تساءلتُ في داخلي، ووميضُ ألمٍ غريبٍ يخترق عظامي. شعرتُ بثقل جسدي وكأنني مكبّلة بقيود غير مرئية. كل نفس أتنفسه يُشبه سحب سكين صدئة عبر صدري.
أجفلت عيناي قليلًا، ما زالتا مثقلتين كأنهما تحملان غبار قرون. “آخر ما أذكره… أنني تقيأت دمًا، وسقطتُ مغشيًّا عليّ…”
أدرتُ رأسي ببطء، والشعور بالدوار يكاد يُغرقني. الضوء الخافت فوق رأسي ينبض كقلب صناعي… آلات تصدر أصواتًا متقطعة… رائحة مطهّرات قوية… “مستشفى…؟ لكن… هذا…! هذه الأجهزة… إنها من العصر الحديث؟!”
تسارعت دقّات قلبي، ليس من المرض، بل من الصدمة. “ما الذي يجري بحق الجحيم؟”
قبل أن ألملم أفكاري، سمعت خطوات تقترب من الباب… خطوات مألوفة، ثقيلة، معتادة…
اتسعت عيناي، “ذلك الصوت… أعرفه… إنه…”
أغلقتُ عيني على الفور، وادّعيت النوم. يدي قبضت على الملاءة البيضاء بشدة، وكأنها خشبة النجاة الأخيرة.
فُتح الباب… دلف أكثر من شخص إلى الغرفة. أصواتٌ تملأ الأجواء… نبراتٌ أعرفها جيدًا… نبرات تسكن ذاكرتي منذ ولادتي…
“أبي… هيونا… يونجون… هاجون…” كلهم… هنا.
صوت أخي الأكبر، يونجون، اخترق صمتي القسري:
“سحقًا، أبي… بعد أن ذهبنا مجددًا إلى شركتها، رفضوا تسليمنا أي أوراق، وقالوا إن الإدارة لن تُسلّم إلا عندما تستيقظ هذه الحمقاء!”
صوتٌ ثانٍ، أكثر وقاحة، وأكثر سمًّا… هاجون:
“لأول مرة في حياتي، لا أريد أن تموت هذه الغبية. فقط لتستيقظ، توقّع الأوراق، ثم يمكنها أن تموت مثل فأر مريض!”
بدأتُ أرتجف، لا جسديًا فقط… بل روحيًا.
شفتاي ارتجفتا بصمت. أسناني عضّت على بعضها بقوة، محاولة كبح الصراخ الذي يتفجّر داخلي. يدي شدّت الملاءة حتى تكاد تتمزق.
ثم جاء صوت هيونا، هادئًا، حذرًا…
“اخفضا صوتكما، قد يسمعنا أحد. لا نريد المزيد من المتاعب الآن.”
عندها فقط… شعرت أن الحقيقة تنهار فوق رأسي كأنقاض مبنى متهالك.
كل ما قالته هيونا… كان صحيحًا.
تلك الهمسات التي زرعتها في أذني قبل أن تدفعني أمام تلك الشاحنة… تلك النظرات… وذلك الوجه البارد، حين تركتني أتألم في الشارع…
كان لدي بعض الشك. بعض الأمل أن يكون هناك سوء فهم، أو أن الألم غيّر نظرتي. لكن الآن؟ لا… لا مكان للشك بعد اليوم.
“لماذا؟” “لماذا عدت؟ لماذا استيقظت؟” “حتى أستمع إلى هذا؟”
كنت أرجو، على الأقل، أن أسمع من أفواههم شيئًا… أي شيء يدل على قلقهم، ولو زائفًا. كلمة واحدة… “هل أنتِ بخير؟” لم أطلب حبًا، لكن… هل كنت بلا قيمة إلى هذا الحد؟ قال والدي بصوت خافت، وكأنه يؤدي واجبًا لا أكثر:
“الآن، نحن قد اطمأننّا عليها.”
هل… هل يمزح؟ هل هذا ما يُسمّيه “اطمئنانًا”؟!
شعرتُ بانفجار صامت في رأسي. “أيعني مجرد دخولهم الغرفة، وتبادل كلمات باردة كالصقيع، ثم الخروج بلا حتى نظرة حنان… هو الاطمئنان بنظره؟!”
لكنه لم يتوقف، بل تابع حديثه بنبرة جوفاء:
“على الأقل، ليرانا الجميع ونحن نعتني بها… المهم، هيا بنا نغادر.”
إذن… كانت مجرد تمثيلية!
لم يكن حضورهم بدافع القلق… ولا حتى بدافع الذنب. بل خشية من كلام الناس، من نظرة المجتمع، من الصحف والشركاء والمساهمين. مجرد أداء… وأنا… كنت “الخشبة” في هذه المسرحية.
خطواتهم تلاشت… الباب أغلق بهدوء.
وبقيت وحدي، ممددة في ذلك السرير، تتنفس آلة بدلاً مني. عيني ما زالتا مغمضتين، وجسدي ساكن، لكن في داخلي… عاصفة.
ارتسمت على وجهي ابتسامة صغيرة، لكن ليس فيها ذرة فرح. كانت ابتسامة امرأة انتهت من الأمل… من الحنين… من الغباء.
“أنا أكرههم… جميعًا.”
أردت أن أصرخ، أن أبكي، أن أتحطم… لكنني لم أفعل.
“ما الذي كان يدفعني للتوق إلى حب هذه العائلة؟” “ما الذي جعلني أُقاتل لأجل مكان بينهم؟” “لقد كنتُ… غبية. غبية حقًا.”
ضغطتُ على الملاءة تحت أصابعي بقوة، حتى صارت يداي ترتجفان.
“لكن لن أبقى كذلك… لن أكون الغبية بعد الآن.”
“ولكن… ما الذي يجري بحق الجحيم؟”
أغمضتُ عيني بقوة، أنفاسي ثقيلة، وجسدي يئن بثقل غريب. أنا متأكدة. حين صدمتني الشاحنة… لم أمت. لقد تجسّدت. نعم، في جسد “أوريانا”، تلك الفتاة التي كنتُ أتابع قصتها بشغف… فكيف أعود الآن؟!
أدرت رأسي ببطء، وصرير عظامي كان كالطعنات في صدري. فتحول بصري إلى الأجهزة من حولي… أجهزة حديثة… شاشات… أسلاك… إبرٌ في ذراعي، أنابيب… “مستشفى؟!” “هذه… ليست دوقية سيريوس…” إنه… العالم الحقيقي.
شهقت بصوتٍ خافت حين رأيت ظلًا يقترب من الباب.
صوت أقدام. خطوات متزنة. امرأة؟ أغمضتُ عيني على الفور، واستلقيت بصمت، وكأن الحياة لم تسكنني يومًا.
فتح الباب بهدوء، ودخلت فتاة. من صوتها… ممرضة.
اقتربت بخطًى ناعمة، وتحركت حول السرير. بدأت تضبط المحاليل، وتفحص حالتي. صوتها تسلل إلى أذني، يحمل نبرة شفقة خافتة:
“مسكينة… لا أعلم كم تتألمين الآن بسبب تلك الشاحنة… عظامك كلّها تقريبًا مكسورة، ودخلتِ في غيبوبة طويلة…”
نظرت إليها ببرود متجمّد، وبركان داخلي انفجر في صوتٍ حاد:
“لا!!”
الممرضة تجمدت في مكانها، تنظر إلي بقلق.
“اسمعيني جيدًا… لا أريد أن يأتي أيٌّ منهم. لا تتصلي بهم. لا تخبري أحدًا أنني استيقظت.” “أنا فقط… أريد هاتفًا. أريد الاتصال بشخص واحد، وهذا كل ما أطلبه.”
كانت يداي ترتجفان، لكن صوتي ثابت… عينيّ جامدتان، خاليتان من الدموع.
نظرت إلي للحظات، ثم أومأت بحذر:
“أجل يا آنسة… كما تريدين.” أمسكت بالهاتف بيدي المرتجفتين… أناملي كانت باردة، وكأن الدم لا يصلها، ومع كل ثانية تمر… كان صدري ينقبض أكثر.
مرّت ثلاثة أشهر. ثلاثة أشهر منذ أن تجسدت في “أوريانا”، منذ أن عشت داخل قصة خيالية كنت أعرف كل تفاصيلها… ومن ثم، عدت فجأة إلى هنا… أو ربما… لم أعد؟
هل كنتُ نائمة؟ هل ما عشته كان حلماً طويلاً؟ أم أن ما أراه الآن هو الكابوس الحقيقي؟
رغم كل الشكوك، كان هناك شيئان فقط واضحين تماماً في ذهني: رقمان… اسمان… قلبان لا أنساهما مهما تهت بين العوالم.
تشاه إن… صديقتي الأقرب، التي تقف بجانبي حتى في أسوأ اللحظات. هيون جاي… الشخص الوحيد الذي شعرت معه بالأمان، حتى في صمته.
كتبت رقم “تشاه إن” بسرعة. أنفاسي متوترة، يداي ترجفان أكثر، ضغطت على زر الاتصال، وضعته على أذني… لكن…
“الرقم الذي طلبته غير متاح حالياً. يرجى المحاولة لاحقاً.”
قطعت الاتصال. لم أشعر بخيبة أمل بقدر ما شعرت بالفراغ يعود من جديد. كأن الكون يعاقبني… كأن كل الأبواب مغلقة في وجهي.
لكنني لم أتوقف.
هيون جاي.
كتبت رقمه بخفة، كانت يدي ترتجف فوق الشاشة، وضعت الهاتف على أذني، وابتلعت ريقي بصعوبة، قلبـي… كان ينبض بعنف، كأنه يحاول الخروج من صدري.
مرة… مرتين… ثلاث مرات…
ثم— رن صوته أخيرًا من الطرف الآخر، مبحوحًا، نائمًا، ثقيل النبرة:
“أه… من معي… في هذا الوقت؟”
كان صوته مشوشًا، نائمًا ربما، أو متعبًا، لكنني لم أتمكن من الرد، شفتاي ارتجفتا بصمت، كأن كل الكلمات تجمدت عند حلقي، وكل ما استطعت فعله هو الاستماع… والشعور.
“أنت…؟! فلتتحدث يا هذا… أو أغلق الخط إن كنت ستصبح أخرس!”
صوته ارتفع بغضب بسيط، لكني… لم أشعر بالخوف، بل شعرت بالدفء.
“جاي…” همست بها، وكأنني ألقي باسمي عليه كمن يلقي بحبل نجاة.
“أنت… أنت…” ثم دوى صراخه في السماعة، صدمة، وجزع، ولهفة: سوه؟! مهلاً… هل هذه خدعة؟ من أنت؟ لو كانت هذه خدعة أقسم أنني—”
لم أستطع التنفس للحظة، ذكرياتي معه، مع تشاه إن، كانت تتزاحم في رأسي.
هو لم يكن مجرد صديق… كان الركيزة التي أسندتُ قلبي عليها. كأخٍ أكبر لم أحظَ به قط. ومنذ أن تجسدت… لم أشعر بذلك الدفء… لا في العائلة الجديدة، ولا في أي حضن.
صوته الآن، مجرد صوته… أعاد إليّ إحساس أنني… لست وحدي.
“هل أصابك الصمم الآن أيضًا؟!”
كان صوته مزيجًا من التوتر واللهفة.
فهمست أخيرًا، بصوت مبحوح، ترتجف فيه أنفاسي:
“جاي… إنها أنا… أنا سوه.” حين همست له باسمي، سُمعت فجأة أصوات حركة سريعة على الجانب الآخر من المكالمة، صوت ارتطام خفيف، ثم صوت ركض داخل غرفة… وصوت أنفاسه يعلو:
“أنتِ… هل استيقظتِ؟ اللعنة، لم يخبرني أحد بشيء! هل تشاه إن عندك؟! منذ متى وأنتِ مستيقظة؟!”
كلماته خرجت بسرعة، متلاحقة، مشحونة بالدهشة واللهفة… لكنها فجرت شيئًا في داخلي…
قطرات… دافئة… بدأت تتساقط على الوسادة. فتحت عيني ببطء، نظرت لقطرات الدموع التي لم أشعر بها وهي تسقط…
“هاه؟… لماذا أبكي؟” “لماذا تنهمر دموعي… دون أن أحس بها؟”
كان صوتي هامسًا، مذهولًا.
“سوه…؟” نطق اسمي جاي من الطرف الآخر بنبرة منخفضة، مرتبكة، شبه خائفة.
فهمت أنه شعر بذبذبة الحزن في صوتي، أو لاحظ اختناقي المفاجئ.
“جاي، أنا بخير… لقد استيقظت للتو. تشاه ليست هنا… في الحقيقة لا أحد يعلم أنني استيقظت. لم أخبر عائلتي، فقط… أردت رؤيتك أنت وتشاه أولًا.”
صمت من الطرف الآخر لحظة… ثم قال بنبرة حاسمة، مستعجلة:
“أنا الآن أرتدي سترتي… في الطريق إليك. سأمر على تشاه ونأتي فورًا… انتظرينا!”
صرخت به فجأة، قلقة:
“جاي، انتظر! لا تخبر أحدًا، ولا—”
لكن قبل أن أُكمل، صمتت الخطوط.
أنزلت الهاتف من على أذني ببطء، نظرت إلى الشاشة… “انقطع الاتصال.”
أطلقت زفيرًا حزينًا، وأعدت الهاتف إلى جانب السرير، استلقيت ببطء، غطيت نفسي بالبطانية، ونظرت إلى السقف الأبيض الباهت.
“أتمنى أن يأتيا بسرعة… أنا حقًا…”
توقفت الكلمات على لساني، فقط، عانقت الوسادة.
“أنا حقًا… أشتاق إليهما.” وغفوت بعدها بهدوء…
صوت خافت بدأ يخترق سبات نومي:
“سوه… سوه… سوه!!”
ارتجفت أهدابي، فتحت عيني ببطء، والضوء الأبيض يلطخ بصري كوميض.
وأول ما رأيته… كانت هي.
فتاة بشعرٍ أشقر ينسدل على كتفيها كشلال ذهبي، وعينين سوداويّتين كان فيهما انعكاس للسماء حين تتلبّد بالحزن.
همستُ بصوت بالكاد يُسمع:
“…تشاه؟”
وقبل أن أستوعب، ارتمت عليّ بحضنٍ مباغت:
“سوه!!”
شعرت بضغطٍ مفاجئ على جسدي… وكأن عظامي التي بالكاد التحمت، تتحطم مجددًا تحت شدة عناقها.
“آه…! تشاه، عظامي…!”
لكنني لم أبعدها. لم أصرخ. رغم الألم، كان قلبي… سعيدًا.
أن يُحتضن المرء بشوق… بعد برودة الخيانة، هو في حد ذاته شفاء.
لكن فجأة، سُحب جسد تشاه للخلف:
“أيتها الغبية… عظامها مكسورة، ستُحطمينها أكثر مما هي محطّمة!” صوته جاء عاتبًا وهو يشدها من خدها.
نظرت إلى مصدر الصوت، كان شابًا بشعرٍ أحمر متوهّج، أشبه باللهب، وعينين زرقاوين كصفاء البحر.
“جاي…؟”
نطقتُ بدهشة، رمشتُ مرتين، وكأنني أتحقق من أن ما أراه حقيقة:
“هل… صبغتَ شعرك؟ لم أكن لأتعرف عليك بهذا اللون!”
ابتسم بسخرية خفيفة، لكن نبرة صوته لم تُخفِ دفئها:
“يا لكِ من وقحة… رغم حالتكِ الحرجة، وعظامك المهشّمة… ما زال لديك وقت للمزاح؟”
اقترب أكثر، وجلس برفق على طرف السرير، عيناه تتأملاني بصمتٍ طويل، وكأنّه كان يحاول التأكد بأنني حقًا أمامه.
“كيف لم تتعرفي علي؟ نحن أصدقاء طفولة، سوه. لو نَسيني الأصدقاء الجدد، لتفهمتُ الأمر… لكن أنتِ؟”
ثم أمال رأسه قليلًا، وابتسامة خفيفة على شفتيه:
“سأكسر لكِ ذراعًا أخرى، لو تجرأتِ على نسياني.”
ضحكتُ… بصوت خافت، ممتزجٍ بالدموع التي لم أعد أملك القدرة على حبسها. ضحكة لم تكن قوية، لكنها خرجت من عمقٍ بداخلي… مكانٍ ظننت أنه مات.
لقد عدتما إليّ… بعد كل شيء، ما زال هناك من يحبني.
ترددتُ قليلًا، ثم سألت بخفوتٍ حذر:
“صحيح… ماذا عن خُطوبتكما؟ ما الذي حدث لها؟”
تبادلا النظرات، صمتٌ ثقيل ساد الغرفة.
نظر إليّ “جاي”، ثم تنهد ببطء، ومد إصبعه بخفة ليطرق جبيني بلطمة ناعمة:
“هل يعمل هذا الدماغ مجددًا؟ كيف لنا، أنا و”تشاه”، أن نقيم خطوبة وصديقتنا العزيزة… كانت في غيبوبة؟ بل، حتى لو لم تكوني رئيسة شركتنا… كيف نحتفل ونحن لا نعلم إن كنتِ ستستيقظين؟”
قالت “تشاه”، وهي تضع يدها على صدرها بامتعاض مشوب بالعاطفة:
“أجل، سوه… هل تمزحين؟”
نظرت إليهما، وشعرت بالحرج… أردت أن أقول شيئًا، لكن لم أجد الكلمات.
“ولكنكما… كنتما متحمّسين جدًا قبل ذلك… أليس كذلك؟”
قهقه “جاي” بهدوء، ثم هزّ رأسه وقال:
“كنا… أجل. لولا أن شخصًا أحمق، لم يعرف كيف يمرّ من الطريق، وجعل شاحنة تصطدم به… قبل يوم من خطوبتنا.”
حاولتُ أن أبتسم، وضغطت بإصبعي على خدي بخجل:
“أجل… أنت محق.”
في تلك اللحظة، بدا “جاي” غير مدرك لكل ما مرّ عليّ. لم يكن يعرف شيئًا مما حدث… من دفعٍ… من خيانة… من موتٍ مؤجل.
ضحكت “تشاه”، وبدا أن الذكرى أثارت فيها موجة من الحزن المغلف بالحب:
“سوه، أتدرين؟ رأيت “جاي” يبكي لأول مرة في حياتي. ظلّ يبكي حتى بعد مرور ثالثة أسابيع… لم يتوقف. كان يصرّ على صبغ شعره من جديد، للأسود، حزنًا عليك. وكان يلوم نفسه بلا توقف.”
صرخ “جاي” فجأة، وقد احمرّ وجهه:
“أنتِ من بكتِ! أنظري إلى نفسك أولًا… قبل أن تتحدثي عني. وانظري إلى عينيكِ… لا زالتا متورّمتين، حتى بعد وضعك للمكياج!” ذعرتُ قليلاً، اتسعت عيناي، ونظرت نحو تشاه بدهشة مكتومة:
“مهلاً، تشاه… ماذا قلتِ؟ كم مرّ على دخولي في الغيبوبة؟”
جفّ حلقي، وتراجعت للخلف في السرير دون أن أشعر، ارتجفَت أناملي، وحدقتُ في الفراغ أمامي… ثلاثة أسابيع؟ لا، هذا غير منطقي… مستحيل…
“ماذا؟!…”
همست بالكلمة وكأنها خرجت من أعماق صدري، لم يكن صوتي فقط المرتجف… بل قلبي أيضاً.
أنا متأكدة… أنا متأكدة أنني عشت ثلاثة أشهر كاملة في جسد أوريانا… عشت كل لحظة، كل مشهد، كل ألم وخوف ودهشة… شعرت بالبرد، وشعرت باليد التي كانت تمسك بي حينها… شعرت بالخيانة… كيف يمكن لتلك الحياة أن تكون مجرد حلم؟
هل… هل كان كل شيء وهمًا؟ هل فقدت عقلي؟ أم أن هذا العالم هو الوهم؟ ما الذي يجري بحق الجحيم؟
شعرت بأن الهواء من حولي ثقيل… وكأن جدران الغرفة تضيق… تضغطني… وضعت كفي على جبيني، أحاول لملمة أفكاري المتناثرة.
تشاه اقتربت مني بخفة، ثم جلست على حافة السرير، ومالت برأسها، تبتسم بلطف طفولي:
“سوه… ما أمر هذا الوجه المتجهم؟ هيا، ابتسمي كما تفعلين دائمًا… لا يهم إن مرّت ألف سنة عليك في الغيبوبة، المهم… أنكِ استيقظتِ.”
ابتسامة…
لكنني كنت أعلم… أعلم تمامًا أنني لا أبتسم كما كنت أبتسم من قبل. في حياتي السابقة، قبل أن أتجسد في هذا الجسد… كانت الابتسامة شيئًا نابعًا من الداخل، شيئًا حيًّا، دافئًا، يشبهني. أما الآن… فهي باهتة، خافتة، كأنها لا تخصني، كأن وجهي لم يتعلم كيف يبتسم بعد.
نظرات جاي استقرت عليّ لبرهة… عيناه الزرقاوان تحركتا بهدوء فوق وجهي، يقرأان ما لا يُقال، ثم التفت نحو تشاه، ملامحه ثابتة لكن نبرته هادئة آمرة:
“تشاه، فلتنزلي. أحضري لسوه ولنا عصير وبعض المرطبات.”
تشاه شهقت قليلاً، وقد بدت الصدمة واضحة في تعبير وجهها:
“هاااااه؟ ماذا؟ أليس من المفترض أن تحضرها أنت؟ أليس من المفترض أن ينزل الرجل؟!”
رفعت يدي ببطء، وأشرت إشارة خفيفة، صوتي خرج كأنني أتحدث من داخل بئر:
“يا رفاق… لا داعي… أنا لا أحتاج شيئًا.”
لكن لا أحد استجاب… كأن كلماتي لم تكن موجودة.
جاي أمال رأسه قليلًا، ثم قال بنبرة منخفضة تميل للعبث:
“ماذا لو تركتُكِما هنا أنتِ وسوه؟ وتعرضتما لشيء؟ هل تستطيعان حماية نفسيكما؟ يا تشاه… أو يا سوه؟”
تشاه عضّت شفتها، ثم نفخت خديها وعبست بغضب طفولي:
“يااااه… حسنًا، سأَنزل وأُحضِرها.”
نظرت إليهما برجاء أخير، صوتي يرتجف قليلًا:
“يا رفاق… قلت لا داعي… يا رفاق…”
لكن… تجاهلاني. كأنني لم أتكلم. كأنني لا وجود لي.
تشاه استدارت بخفة، ولوّحت بيدها وهي تغادر الغرفة… خطواتها الرشيقة تبتعد… والباب أُغلق وراءها بهدوء، لكنه بدا لي كصفعة.
وغمرني الصمت… أنا وجاي فقط في الغرفة، أنا وذكرياتي، أنا وابتسامتي التي لم تعد تشبهني…
جلس “جاي” بصمت لثوانٍ، عيناه تراقبان وجهي وكأنهما تبحثان عن خيوط الحقيقة بين الملامح. تنهّد أخيرًا، ثم قال بصوتٍ منخفض لكنه حازم، نبرته تخرج من أعماق قلبه:
“سوه… أريد أن أسألك شيئًا.”
رفعت رأسي نحوه ببطء، لم أتحدث، فقط نظرت إليه، يدي تعبث ببطانة الغطاء الموضوع على قدميّ، لا إراديًا.
“ذلك الحادث… لم يكن حادثًا عاديًا، أليس كذلك؟”
صوته هذه المرة بدا أكثر جدية، وعيونه لم ترمش، حدّق في عيني بثبات، كأنه كان يحاول أن ينتزع الحقيقة من داخلي دون أن أنطق.
“مهما فكّرتُ في الأمر… وأنتِ في الغيبوبة… لا أجد تفسيرًا منطقيًا.”
اقترب قليلاً، وكأن قربه سيجبرني على ألا أهرب بصمتي:
“من غير الطبيعي ألا تكوني حذِرة، أنتِ دائمًا كنتِ كذلك… هل جرى شيء؟ هل… دفعك أحد؟ هل كان هناك أحد خلف الحادث؟”
خفضت نظري فجأة… لم أستطع مواجهته، شعرت بأن الهواء في الغرفة أصبح أثقل، كأن كل ذرة أكسجين تحولت إلى حمل على صدري.
تمتمتُ بصوت خافت:
“لا، لم…”
لكن “جاي” قاطعني قبل أن أُكمل، صوته كان حادًا قليلاً، لكنه مهتز بالعاطفة:
“قبل أن تقولي لي إن شيئًا لم يحدث، وقبل أن تدّعي أنكِ بخير… سأقول لك شيئًا واضحًا.”
مدّ يده، ورفع ذقني بخفة، مجبرًا إيّاي على النظر في عينيه. كانت عيناه زرقاوين صافيتين، لكني رأيت فيهما قلقًا يائسًا، وغضبًا مكبوتًا.
“ابتسامتك… لم تعد هي نفسها.”
قالها ببطء، وكأنه يلفظ شيئًا مؤلمًا.
“ليست تلك الابتسامة الساذجة… الطيبة… الدافئة… ابتسامتك الآن باهتة، جامدة… تبدو كقناع مرسوم على وجهِ شخصٍ ليس أنتِ.”
سكت لحظة، ثم تابع:
“لذا… أرجوكِ، أخبريني… ما الذي جرى؟ قولي الحقيقة… بكل وضوح.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات