في تلك اللحظة، بدا الزمن وكأنه تباطأ. نظراته كانت مختلفة… لم تكن عابرة، لم تكن مشفقة، بل كانت مُدقّقة، ثاقبة، صامتة… لكنها تعرف.
غريب… لم يكن أحدٌ من قبل يعرف ما أشعر به، لم يُدرك أحد أن شيئًا ما تغيّر داخلي. لكن “جاي”، من أول نظرة، دون سؤال، دون تردد… علم. رغم سخريته المعتادة، رغم طريقته العابثة أحيانًا، إلا أنه يملك تلك القدرة التي يخشاها الجميع… أن يرى ما لا يُقال.
خفضتُ بصري قليلًا، نظرت إلى يدي المرتجفتين… لم أكن أدرك أنني أرتجف حتى شعرت ببردٍ مفاجئ ينساب من أطراف أصابعي حتى قلبي. الخوف كان يتصاعد من أعماقي، خافتًا، لكنه حادًّا… تلك الفتاة… قتلتني مرة. ولو علمت أنني استيقظت، فقد تُنهي ما بدأته.
وبينما أنا غارقة في ذلك الرعب الصامت… شعرت بدفء خافت يلمس كفي، كانت يد “جاي”… يُمسك بي بلطف، لكن قبضته كانت قوية بما يكفي لتعيدني إلى الواقع.
صوته، على غير العادة، خرج هادئًا، بطيئًا… لكن كل كلمة منه كانت تُطرق في رأسي كجرسٍ لا يمكن تجاهله:
“سوه… كتمان الأمر… لن يحل شيئًا. أخبريني بما جرى. فقط… أخبريني.”
رفعت عيني إليه… كانت عيناه الزرقاوان لا تزالان معلقتين بي، يقرآن تفاصيل وجهي، كل رعشة، كل صمت، كل ابتسامة متكسّرة.
ترددتُ… بلعت ريقي بصعوبة، شفتاي كانتا ترتعشان، وكأن الحروف ثقيلة جدًا للخروج، لكني… كنت أعلم، أنه إن لم أخبره الآن، لن أخبره أبدًا.
تنفست… شعرت بنفَسي يعلو ويهبط كأنني كنت تحت الماء طويلاً. ثم، بصوت خافت… متقطع… لكنه حقيقي:
“هاه… حسنًا… سأخبرك.”
ونظرت له… وبدأت…
بدأت أروي… وكل شيء بداخلي ينهار ببطء. كأنني كنت أحمل حجرًا على صدري، وأخيرًا سُمح لي أن أضعه.
حدثته بكل شيء. كل شيء.
عن “هيونا”… كلماتها التي غرستها في أعماقي قبل أن تدفعني، عن تلك اللحظة التي شعرت فيها بالعالم ينطفئ وفجأة…
انفجرت ضحكة غريبة من فم “جاي”.
ضحكة لم تكن طبيعية. ضحكة مريرة، ساخرة، تكاد تمزق صمت الغرفة مثل زجاج يتحطم.
“هاهاها… هههههههههه! إذًا تلك الفتاة قالت إن عائلتك كانت تستغلك؟! وأنها لم تعد بحاجة إليك… ثم قامت بدفعك أمام شاحنة؟! أهاهاهاهااا… ههههههههههه!”
ضحكته لم تكن فرحًا… كانت صدمةً، وغضبًا، وسخريةً اختلطت بقهر دام سنوات.
ثم… توقف.
تجمد كل شيء فجأة.
ملامحه تحولت كليًا. ابتسامته اختفت كما تُسحب الستارة عن مشهد جريمة.
عيناه اتسعتا، وتوترت عضلات وجهه. وارتجف فكّه وهو يضغط على أسنانه بقوة، كأنه يحاول أن يمنع نفسه من الصراخ أو تكسير شيءٍ ما.
صوته خرج متقطعًا… متوهجًا بالغضب:
“بجدية يا سوه… ألم تكوني تعلمين؟ ألم تدركي أنهم… يستغلونك؟”
ثم نهض واقفًا، مشى بضع خطوات داخل الغرفة، كمن لا يجد ما يفعل بيده، ثم استدار نحوي بسرعة:
“جميعنا كنا نعرف ذلك. لكنني ظننت… أنك فقط تفعلين ذلك بدافع البر… ظننت أنك تعرفين… وتتحملين.”
“كنتِ تتوقين لحب… من عائلةٍ كهذه؟ سوه… هل تمزحين؟ هل فعلاً كنتِ ترين فيهم عائلة؟”
ثم شهق أنفاسه بعنف، وضرب بيده الحائط بجانبه. اهتز إطار الصورة المعلّقة، وارتعش قلبي معه.
“بجدية… هل دفعتك تلك الـ… أمام الشاحنة؟ هل فعلتها حقًا؟”
سكت للحظة، ثم رفع يده إلى شعره، وجذبه بعصبية.
“أقسم… أقسم أني سأذهب إلى الشرطة. سأقدم بلاغًا رسميًا بمحاولة قتل. سأسحبهم واحدًا واحدًا إلى الجحيم.”
ثم نظر إليّ مباشرةً، كأن النار تشتعل خلف عينيه:
“تلك العائلة… القذرة… سَتندم، سوه. أقسم لكِ، سَتندم.” مددتُ يدي ببطء… لكن ثباتًا، وأمسكتُ بمعصميه بكل ما تبقى لي من قوة، كانت يدي باردة، متعرقة… تلتف حول معصمه كمن يستنجد، وكمن يُحذر.
عينيَّ ارتفعتا إليه… ببطء، وفي عينيّ، لم يكن هناك دموع… فقط ظلُّ شيء مكسور، متحطم، لكن حاد.
همست، بنبرة جمّدها الهواء بيننا:
“هل تمزح؟… أين ذهب عقلك، جاي؟”
انقبضت أناملي على معصمه أكثر، وكأنني أريد أن أثبّته في مكانه… أوقِفه عن كل هذا الغضب.
“إن قمتَ بعمل محضر… هل تظن أنك ستفوز بالقضية؟”
نظرات جاي فترت، لكنه ظل واقفًا، كتفه مشدود، صدره يعلو ويهبط من الغضب. فكه مشدود، وشفته السفلية ترتجف.
أنا فقط… لم أكن خائفة منه. لكنني كنت خائفة عليه.
“اهدأ… جاي.” قلتُها بصوت خافت… ليس كرجاء، بل كأمر ناعم، كهمسة منطق وسط إعصار.
أخفضت عيني للحظة، أنفاسي متوترة، ثم نظرتُ إليه مجددًا ببطء:
“عندما تُفتح القضايا… أول ما يُسأل عنه هو الدليل. ونحن… لا نملك شيئًا يُدينها.”
توقفت، وزفرت بخفة، كما لو أنني أُخرج معها مرارة ثلاث سنوات من الاستغلال.
“لا شهود… لا تسجيلات… لا اعتراف. هي من ستفوز، جاي.”
اقتربت منه خطوة، كنت أجرُّ قدمي، جسدي لا يساعدني، لكن الكلمات كانت قوية:
“بل الأسوأ؟… قد يُطلب منا دفع تعويضات بسبب ‘الافتراء’. وستُراني المحكمة… الأخت التي تكره أختها.”
نزلت عيناي للأسفل، للحظة… ثم رفعتُ وجهي نحوه.
وبهدوءٍ قاسٍ… نظرة كالسيف:
“لكن لا تخطئ فهمي… أنا لا أنوي تركهم جميعًا يعيشون بسلام.”
هنا… تغير كل شيء.
في تلك اللحظة، تلاشت كل ملامح “بين سوه” اللطيفة… ذابت ملامح الضعف، واختفت البسمة الدافئة.
الحقيقة؟ أنا لم أعد سوه فقط… أنا أوريانا أيضًا.
والنظرة التي ارتسمت على وجهي… كانت نظرة مَن اعتاد الظلام.
عيناي أصبحتا جامدتين… لا رجاء فيهما. لا تساؤلات. لا تردد.
سكونٌ مرعب، يشبه الليل قبل العاصفة.
جاي… لم ينبس بكلمة. ظلّ يحدق فيّ… يقرأ ملامحي كأنه يراها للمرة الأولى.
بدا كمن سقط قلبه من صدره ثم التقطه مجددًا.
ثم فجأة، ابتسم.
ابتسامة بطيئة… مفاجئة… لا تخلو من الانبهار.
“نظراتكِ… تتغير كل مرة.”
هزّ رأسه، وكأنه لا يصدق نفسه، ثم أردف بنبرة أعمق، أشبه باعتراف طويل الأمد:
“وهذا غريب.”
توقف، نظر في عينيّ مباشرةً… ثم ضيّق عينيه، وانخفض صوته ليصبح دافئًا:
“لكنني… أحب هذه النظرة الباردة، الحازمة.”
كنت لا أزال جالسة على السرير، يدي على الغطاء، ونبضات قلبي قد بدأت تهدأ بعد حديثي مع جاي…
فجأة…
شعرت بوقع خطوات ثقيلة تقترب من باب الغرفة.
كل خطوة كانت كطرقٍ على نعشِ شيءٍ في داخلي لم أعرفه بعد. صوتها لم يكن مألوفًا… لم تكن خطوات “تشاه” المرحة، ولا خطوات “جاي” الحذرة.
كانت خطوات بطيئة… ثابتة… كأنها تحمل معها ثقل سنين من الجراح المكبوتة.
شيء في داخلي ارتجف.
همست لا إراديًا، بالكاد خرج صوتي:
“تشاه؟”
لكن الرد لم يأتِ صوتًا… بل كان الطريقة التي فُتح بها الباب.
لم يُفتح بلطف. لم يُفتح كزيارة.
انفتح بعنف هادئ… كأنه إعلان حرب.
صرير الباب مزّق سكون الغرفة كما يمزق السيف حريرًا.
ثم دخل…
رجلٌ طويل، يقف كجدارٍ أسود، وحضوره… ثقل لا يُحتمل. شعره حالك السواد، مرتب بعناية كاذبة… لكن عينيه؟
عينا يونجون. سواد بلا قاع. لا دفء، لا حزن، لا أي شيء… فقط فراغٌ صلب.
أخي الأكبر.
في اللحظة التي وقع بصري عليه، شعرت بانقباضٍ حاد في صدري، كأن الهواء انسحب فجأة من رئتي، وكأن جسدي يرفض وجوده.
أما هو… فقد وقف هناك، بثباتٍ قاتل، كأن دخوله وحده يكفي لإسكات كل الأصوات.
نظراته مرّت عليّ ببطء، كأنني كائن غريب لا يُرحب به. تحت سكونه… ازدراء صامت، مسموم.
قال بصوته… ذلك الصوت الذي يحمل طبقة من الفوقية والبرود:
“يبدو أنكِ استيقظتِ، في النهاية.”
ابتسم. تلك الابتسامة… لم تكن إلا شظية من السخرية، مغلفة بثوب مزيف من الأدب.
“ما إن سمعت أن هذا الشخص…” وأشار برأسه إلى “جاي”، واحتقاره تقطر في الهواء كالدخان الخانق، “…وحبيبته جاءا إلى هنا، عرفت أن شيئًا قد حصل.”
كان يُحدق في وجهي وكأنني كارثة بيولوجية عادت للحياة. وكأن استيقاظي هو عبءٌ لا يستحقونه.
“حسنًا… من الجيد أنكِ استيقظتِ بسرعة. هكذا… لن تتعبينا أكثر.”
“تتعبينا؟”
الكلمة لم تكن كلمة.
كانت خنجرًا. سُمّه تسلل إلى قلبي، واستقر هناك.
أردت أن أصرخ. أردت أن أقفز من سريري وأصفعه حتى ينسى اسمه. لكن جسدي… لا يسمح. ليس الآن.
فقط… انتظر. حين أشفى… أقسم أنني سأكسر وجهك بهذه اليد الضعيفة الآن.
أخفضت بصري، ليس هربًا، بل احتواءً للبركان الذي يشتعل داخلي. أنفاسي صارت بطيئة، مرتجفة… كي لا تنفلت مني دمعة.
لكن هناك شخص آخر في الغرفة.
جاي.
في الزاوية، يقف كأعمدة الفولاذ. قبضته تنغلق شيئًا فشيئًا… أصابعه تتحول إلى بياض متجمد.
وجهه… كان يغلي.
نظرة واحدة ألقاها نحوي… وفيها سؤال دون كلام:
“هل أضربه؟ هل تصرخين أولًا، أم أفعلها أنا؟”
لكن عندما التقت عيناه بعينيّ…
رآى ما يكفي.
رأى الغضب… لا، رأى البرود.
ذلك البرود الحاد، الذي لا يبكي، بل ينتقم.
تنهد. ثم تحرّك خطوة للأمام، ببطء… لكن كمن يحمي شيئًا مقدسًا.
يونجون لم يُعر جاي أي اهتمام. وكأنه مجرد قطعة أثاث خلفية… لا تُحسب.
ظل واقفًا مكانه، وابتسامته الوقحة لم تفارق شفتيه، ثم قال بصوتٍ فيه شيء من التسلية المصطنعة:
“أنت هنا… أيها المساعد.”
رمق “جاي” بنظرة طويلة، ثم التفت إليّ وقد اتسعت ابتسامته بسُمٍّ واضح:
“أختي… عليكِ طرد هذا المساعد فورًا. بسببه لم نحصل على الشركة. قال إنه يجب علينا الانتظار حتى تستيقظي، والآن… أصبح المتحكم في كل شيء. هذا ليس دور مساعد! أنا فقط أفعل هذا لأنني… أهتم لأمرك.”
توقف الزمن داخلي.
“يهتم لأمري؟”
قبل شهور فقط، كنت سأنهار فرحًا لو سمعت منه هذا. كنت سأضحك، وأبتسم، وأصدّق. لكن الآن… أنا لست تلك الطفلة الغبية، التي كانت تتوسل لفتات حنان.
أردت الضحك.
لكن لم أضحك. نظرت إليه بهدوء بارد، كأن كلماته مجرد رياح مرت من فوق رأسي دون أن تلامسني.
لكن قبل أن أرد، تقدم جاي خطوة. مفاصله متشنجة، وجهه محمّر، والشرر يتطاير من عينيه:
“أنت—”
لكنه لم يُكمل.
أنا قاطعته. بهدوء… حاسم. نبرتي كانت كالسيف.
“وما شأنك أنت؟ إنها شركتي… شركة خاصة بي. وأنت لا دخل لك بمن أُعيِّن، أو بمن أطرد.”
يونجون لم يتحرك. لكن عينيه اتسعتا قليلًا… كأن الصفعة جاءت من حيث لا يتوقع.
تابعت بنبرة أكثر برودًا:
“ثم… أنا من طلبت من جاي أن يعتني بالشركة. إنه ينفّذ أوامري.”
لحظة صمت. يونجون لم يرد.
لكنه لم يكن بحاجة إلى الرد. ملامح وجهه كشفت كل شيء.
الدهشة… الصدمة… الارتباك.
لأنه يعرفني. أو بالأحرى… كان يعرف “سوه” القديمة.
سوه التي كانت تهتز لأي بادرة عطف منه. سوه التي كانت تلهث خلف حنانه الزائف.
لكن الآن… التي أمامه ليست تلك.
هذه التي أمامه… تحدّق فيه بعينين لا تعرفان الرحمة، ولا الرجاء.
بعدها سمعتُ وقع أقدامٍ تقترب من الغرفة… خطوات متعددة، غير متزامنة، بعضها متعجرف وبعضها متثاقل… وكأنها ليست عائلة بل موكب من الوجوه التي لم أعد أرغب برؤيتها.
ظهر أولًا “هاجون”، بشعره البني المرتب بدقة مبالغ بها، وعيناه السوداوان تتفحصان المكان كمن يتأكد من أنه أتى لواجب وليس بدافع حقيقي. وقف قرب الباب بصمت، يضع يديه في جيبيه، نظراته لا تعني شيئًا.
ثم ظهرت “هيونا”، بشعرها الأسود الطويل الذي أسدلته بنعومة فوق كتفيها، تلمع عيناها السوداوان بدموعٍ مفتعلة، وخطواتها تتهادى بشكل درامي.
بعدها… دخل هو. ذلك الرجل الذي يُسمّى أبي، “بين كيوهوان”. شعره الأسود مصفف بعناية، ملامحه صارمة كالعادة، يخفي كل عاطفة كأن وجهه قناعٌ اعتاده طيلة حياته. لم يقل شيئًا حين دخل، فقط رمقني بنظرة واحدة ثم أدار وجهه كأنني لا أساوي شيئًا.
وفي الخلف… دخلت هي. “لي سيهارا”، زوجة أبي. شعرها الأشقر يلمع تحت إضاءة الغرفة، عيناها العسليتان تجولان في المكان وكأنها تُقيّمه، لا تُظهر انزعاجًا أو قلقًا… فقط ذلك الوجه البارد، الجامد، الأنيق للغاية… الذي طالما كرهته.
هيونا كانت أول من كسرت الصمت، صوتها يتقطّع بتلك الرقة الزائفة:
“أختي… لا أصدق أنكِ استيقظتِ… نحن حقًا كنا قلقين…”
نظرت إليها مطولًا… رفعت حاجبًا واحدًا، ببطء، وبدأ الاشمئزاز يتصاعد داخلي كدخان سام.
هل هذا… قلق؟ ضحكت في داخلي، ضحكة مريضة. تعابيرهم كلها فارغة… تمثيل في تمثيل. هيونا الوحيدة التي تذرف دموعًا، لكنها تبكي بتقنية عالية! لو كانت هناك جوائز… لأرسلتها لترشيح فوري لجائزة الأوسكار.
ثم تقدمت “سيهارا” خطوة واحدة… صوت كعبها يرن على الأرضية كطعنة في أذني. أكره حتى طريقة مشيها.
قالت بصوتٍ ناعمٍ كالسُم:
“سوه… أتعرفين؟ ما فعلتِه كان حقًا غبيًا. كيف يمكنكِ أن تهملي الطريق؟ لقد عانَت العائلة كثيرًا بسببك…”
رفعت عيني إليها ببطء، بعينين باردتين، لا تلمع فيهما حياة. ملامحي كانت ساكنة، لكنها مليئة بكلمات غير منطوقة.
ثم خرج صوتي واضحًا، حادًا، جافًا، كالسيف:
“وما شأنك أنت؟ لا أفهم… لم أطلب قلقكم. ولم أطلب من أيٍّ منكم أن يأتي. ولم أسمح لكِ بالاقتراب مني.”
رفعت يدي ببطء، مشيرة نحوها بسبّابتي… نبرة صوتي كانت منخفضة لكن حازمة… لا تحتمل الجدل:
“لا تقتربي من سريري. لم أأذن لكِ… لذا ابتعدي، رجاءً… يا أنتِ.”
وجمد المكان.
هيونا توقفت عن البكاء فجأة، هاجون عبس قليلاً لكنه لم ينبس ببنت شفة، “كيوهوان”… بقي واقفًا كجدار صامت، يعاينني بتلك النظرة الخالية من الحياة.
أما “سيهارا”، فقد اتسعت عيناها للحظة، وارتجف رمشها الأيمن. لم تتوقع تلك النبرة. لم تتوقع الرفض. ولم تتوقع أن الفتاة التي كانت دائمًا مطيعة… قد كَبُرت فجأة وصارت سيفًا.
لكنني لم أعد سوه التي يعرفونها.
اقترب “كيوهوان”…
ذلك الرجل الذي يفترض أن أُطلق عليه كلمة أبي.
كان يخطو نحوي ببطء… كل خطوة منه كانت تُحدث صدى داخلي في صدري، ليس خوفًا، بل اشمئزازًا مكبوتًا، وغضبًا موقوف التنفيذ.
وقفتُ في مكاني… لا، في الحقيقة كنت مستلقية، مقيّدة بجسدي المكسور، لكن عينيّ لم ترمشا، تراقبانه يقترب كما تراقب الحيوان المفترس لحظة انقضاضه.
“الآن… لنرَ ما الذي سيقوله.” أيًا يكن، سأعامله باحترام… ليس لأنني أراه يستحق، بل لأنني لا أريد أن أكون مثله. فقط… ليس بلُطف، فمشاعري تجاهه لم تعد كما كانت.
اقترب أكثر… مجرّد حضوره جعل الهواء في الغرفة أثقل، أكثف… كأن الأوكسجين يفرّ من المكان.
توقعت أن يتحدث… أن يسأل… أن يفتح فمه بكلمةٍ واحدة على الأقل. لكنه لم يفعل. وقف أمامي… على بعد خطوتين فقط… نظر إليّ بعينين خاليتين من أي أثرٍ للحنان الأبوي.
ترددت في قولها، لكن كادت أن تفلت من فمي:
“لا تقترب أكثر…” لكنني كتمتها. احترامًا… لا له، بل للمبدأ فقط.
ثم…
فجأة.
قبل أن أتنفس كلمة أخرى، يده ارتفعت — و…
صفعة.
قوية. قاسية. مفاجئة.
رأسي التف إلى الجانب الآخر من شدة الضربة، شعري تناثر على الوسادة، ورنين الصدمة بقي في أذني للحظة…
لم أصرخ. لم أبكِ. لم أتكلم حتى.
الصدمة جعلتني جامدة… مثل جثة.
حرارة كفّه ظلت على وجنتي، والدماء غلت تحت جلدي.
كل من في الغرفة تجمّد. تشاه توقفت في منتصف طريقها نحو الباب، جاي شهق بصوتٍ مكتوم، ويده تشنجت على مسند الكرسي كأنه سيكسره.
لكنني… فقط نظرت إلى الأرض، ثم رفعت عيني ببطء، ونظرت إليه.
كانت نظرتي لا تشبه نظرات “سوه” القديمة.
كانت نظرة “أوريانا”.
باردة… مظلمة… تحمل خلفها وعدًا خفيًّا:
“لن أنسى.”
اقترب جاي بخطوات سريعة، ملامحه قد اشتعلت غضبًا، ووجهه أصبح قاتمًا من شدّة التوتر. صوته ارتفع بعفوية، دون تردد:
اقترب أكثر، وعيناه تقدحان شررًا… ما إن وصل إلى سريري حتى دفع كيوهوان بعنفٍ مفاجئ، قوة الدفع كانت كافية لإسقاط الرجل على الأرض، ليرتطم بالرخام بصوتٍ مدوٍّ.
الدهشة تملكت وجهي للحظة، أنا أعلم أن جاي قوي… لكنه لم يُظهر هذا الجانب من قبل بهذا الوضوح.
كيوهوان رفع جسده بتثاقل، ثم جلس على الأرض، ينظر إلى جاي بنظرة قاتلة وباردة تمامًا.
قال بصوت منخفض، كأنما يفرغ فيه كل غضبه المكبوت:
“قلتُ لك، لا تتدخل في شؤون عائلتي. سوه تحتاج لتربية… لكي تتعلم كيف ترد على زوجة أبيها!”
تجمّدت الغرفة.
لكنني، ضحكت.
ضحكت بمرارة… بتهكمٍ ساخر خرج من بين أسناني وكأنه طعنات.
“زوجة أبيها؟”
ضحكة قصيرة أخرى، ثم نظرت إليه بعينين لا تنتميان لطفلة أو فتاة خائفة… بل إلى شخصٍ نضج في الجحيم.
“ها… هاهاها… ههههههه… متى اعتبرت نفسك أبي حتى يكون لها لقب زوجة أبي؟!”
نظراتي ثبتت عليه… نظرة لا تنتمي إلى “سوه” الوديعة، بل إلى أوريانا الباردة.
“اسمعني جيدًا…” نطقتها ببطء، كل كلمة خرجت كطعنة:
“إن اقتربت من أصدقائي… فلن تسلم منّي. أفهمت؟”
الغرفة كانت مشحونة بالصمت… قبل أن يتحطم مجددًا بصوت هاجون، الذي صرخ فجأة وهو يخطو للأمام، ظنًا أن صراخه سيرهبني كما كان يفعل قديمًا:
“ومن تظنين نفسك؟!”
نظرت إليه مباشرة، لم أرتبك، لم أرمش حتى… ثم صرخت بصوتٍ اخترق الجدران:
“وإن كنت أنتَ تستطيع الصراخ… فأنا أيضًا أستطيع! لا تظن أنك الوحيد هنا صاحب صوت!”
ثم التفت إلى “كيوهوان” الذي كان قد نهض… ونظرت إليه نظرة قاطعة، كلماتها خرجت ببرود أشبه بلسعة سيف:
“وأنت… يا من تسمي نفسك والدي…” “الزم حدودك. أنا لا أعتبرك أبي.”
“أنا أكرهكم جميعًا… وأتمنى الخروج من عائلتكم القذرة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.”
“أنا فتاة مستقلة، أملك شركة، أملك قراري، ولن أسمح لأي منكم أن يقرر لي بعد الآن.”
رفعت رأسي للأعلى، نبرة صوتي كانت صارمة، لا تحمل ترددًا:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات