدة فقط كنت في البداية أحاول أن أكون ابنة صالحة، أحاول أن أتركهم وشأنهم احترامًا لكونهم عائلتي…
لكن تلك اللحظة صارت ذكرى بعيدة.
“كنت في البداية… أنوي تركهم يعيشون بسلام. احترامًا… لأنهم عائلتي. لكن الآن؟”
ابتسمت من جديد، هذه المرة بلا دفء، ابتسامة كجليد:
“الآن… سأقتلهم. كل واحد منهم… بطريقتي. فقط عندما أشفى.”
كانت الكلمات تخرج مني كأنها وعد. وعد ثقيل… لا عودة منه.
جاي كان يستمع… عيناه ثبتتا في وجهي، وشيء داخله بدا أنه يتزعزع – الغضب بدأ يخفت، يحل محله شيء آخر… شيء أقرب إلى خوفٍ عليّ، وخوفٍ مني.
قال ببطء، صوته لا يزال غاضبًا لكن نبرته مترددة قليلًا:
“لكن… سوه… إن سلّمتِني شراكتك…”
لم أتركه يُكمل. أمسكت معصمه بكلتا يديّ، شددّت على أصابعه حتى شعر بحرارة لمسي، ثم قلت:
“أرجوك، جاي. أنت شخص… يعتمد عليه. أرجوك.”
توقفت قليلًا، نظرت في عينيه، جعلت كلماتي تخترق قلبه:
“أثق بك… أكثر مما أثق بأي أحد. حتى أكثر مما أثق بنفسي.” “حسنًا… سأفعل ما تريدين.”
قالها جاي بصوت منخفض، لكنه كان حادًّا، مليئًا بالاستسلام الغاضب – استسلام لشخص واحد فقط… لي.
ترك قبضته عن ياقة ثوبي، أصابعه انسحبت ببطء من عند عنقي. شعرت بالهواء يملأ رئتي من جديد، شعرت بحرارة جلده لا تزال عالقة على بشرتي، وكأن لمسه ترك أثرًا غير مرئي.
لكنه لم يتوقف عن النظر في عينيّ – عيناه كانتا كأنهما تقولان: “أنا أوافقك… لكن ليس بدون شرط.”
أخذ خطوة صغيرة للخلف، نبرة صوته ثقلت من جديد:
“ولكن…” توقف لثانية، كأنه يلتقط أنفاسه، ثم تابع:
“عندما تشفين… سأعيد لكِ الشراكة. هذا شيء… لا نقاش فيه.”
ابتسمت ابتسامة هادئة، نصفها امتنان، نصفها إدراك لعناده الذي لم يتغيّر يومًا.
“حسنًا… شكرًا لك، جاي.” قلت العبارة ببساطة، لكن داخلي كان يشعر بشيء أعمق – راحة غريبة، واطمئنان… لأن الأوراق ستكون بيده، لأن جاي سيكون حارسًا لشركتي، حتى وأنا مكسورة على هذا السرير.
بعد ذلك…
خرج جاي من الغرفة بخطوات سريعة، ملامحه لا تزال مشدودة، لكنه كان يحمل قرارًا نهائيًا.
بعد ساعة… عاد وهو يحمل حقيبة أوراق سوداء أنيقة. جلس بجواري، لم يتحدث كثيرًا، فقط أخرج الملفات، نشرها أمامي على الطاولة الصغيرة قرب السرير.
أخذ قلمه، بدأ يسجّل، يراجع، يضع العلامات. كان دقيقًا، شديد التركيز – كأنه لم يعد ذلك الصديق الغاضب الذي شدّني منذ قليل، بل رئيسًا حقيقيًا يتحمّل المسؤولية.
أنا؟ أخذت الأوراق بيدي الواحدة، قرأتها كلمة كلمة، ثم… وقّعت.
قلمي ترك أثر حبر أسود على كل ورقة… حبر بارد… لكنه كان مثل دمعة داخلي، دمعة لم أسمح لها أن تسقط.
وبعد أن انتهينا، خرج جاي بالأوراق. كانت يداه مشدودة على الملف، وكأنه يحمل شيئًا أغلى من حياته.
اليوم التالي…
عاد مع تشاه. كان الصباح أهدأ مما توقعت، نور الشمس دخل من نافذة الغرفة، انعكس على شعر تشاه، على حقيبة الأوراق التي أصبحت الآن ملكًا للشركة.
جلسنا نحن الثلاثة… على غير العادة، جلسنا نتحدث.
حديث هادئ، لا عواصف فيه. ضحكة صغيرة من تشاه، تعليقات قصيرة من جاي، وأنا بينهما، أسمح لنفسي أن أستنشق لحظة سلام.
لكن في داخلي؟ في أعماق صدري؟ كنت أعلم الحقيقة:
هذا السلام… لن يدوم.
لأن هذه حياتي. حياتي لا تعرف الراحة… ولا تعرف الهدوء.
قبل أن يخطو جاي نحو الباب، وقبل أن تلتقط تشاه حقيبتها الصغيرة، التفتت نحوي فجأة، بابتسامة حملت نورًا صغيرًا وسط كل هذا الظلام الذي يبتلع حياتي.
قالت بصوتها الرقيق، الذي يشبه الوعد: “سوه… تعافي بسرعة، أريد أن أخطب من جاي… وأريدكِ أن تكوني بجانبي.”
كانت كلماتها بسيطة… لكنها أصابتني بشعور غريب، خليط من دفء خفيف لا أسمح لنفسي أن أعيشه كثيرًا، ورغبة صامتة في أن أوفي بوعدها.
رفعت نظري إليها، وصنعت على شفتي ابتسامة صغيرة، ابتسامة لم تكن واسعة… لكنها حقيقية تمامًا.
“بالتأكيد… سأحاول أن أشفى بسرعة.”
خرجت الجملة هادئة، لكنها كانت مثل عهد أضعه بين يديها.
لكن فجأة…
كأن كل شيء انقلب في ثانية واحدة.
ألم مفاجئ – حاد – اخترق قلبي.
ليس وخزًا… ليس ضيقًا… بل طعنة كاملة.
شهقت بقوة، وضعت يدي على صدري، كأن قلبي يريد أن يقفز من قفصي الصدري.
شعرت بانقباض شديد، كأن شيئًا سحق قلبي بكل قوته.
“سوه؟!”
صوت تشاه ارتفع، فيه رعب نادر لم أسمعه منها من قبل. اقتربت بسرعة، لمحت ظلالها تهتز أمام عيني، لكنها بدت بعيدة جدًا.
رأيت جاي – وجهه كان ممتقعًا، ملامحه مليئة بالعصبية والخوف في آنٍ واحد. كان يتحرك بعجلة، يصرخ بشيء… يمسك الهاتف، يضغط على الأزرار، يمد ذراعه نحوي، لكن كل شيء صار ضبابيًا.
الأصوات اختفت. لم أعد أسمع بوضوح.
سمعت اسمي يتردد، لكنه جاءني مشوشًا، كما لو أن أحدهم يهمس به من أعماق بئر: “سوه… ســوه…!”
تنفسي بدأ ينهار.
أخذت شهقة… أخرى… لكن الهواء لم يعد يدخل.
حاولت فتح فمي… لكن كل نفس أصبح حربًا.
رؤية الغرفة بدأت تتلوى أمامي. تشاه صارت كتلة ضوء تتحرك أمامي، جاي صار ظلًا أسود يقفز بجانبي.
الألوان كلها انسكبت.
“سحقًا… للحياة.”
جاءت الكلمة في عقلي أولًا… لم أعرف إن نطقتها أم لا.
“كنت أريد فقط… أن أبقى هادئة.”
همس قلبي، وهو ينكمش أكثر وأكثر.
لكن لماذا…؟
لماذا يجب أن أتألم دائمًا؟ لماذا كلما ظننت أن السلام اقترب، يتمزق مثل ورقة رقيقة؟
الضوء بدأ يخفت… كل شيء أصبح باهتًا.
رأيت لمحة أخيرة من يد جاي وهي تمتد نحوي، سمعت صرخة تشاه…
ثم أصبح كل شيء… أسود.
حلّ ظلام دامس.
لا لون. لا صوت. لا شيء.
فتحت عيني… أو هكذا خُيّل إلي. لكن ما رأيته لم يكن عالمًا، لم تكن هناك جدران، ولا أرض، ولا سماء. كان كل شيء ظلامًا دامسًا، ظلامًا كثيفًا يلتهم أي معنى للزمن أو المكان، فراغ ممتد بلا نهاية، لا صوت فيه سوى نبض ضعيف يتردد داخلي.
همست دون أن أدري: «أين أنا؟» كان صوتي غريبًا، مرتجفًا وكأنه لا ينتمي لي. فكرة الموت تسللت لعقلي ببطء… هل انتهى كل شيء؟ هل ذلك الألم الذي مزق صدري كان النهاية؟ هل تركت جاي، وتشاه، وتركت خلفي انتقامي الذي وعدت نفسي به؟
وفجأة… ظهرت.
وسط العدم، ظهرت فتاة. ملامحها لم تكن واضحة كأنها مرسومة بضباب، لكنها كانت هناك. شعرها الأزرق النيلي، طويل كالبحر العميق في ليلة هادئة، يتحرك بخفة كأن الهواء الوحيد في هذا الفراغ يداعبه. كانت ترتدي ثوبًا أبيض، أبيضًا نقيًا يسطع في وسط هذا السواد حتى بدا كأنه الضوء الوحيد الموجود.
اقتربت. لم أسمع وقع خطواتها، لكنني شعرت بها داخلي، كأن الأرض الوهمية التي أقف عليها تهتز. رفعت رأسها قليلًا، وعندما تحدثت… كان صوتها هادئًا، لكنه عميق، عميق جدًا، كأن كل كلمة منه تحمل وزن السماء.
«أخيرًا…» ترددت الكلمة في الفراغ، وصدى صوتها أعاد الكلمة أكثر من مرة، حتى شعرت أن الظلام كله يرددها. «أخيرًا استطعت أن أعيد روحك.»
تجمدت أنفاسي. روحي؟ ماذا تقول؟
«آسفة.» قالتها ببطء، بخفوت شديد، لكن في صوتها صدق لا يمكن إنكاره. «انتقلت روحك إلى ذلك العالم… لأن قوة الكتاب كانت أقوى منك. كانت تجرّك، تأخذك بعيدًا، تمحو كل ما تعرفينه.»
وقفت أحدق فيها، حاولت أن أفهم. عقلي كان ثقيلاً كأن الكلمات تنزلق من بين يدي. سألت بصوت مرتجف: «عن ماذا… تتحدثين؟»
لكنها ابتسمت… ابتسامة حزينة، قصيرة، كأنها تعرف شيئًا أعظم من أن يُشرح الآن.
وفجأة شعرت بجسدي يسقط. لم يكن سقوطًا على الأرض… بل سقوط في الوجود نفسه. الفراغ الذي كان يحملني اختفى. قدماي لم تعدا تشعران بأي شيء، كل شيء انهار، وأنا انهرت معه.
هي لم تتحرك. وقفت هناك، شعرها الأزرق يتماوج بهدوء في اللاشيء. رفعت يدها ولوّحت لي، حركة بطيئة، كأنها وداع أو وعد مؤجل.
«سنلتقي قريبًا… أوريانا.»
الاسم اخترق صدري… أوريانا.
ثم ابتلعني الظلام من جديد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 32"