مرّ الوقت، ومعه بدأت كاميلا تذبل كزهرة نُسيت تحت شمس الخريف. جسدها أصبح هشًا، كأن الهواء الثقيل يُثقل أضلاعها، وروحها تُنادي في صمت من عمق الألم.
كنت جالسًا في مكتبي. الأوراق مبعثرة أمامي، يدي تمسك بالقلم، لكني لم أكتب حرفًا. كل شيء أمامي مشوش، الكلمات لا تعني شيئًا، السطور تنكمش وتضيع بين أفكاري.
أسندت جبيني إلى كفيّ، وأطلقت تنهيدة طويلة، ثقيلة، كأنها تنزف من قلبي لا من رئتي.
“لماذا؟… لماذا لا يمنحني القدر لحظة راحة؟ لم لا تمرّ الأيام دون أن يخطف شيئًا أحبه؟”
نهضت من مكاني ببطء، وكأن كرسيي يأبى أن يتركني، وسرت عبر الممرات الهادئة للقصر، حيث كل جدار فيها يردد صدى الخوف الذي أعيشه.
وقفت أمام باب غرفة كاميلا. طرقت بخفة… لم يكن هناك رد.
فتحت الباب ببطء، ودخلت.
رأيتها… تستلقي على السرير الأبيض، ووجهها شاحب كضوء القمر في ليلة باردة. عيناها نصف مغمضتين، تتنفس ببطء. ذلك الجسد النابض بالحياة سابقًا أصبح الآن هشًا كورقة خريف.
سمعتني فنهضت قليلًا، ثم قالت بصوت خافت متقطع:
“إدوارد… أتيت؟ رغم انشغالك… دائمًا تأتي لتطمئن. شكرًا لك…”
جلست بجانبها على السرير، ومددت يدي لأسند ظهرها بلطف. كانت يدها باردة كثلج الليل.
قلت، محاولًا الابتسام:
“كفى عن هذا. لا تهتمي بي الآن. كيف حالكِ؟ هل تشعرين بتحسن؟”
هزّت رأسها ببطء وابتسمت، تلك الابتسامة التي تُخفي أكثر مما تُظهر.
“أنا بخير.”
نظرتُ إليها بحدة، ثم أمسكت يدها بلطف، وضغطت عليها:
“كذبة ضعيفة. عيناك تقولان كل شيء. لماذا تكذبين عليّ، كاميلا؟”
أدارت وجهها للجانب الآخر، كأنها تهرب من نظرتي. ارتعشت شفتاها، ثم همست بصوت كاد يُكسرني:
“إدوارد… لا تقل هذا. الأطفال… خائفون بالفعل.”
أغمضتُ عيني بقوة، شعرت بمرارة حارقة في حلقي.
ثم تابعت كاميلا، بينما نظرتها معلقة بسقف الغرفة:
“أوريانا… كانت هنا، تبكي. قالت إن ليونارد يهرب من دروسه، يبحث في كتب السحر عن علاج. وأوسكار… أغلق على نفسه الباب، لا يأكل، لا ينام، يتنقل بين الكتب القديمة كالظل.”
سكتت للحظة، ثم وضعت يدها على قلبها:
“أنا لا أستطيع الرحيل… ليس الآن. ما زلت لم أرَ إيثان، لم ألمس وجهه، لم أضمه ولو مرة. وتلك الأكاديمية الحمقاء ترفض رؤيته لنا بحجة حمايته من طاقته…”
أمسكتُ وجهها بكلتا يديّ، ونظرت مباشرة في عينيها:
“لن يحدث شيء. لن أسمح بشيء أن يحدث لكِ. كاميلا… أنا أقسم.”
أغمضت عينيها للحظة، ثم همست:
“إن… إن حدث شيء، أرجوك… اعتنِ بالأطفال. واعتنِ بأوريانا. هي ابنتك، حتى وإن لم تكن من دمك.”
توقفت أنفاسي للحظة، ثم انحنيت وقبّلت يدها:
“هي ابنتي، كاميلا… سواء قلتِ ذلك أم لا. أنا لن أتخلى عنها… ولن أتخلى عنكم.”
ارتسمت ابتسامة على وجهها الشاحب، وقالت بصوت متهدج:
“أنا سعيدة… حقًا سعيدة… لأنك زوجي.”
وقبل أن أجيبها، دوّى صوت خافت خلف الباب، طرق خفيف.
ثم تلاه صوت ناعم، صغير، يهمس:
“أبي… هل يمكنني الدخول؟”
توقفت أنفاس كاميلا للحظة، ثم همست: “هذا صوتها…”
فُتح الباب ببطء… ودخلت فيكتوريا.
شعرها الأحمر ينسدل بنعومة على كتفيها، وعيناها الخضراوان تلمعان بحذر.
رفعت رأسها ونظرت إليّ، ثم إلى والدتها.
“أمي… هل أنتِ بخير؟”
كاميلا ابتسمت…
لكن لم تكن تلك الابتسامة التي أعرفها. لم تكن دافئة، ولا مشرقة، بل كانت مجرد ظل لابتسامة… مهزوزة، مرهقة.
قالت بصوت مبحوح، يحمل نغمة مائلة للتيه:
“أنا بخير… شكرًا لكِ يا فيكتوريا.”
اقتربت فيكتوريا خطوة، ومدّت يدها الصغيرة بأريحية مفرطة، وفيها باقة ورد أنيقة.
“تفضّلي، أمي… أحضرت لكِ وردًا.”
تناولت كاميلا الباقة ببطء، وكأنها تخشى أن تنكسر بين يديها.
“شكرًا لكِ، فيكتوريا… على رعايتك لأمك.”
ابتسمت فيكتوريا.
لكن تلك الابتسامة… لم تكن بريئة، ولم تكن طفولية. كانت هادئة… وباردة جدًا، حتى إنني شعرت بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
“بالطبع… فهي أمي، بعد كل شيء.”
ثم انحنت بانضباط دقيق، ورفعت رأسها بهدوء مصطنع.
“إذاً… بعدما اطمأننت، سأغادر.”
تقدّمت بخطى ناعمة نحو الباب، لكن قبل أن تخرج، استدارت ببطء… نظرت إليّ، وابتسمت.
تلك النظرة… كأنها نظرة لا تليق بفتاة في العشرة. كانت جامدة… كأنها قناع.
(ما هذه الابتسامة؟ لماذا تنظر إليّ هكذا؟)
ثم خرجت.
غابت خلف الباب… لكن ظلّها بقي، يثقل الغرفة.
تنهدت كاميلا، بصوت متعب أشبه بزهقة روح.
“آه… ظننت أنها لن تغادر.”
نظرتُ إليها، بانتباهٍ أكبر.
“كاميلا… هل تزورك كثيرًا؟”
أجابت وهي تسند ظهرها للمخدات خلفها:
“أجل… منذ مرضي، تأتي كل يوم تقريبًا. تحضر الزهور… تجلس… تتحدث. أحيانًا تطيل الصمت أكثر من الحديث.”
صمتت لحظة، ثم نظرت إلى جانبها. كانت عيناها تائهتين.
“لكن… يبدو أن الحديث معها ما زال يؤلمك، أليس كذلك؟”
ابتسمت كاميلا، ابتسامة واهنة جدًا، وقالت بهدوء:
“قليلًا فقط… قليلًا.”
أردت قول المزيد، لكني شعرت أنها وصلت إلى حافة التعب.
“حسنًا… سأدعكِ ترتاحين الآن. فلتأخذي قسطًا من الراحة، كاميلا.”
استدرت مغادرًا…
رغم مرور ثلاث سنوات كاملة… أصبحت أوريانا في الخامسة عشرة من عمرها، وفيكتوريا في الثالثة عشرة، وأوسكار في الثالثة والعشرين، وليونارد في العشرين، وإيثان في العاشرة.
ومع أن المرض بات ينهش جسد كاميلا يومًا بعد يوم، لم تستسلم… وأصرت، هذا الصباح، على أن تتمشى قليلًا مع أوريانا في حديقة القصر.
كانت خطواتها بطيئة… وذراعها تتكئ بخفة على ذراع أوريانا، لكنها تبتسم… دائمًا تبتسم.
ثم رفعت ذراعيها الضعيفتين إلى الأعلى، وأظهرت عضلاتها كما يفعل الأطفال، وقالت بخفة:
“انظري! هذه عضلات أمكِ الخارقة!”
ضحكت أوريانا، ضحكة صافية، لا تشوبها شفقة:
“أمي… حقًا، أنتِ مضحكة!”
توقفت كاميلا لحظة، ثم نظرت إليها بدهشة، كأنها سمعت كلمة غريبة:
“أنا؟ مضحكة؟! لم يقل أحد هذا لي من قبل…”
ضحكتا معًا — ضحكة قصيرة، نادرة، لكنّها صادقة… كأنها تلوّن الحزن المخيّم بخيط صغير من نور.
كانت الشمس تغرب بخفوت، تنسحب من السماء كما لو أنها تخشى أن تشهد ما سيحدث.
تسللت خيوطها الضعيفة عبر نوافذ الحديقة، حيث تمشي كاميلا إلى جوار أوريانا بخطى بطيئة. رغم ابتسامتها المعتادة، بدت واهنة… شفافة كأنها على وشك الذوبان في الهواء.
توقفت فجأة، وضغطت يدها على صدرها. أغلقت عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا كما لو أنها تُبعد ثقلًا عن قلبها، ثم نظرت إلى أوريانا بابتسامة باهتة.
“أوريانا…” همست بصوت خافت، كأن كل كلمة تسحب من روحها شيئًا.
“أريد أن أطلب منك شيئًا… لو حدث لي شيء…”
تجمدت أوريانا، قلبها بدأ بالخفقان بقوة.
“أرجوكِ، إن حدث لي مكروه، اعتني بـ إيثان…” “هو… لم يرَني منذ أن كان في السابعة من عمره، ولم أعانقه منذ سنوات، لا أعلم حتى… كيف يشعر الآن.”
وضعت يدها على قلبها مرة أخرى، ونظرت إلى الأرض.
“لقد كان لطيفًا… صغيرًا دافئًا… وأخشى أنه سيحزن، إن رحلتُ دون أن أعطيه كل الحب الذي يستحقه.”
…
أوريانا كانت تقبض على حافة فستانها بقوة، أصابعها ترتجف… ثم انهمرت دموعها فجأة، كأن السد انهار بداخلها.
“لا، لا، لا، أمي… لا تتحدثي هكذا، أرجوكِ!” “أنتِ بخير، ستبقين بخير! لن يحصل لكِ شيء، لن أدع ذلك يحدث!”
اقتربت أكثر، أمسكت بكاميلا من ذراعها، عيناها تلمعان بالخوف.
ابتسمت كاميلا، بعذوبة أمٍّ تعرف النهاية، لكنها تخشى على من بعدَها، لا على نفسها. “أجل… سأكون بخير، لا تقلقي… أنا فقط أقول هذا… لأنني…”
لكنها لم تُكمل.
فجأة… تراجعت خطوة، وعيناها فقدتا التركيز، شفتاها ارتجفتا بلا صوت، ثم سقطت.
“أمي!”
صرخت أوريانا، ركضت نحوها، جثت على ركبتيها بجانبها.
صوت أوريانا اخترق هدوء الحديقة، عويلها المكسور، المرتعش، كأنه نداء من روح تتهاوى في هاوية الذعر. في ثوانٍ، كان الحراس والخدم يتراكضون من كل جهة، بعضهم لا يعرف ما الذي يحدث، والبعض الآخر يركض لأن الصوت وحده كافٍ ليشعل القلق.
حملوا كاميلا بين الأذرع، جسدها خفيف… وكأنه بدأ يفقد وزنه قبل أن يفقد وعيه. أوريانا تتبعهم وهي تبكي بلا توقف، تمسك طرف ثوب كاميلا كمن يتمسك بالحياة ذاتها. …
دخلتُ الغرفة بخطوات ثقيلة، فزعة، متسارعة، تكاد الأرض تنزلق من تحتي. صدري يعلو ويهبط وكأنني قطعت مئة معركة في لحظة.
نظرت إلى السرير… كانت كاميلا هناك.
ساكنة.
بيضاء كزهرة جافة فقدت الندى.
كان الطبيب بجوارها، وجانب السرير تجلس أورايانا تبكي، وجهها مدفون في الغطاء، وكتفاها يهتزان.
ليورنارد يقف دون صوت، وأوسكار قرب النافذة، عينيه تائهتان، يُخفي شيئًا خلف قناعه الصارم.
تمالكت نفسي بصعوبة، اقتربت من الطبيب وسألته، بالكاد خرج صوتي:
“هل أفقت؟ ما الذي حدث؟”
رفع الطبيب رأسه، عينيه مترددة.
“سيدي الدوق… للأسف، الدوقة في حالة غيبوبة.”
…
لم أدرك ما فعلته، إلا عندما كان طرف سيفي على عنقه.
“غيبوبة؟! من تظن نفسك لتتحدث عن كاميلا هكذا؟ ما فائدة وجودك إذًا؟ كيف تنهار أمامك ولا تفعل شيئًا؟!”
جسدي كله كان يرتجف. قلبي يطرق صدري بجنون، ودم ينهدر في أذني كصوت الطبول.
رأيت أوسكار يتقدم بهدوء، يضع يده على كتفي، بنبرة قوية لكنها مشبعة بالرجاء:
“أبي… أرجوك. اهدأ.”
نظرت إليه… ثم إلى أورايانا، وجهها مبلل بالدموع، وشفتيها ترتجفان كمن يتوسل للعالم ألا يسلبه قلبه مرة أخرى.
خفضت سيفي ببطء، وأعدته لغمده. أغمضت عيني.
“لا يجوز أن أفعل هذا… أمامهم.”
أخذت نفسًا عميقًا.
لكن لم يكن هناك هواء كافٍ في الغرفة. كأن الغياب بدأ فعليًّا… والغصة الأولى لم تزل في بدايتها.
ومنذ ذلك اليوم… تفككت أُسرتنا.
كاميلا ترقد كأنها غادرت دون وداع. أنا أقضي نهاري وليلي بين الكتب والرسل والسحرة والأطباء، أبحث كالغريق عن قشة قد تعيد لها الوعي. أوسكار أصبح باردًا، يثور لأتفه الأسباب، ويغلق على نفسه أبواب غرفته أكثر مما يفتح قلبه. أما ليونارد… فصمته مريب. لا يشبه ذلك الصمت الناضج، بل صمت طفل تائه خسر شيئًا كبيرًا ولا يريد الاعتراف به.
ظننت، بل أقنعت نفسي، أن الأفضل أن أتركهم. أنا لست جيدًا في التعبير… أخشى أن أكسرهم بكلمة، بصوتي… بجسدي المنهك.
وفجأة… طرقٌ على الباب.
دخل ليونارد بخطى ثابتة، لكن عينيه كانتا تنطقان بشيء آخر.
“أبي، أردت التحدث في أمر مهم.”
اقترب مني ووضع مجموعة من الأوراق على المكتب أمامي. نظرت إليه باستغراب، ثم إلى الأوراق.
“ما هذا؟”
“أبحاث… قمت بها مع بعض السحرة. توصلنا إلى أن ما تعانيه أمي ليس مرضًا طبيعيًا، بل هناك من يقوم بامتصاص سحرها… طاقتها الحيوية.”
أصبحت أنظر إليه بعين متسعة، لكنه أكمل، وعيناه تنظران إلى الأرض:
“يجب أن يكون هذا الشخص قريبًا منها… وقادرًا على استخدام السحر. والأمر الغريب، أن حالتها بدأت تتدهور منذ قدوم—”
نهضت من مكاني في لحظة، ويدي ارتفعت تلقائيًا وصفعته صفعة مدوّية.
“ما الذي تفكر به، ليونارد؟!”
شدته من قميصه بقوة، حتى صار أنفه أمام أنفي.
“لا تخبرني… أنك تشك في أختك؟!”
رفع عينيه إليّ. كانت نظراته مضطربة، مرهقة، خالية من أي حسم.
“لكنها ليست أختي حقًا… وماذا لو كانت تتظاهر؟ ماذا لو كانت—”
صفعة ثانية قطعت كلماته.
تراجعت خطوة، وأنا أنظر إلى عينيه… ما هذا؟ نظرة فارغة… كأنني أنظر إلى روح مكسورة… كأن هذا الطفل لم يعد يرى الحقيقة أصلًا.
تنفّست بقوة، ثم بصوتٍ حاد متماسك:
“ليونارد… هذا آخر تحذير سأقوله في هذا الأمر.”
اقتربت أكثر، نظرت في عينيه مباشرة.
“لا تقترب من أختك مجددًا. هل تفهمني؟ مهما كانت شكوكك… أختك تبقى تحت حمايتي. فاخرج من هنا… فورًا.”
تجمّد للحظة، وعيناه في ذهول… كأن شيئًا داخله انكسر هو الآخر.
ثم استدار… وخرج.
الباب أُغلق بهدوء… لكن الصوت ظلّ يتردد في أعماقي كضربة سيف شقّت قلبي نصفين.
سحقًا… ما الذي يجري؟
ليونارد… لم يكن هكذا.
هو لم يكن ولدًا يشك بأخته، أو يرمقها بتلك النظرات الباردة. أنا من يعرفه… أنا من ربّيته على يديّ، على المبادئ، على الحب. لكن اليوم… اليوم نظرتُ إلى عينيه ولم أرَ شيئًا.
كأن الحياة انسحبت من داخله.
هل أنا من أوصلته إلى هذا؟ هل سكوتي… وتركهم ينهارون بصمتهم، جعلهم ينهارون أكثر؟
نعم، حتى أنا… تلك الأفكار السوداء راودتني، تسلّلت مثل طيف خبيث إلى رأسي. لكنني كنت أطردها… أستعين بسحر تهدئة العقل… أعالج الشكوك كما أعالج جراح الحرب.
لكن… ماذا عنهم؟ ماذا يفعل طفل حين يجد نفسه في دوامة لا يستطيع حتى أن يشرحها؟
ومرت الأيام… لكنها لم تُشفِ شيئًا، بل زادت الطين اختناقًا.
أوسكار… لم يعد كما كان.
ازداد حدّة في كل تصرف. كلماته تجاه أوريانا أصبحت سكاكين مغروسة في الهواء. ينهرها، يسخر منها، يتجنّب حتى النظر إليها، بل أحيانًا… يفتعل مواقفًا ليؤذيها.
كنت أعاقبه. بقسوة. أحيانًا بكلمات صارمة، وأحيانًا أضطر للضرب — وأنا، الذي لا أحب مدّ يدي على أولادي، أصبحتُ أضربه كي أوقفه. لكنه لم يتوقف تمامًا… فقط أصبح أكثر خفاءً.
في نفس الوقت، ازداد تقرّبه الغريب من فيكتوريا. كأنها أصبحت محور اهتمامه، مصدر ثقته الوحيد… أحيانًا، كانت تصرفاته تُثير قلقي، وكأنهما يتشاركان نظرات لا أفهمها، لغة غير منطوقة.
أما ليونارد… فقد أطاع أمري. لم يقترب من أوريانا ولا من فيكتوريا.
لكنه أصبح شيئًا آخر. هدوءه أصبح مريبًا. الكل يلقبه الآن بـ”النبيل المضيء” بسبب لطافته، تبسّمه، وأناقته، لكنني أعلم… أعلم أن هذا اللطف مجرد قناع.
وراء تلك الابتسامة… عاصفة.
كل ما كان متماسكًا… بدأ ينهار، بصمت، بهدوء، لكن بثبات.
وأنا… في مركز كل هذا، أشعر كأنني أُحكم قبضتي على بيت من الرمل، كلما ضغطت أكثر… تفتّت في يدي أكثر.
“مرت سنتان…”
ولا شيء تحسّن. بل كل شيء ازداد سوءًا.
أوريانا…
تلك الطفلة التي دخلت هذا القصر بملابس ممزقة وعينين خائفتين، أصبحت الآن “سمّ دوقية سيريوس” كما يسميها النبلاء.
يا لهم من أوغاد…
لو كانت الكلمات تقتل، لكنت مزّقت ألسنتهم قطعة قطعة. إنهم لا يرون سوى القشور، لا يعرفون شيئًا… لا يرون هشاشتها، لا يسمعون صمتها الذي يصرخ في وجهي كل ليلة.
أنا أعلم.
أعلم أنها ليست السبب… بل هناك من يدفعها نحو الهاوية.
أعلم أنها لا تفهم الكثير من دهاء النبلاء وخبثهم، هي فقط… طيّبة بطريقة مزعجة، ومؤذية لنفسها.
لكن المشكلة الأكبر…؟
أنها لا تتكلم.
حتى عندما أقترب منها وأجثو لأكون في مستواها، وأحدثها بهدوء، وأفتح لها أبواب صدري وقلبي…
لا تجيب.
تقف هناك فقط، تحمل بداخلها حممًا من الألم لا تنفجر، لا تنسكب… فقط تحترق بها ببطء.
كم مرة جئت إليها؟ كم مرة طرقت بابها وسألتها: “ما الذي يجري؟ أخبريني فقط، أنا معك.”
لكنها تردّ عليّ… بصمتها. تخفض رأسها، تشدّ على أصابعها، وتهمس بكلمات مبتورة… لا تفسر شيئًا، ولا تفتح أي باب.
أكاد أجنّ.
هناك من يدفعها نحو الحافة، يجعلها تبدو كأنها الوحش في هذا القصر. بينما الوحوش الحقيقيون هم من يرتدون الملابس المخملية، ويبتسمون في الحفلات.
أوريانا، يا صغيرتي…
كم من الوقت ستظلين تصمتين؟
كم من الظلم عليكِ أن تتحملي وحدك، قبل أن تنهاري؟
كم من المرّ عليّ أن أبتلع… فقط لأنك لا تقولين شيئًا؟
أقسم… إن كان هناك من يستغلها، إن كان هناك من يحاصرها، فسأجعلهم يندمون على كل نفس تنفسوه تحت سقف هذه الدوقية.
لكن… فقط لو أعرف من. فقط لو تقول لي.
على الأقل… هذه المرة، لا يمكنني تجاهل الأمر. قضية العصير الذي سُكب على فستان الأميرة لم تكن مجرد سوء تفاهم، بل باتت كشرارة في كومة قش مشتعلة. لا أريد أن تنهار أوريانا أمام هذه الألسنة السامة. يجب أن أتحدث معها. أفهم منها. أُنقذها… أو على الأقل، أحاول.
صعدت إلى جناحها، خطواتي تتسارع، وقلبي مثقل. طرقت الباب، انتظرت لحظة… لا إجابة. فتحت ببطء، ودخلت.
كانت واقفة أمام المرآة، ظهرها لي، ساكنة كتمثال شاحب في ضوء الغروب. شعرها البنفسجي منسدل على كتفيها بانكسار، وتلك الوقفة… جامدة، بلا حياة.
تنفست بعمق، ثم نطقت: “أوريانا… لما سكبتِ العصير على فستان الأميرة؟” “إن كنتِ تريدين واحدًا مثله… كنتُ سأشتري لكِ أجمل منه، ألف مرة.”
لم أكن أعاتبها، لا الآن. كنت فقط أرجو… أن تلتفت لي وتقول: “أنا لم أفعل.” “لقد أخطأت.” أي شيء… أي تبرير يعيد إليّ أوريانا التي أعرفها.
لكنها ظلت صامتة.
همست لنفسي داخليًا، وصوتي مشحون بالحيرة: “هيا… فقط قولي لي إنني مخطئ، قولي إنكِ لستِ هكذا… أخبريني، ما الذي يجري معك؟”
ثم… ببطء، التفتت.
نظرت إليّ.
أقسم… تلك النظرة ليست لفتاة صغيرة. بل نظرة إنسان تحوّل داخله إلى رماد. كانت عيناها باردتين، جامدتين، كأنهما تحملان فصولًا من الألم لا يمكن وصفها. لم تكن غاضبة… ولا حتى حزينة. كانت ببساطة… خالية.
قلبي انقبض، شيء ما بها ليس على ما يرام. أين ذهبت تلك الابتسامة الصغيرة؟ أين تلك الطفلة التي كانت تركض خلف كاميلا وتضحك على الأشياء الصغيرة؟
ما الذي حدث؟ البارحة فقط كانت بخير… ضاحكة، بريئة، تناديني “أبي”. اليوم… تقف هناك كأنها تحمل سنوات من الجراح على كتفيها.
اقتربت منها خطوة، ببطء، بحذر، كأني لا أريد إخافتها: “أوريانا…” “هل حصل شيء في حفلة الشاي؟ هل قال أحدهم لكِ شيئًا؟ هل ضايقك أحد؟”
رمشت ببطء… ثم رفعت عينيها نحوي، وحدقت.
كانت تلك اللحظة… صادمة.
كأن جبلًا من الثلج انصهر داخلي.
انحنت أمامي.
لكنها لم تكن تلك الانحناءة المليئة بالارتباك أو الندم، بل كانت باردة… ثابتة… خاوية. لا خوف، لا رجفة، لا دمعة.
قالت بصوت خالٍ من أي دفء:
“أنا آسفة حقًا، يا سيدي الدوق. أنا المخطئة… وسأتحمّل أي عقاب.”
تجمدت في مكاني. ذلك اللقب… “سيدي الدوق”؟
منذ متى؟ منذ متى بدأت تناديني بهذا الشكل من جديد؟ ألم أطلب منها، بنفسي، ذات ليلة هادئة… أن تناديني “أبي”؟
نظرتُ في عينيها، باحثًا عن شيء أعرفه… عن بقايا من تلك الطفلة التي أنقذتها مرة، واحتضنتها، و… أحببتها كأنها من دمي.
لكن عينيها كانتا مثل مرآة ميتة، لا تنعكس فيها أي صورة… فقط غربة.
كنت على وشك أن أصرخ، أن أمد يدي نحوها، أن أُمسك بكتفيها وأهزها حتى تعود إليّ—
لكن فجأة—
“سيدي الدوق! سيدي، استيقظ!”
اهتز كل شيء.
فتحتُ عيني، وقد بلّلت العرقات جبيني، ويدي مشدودة على مقبض النافذة.
نظرتُ حولي بسرعة… جدران العربة، الأرائك الوثيرة، الستائر الثقيلة… كل شيء يشهد أنني لست في الدوقية، ولا في غرفتها، ولا أمامها.
لقد كان مجرد حلم. ذكرى…
سمعت صوت الحارس الجالس أمامي:
“لقد وصلنا إلى حدود مملكة رافينيا يا سيدي.”
حدّقت فيه لوهلة، ثم همست:
“رافينيا، أخيرًا…”
تراجعت إلى الوراء، وأسندت رأسي إلى حافة المقعد. مرّت سبعة أيام منذ رحلت. سبعة أيام وأنا أفرّ من العجز. من الألم. ومن تلك اللحظة التي فقدت فيها أوريانا وعيها وسقطت أمامنا… مثل زهرة ذابلة.
أهرب؟ لا. أنا أبحث. أبحث عن سحر… عن علاج… عن معجزة.
إن استغرق الأمر عمري كله، فلا بأس. إن وُصفني الناس بالمجنون، فلا بأس. فقط… فقط لتفتح عينيها من جديد.
أغمضتُ عيني ورفعت رأسي إلى السماء الرمادية، ثم همست بكلمات بالكاد خرجت من بين شفتيّ:
“أوريانا… امنحيني القليل من الوقت، امنحي هذا الرجل العجوز فرصة أخيرة… للاعتذار.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات