أمسكتُ بيدها الصغيرة، المتضرّرة، وعيناي تحدّقان في مواضع الحروق بحدة لم أستطع إخفاءها.
“من فعل هذا بيدك؟!”
ارتجفت يدها في قبضتي، ثم انسحبت بلطف، كمن يخشى أن يُوبَّخ لمجرد الألم.
رفعت عينيها إليّ، مترددة، ثم همست بصوت باكٍ، يكاد يُسمع:
“أنا… كنت فقط… أعدّ هذه الحلوى لك.”
رمشت بعينيها بسرعة، ودموع ساخنة بدأت تنزلق على وجنتيها دون أن تستطيع إيقافها.
“آسفة… لجعلك ترى هذا الجزء القبيح مني…”
ثم نظرت إلى الأسفل، وهي تضغط على أصابعها المرتجفة.
“آسفة لأني استخدمت أواني الطاهي دون استئذان… لكن… الخدم قالوا… أن أفعل ما أشاء.”
سكنتْ للحظة. ثم رفعت عينيها، في نظرة أقرب للطفل الذي يخشى العقاب:
**”هل… هل كان من المفترض أن يستأذنني أحدهم؟”
“لحظة…”**
نبرتي تغيّرت. حادة. متوترة:
“هل وقف أحدٌ معكِ أثناء فعل هذا؟ هل ساعدكِ أحد؟”
هزّت رأسها نفيًا ببطء، وبصوتٍ خافت كنسمةٍ بين الجدران:
“لا… فقط قالوا… (افعلي ما تشائين).”
“ظننتُ… أنه لا بأس أن أستخدمهم.”
سحبتُ نفسي من مكاني بغضب، نظري اتجه تلقائيًا إلى الباب:
“أولئك الأوغاد… يبدو أنهم يطلبون الموت.”
همستها بين أسناني، وأنفاسي تثقل صدر الغرفة.
“سأجعلهم يدفعون الثمن.”
لكن صوتها أوقفني—متقطع، باكٍ، مليء بالذنب:
“أنا آسفة… حقًا… لم أكن أقصد أن أزعج أحدًا… ولا أن أؤذي أحدًا…”
اقتربتُ منها من جديد، انخفضتُ قليلًا حتى أصبحت في مستوى نظراتها، وقلت بحنان خافت لكنه واضح:
“يا صغيرة… لا داعي للبكاء.”
“أنتِ… لم ترتكبي خطأ.”
هزّت رأسها نفيًا، كأنها تقاوم تصديق كلماتي.
فقلت، بابتسامة خفيفة هذه المرة:
“هل يمكنني أن آخذ هذه الأشياء التي خبزتِها؟”
ثم رفعت حاجبيّ بلطف وأنا أتابع:
“ما رأيك أن نأكلها سويًا؟ هناك شاي أخضر أعدّه سيلاس… سيكون جيدًا معها، أليس كذلك؟”
نظرت إليّ لثوانٍ، بين الشك والدهشة… ثم ابتسمت. ابتسامة خفيفة، كأنها خرجت من بين الغبار.
“أنا… موافقة.”
من خلفنا، كان سيلاس يراقب بصمت، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة راضية، هادئة، كمن شهد أخيرًا دفئًا في قلب بارد.
جلسنا على الطاولة الصغيرة. خرج سيلاس بهدوء.
جلستُ إلى جوارها، وبدأنا بتناول المخبوزات.
تناولت أول قطعة من الحلوى… وبصراحة، لم أتوقع شيئًا يذكر. لكن ما إن تذوّقتها حتى تجمدت للحظة.
…هاه؟
تذوقتُ مجددًا، ببطء أكبر…
النكهة متوازنة، القوام دافئ ومتماسك، هناك نفَس خفيف من القرفة، لمسة من الفانيليا، ودرجة سكر مدروسة بدقة.
مستحيل…
نظرت إليها، تلك الصغيرة التي بالكاد ترفع رأسها، وأصابعي لا تزال تمسك بالحلوى.
كيف؟ كيف لفتاة كانت قبل أيام ترتجف في زقاق مظلم، بثياب ممزقة… أن تخبز بهذا الشكل؟
أعدت القضم، ببطء، وكأنني أختبر واقعي من جديد.
ليست مجرد محاولة طفولية… هذه حلوى محترفة.
ضغطت على طرف الكوب أمامي، ونظري لا يزال معلقًا بها.
هل كانت تتعلم من أحد؟ هل عاشت في مطبخ نبيل؟ مستحيل أن تكون هذه أول مرة تمسك فيها ملعقة.
بلعت ما في فمي، وهمست لنفسي، دون أن أشعر:
“هذا غريب… وغريب جدًا…”
سألتُها بتردد، صوتي منخفض كأنني أخشى كسر شيء هش:
“يا صغيرة… هل يمكنني أن أسألك… أين كنتِ قبل أن تأتي إلى هنا؟”
رأيت جسدها ينتفض.
ارتجافة صغيرة، بالكاد ملحوظة… لكنها كانت كافية لتشي بكل ما يُخبَّأ في الداخل.
حدقت في الأرض، ويداها تشبكان بعضهما بتوتر.
ثم، بصوت مرتعش، متقطع كأن حنجرتها تُقاوم الكلمات:
“أ… أنـ… نا… كـ… كنتُ…”
تلعثمت بشدة.
كانت كمن يحاول التحدث وسط بحر من الرعب.
شعرت بشيء يشد صدري.
ربّتُ على رأسها بلطف، أنامل خفيفة تلمس خصلات شعرها البنفسجي المتشابك، وأنا أقول بصوت مطمئن:
“لا داعي لأن تجبري نفسك على القول…
سألت فقط بدافع الفضول، لا أكثر.”
رفعت عينيها إليّ.
تلك النظرة… يا إلهي، كم من الخوف يمكن أن يسكن في عيني طفلة؟
لكن خلف هذا الخوف… كان هناك أيضًا قرار.
همست، بصوت يكاد يختنق:
“أنا… لم أخبر أمي…
لم أردها أن تكرهني…
ولم تسألني أصلًا…
لكن بما أن الدوق… يريد أن يعرف…”
توقفت، بلعت ريقها، ثم قالت:
“كنتُ عبدة… في أحد منازل النبلاء.
خادمة… في دوقية بعيدة.
كنتُ أقوم بكل أعمال المنزل، وأُعامَل بقسوة.
كان عليَّ أن أطيع كل التعليمات بدقة…
وإذا أخطأت… كانت تُفرض عليّ عقوبات قاسية.
جلد… جوع… إغلاق في القبو.
لم أعد أتحمل ذلك. لم أعد أستطيع.”
صمتت لحظة، ثم تابعت بصوت أضعف:
“لذا… هربت.
هربت رغم خوفي… كنت خائفة من أن يلحقوا بي…
أن يعيدوني.”
الهواء في الغرفة صار أثقل.
حين قالت ذلك… فهمت.
فهمت كل شيء.
مهاراتها، التهذيب الزائد، الخوف من أن تُلام، الارتباك عندما تستخدم شيئًا دون إذن…
كل هذا… ليس لأنها مؤدبة فقط. بل لأنها ناجية.
وذلك الرعب الذي لمحتُه في وجهها عندما سمعت أن كاميلا وجدتْها…
كان خوفًا من أن تُعاد إلى هناك.
وضعت يدي على رأسها من جديد، هذه المرة بثبات أكبر، وقلت:
“لا تقلقي.
هنا… لا أحد سيعيدك إلى هناك.
لا أحد سيعاقبك، ولا أحد سيملي عليك كيف تعيشين.
أنتِ الآن فرد من عائلة سيريوس.
فعلًا… لا مجازًا.”
رفعت وجهها إليّ ببطء، عيناها تغرورقان، لكن شفتيها… ابتسمتا.
“شكرًا، سيدي الدوق…
لن أنسى عطفك… أنت و… أمي.”
كادت الكلمة تمر دون أن أفكر… لكن توقفت فجأة، وعدت أنظر إليها:
“مهلًا…
لماذا تنادين كاميلا بـ(أمي)…
وتناديني أنا… (سيدي الدوق)؟”
ارتبكت. نظرت إلى الأرض، ثم رفعت عينيها بحذر:
“لأن أمي قالت لي أن أناديها بـ(أمي)…
أما أنت… لم تقل شيئًا.
ولم أعتقد أنك قد ترغب… أن أناديك (أبي).”
صمتُ لحظة.
كأن شيئًا في داخلي تشقق.
ثم قلت، بابتسامة خفيفة:
“في الواقع…
لا أريدك أن تناديني بـ(سيدي الدوق) بعد الآن.”
رفعت حاجبيها بدهشة، وشهقت قليلاً:
“إذًا… أناديك…”
ترددت.
فأومأت لها، بهدوء:
“أجل.”
نظرت إليّ لحظة، كأنها تتحقق من أنني لا أمزح.
ثم… قالتها.
بصوت خافت، متردد… كأنها تتذوق الكلمة لأول مرة:
“ش… شكـ… شكـرًا… أ… أبي.”
الكلمة كانت خفيفة…
لكن تأثيرها على قلبي… كان أشبه بانهيار سدٍّ من الجليد.
“إنها لطيفة… لطيفة جدًا…”
همستُ في داخلي وأنا أراقبها تتحدث بخجل، تبتسم بصغَر، وتشكرني على أشياء لا تُشكر.
“هل هذه هي المشاعر… التي قالت كاميلا إني سأشعر بها إذا أصبحت أبًا لفتاة؟”
تسللت الفكرة إلى قلبي كضوء شمس يتسلل من شقوق النافذة في صباح بارد…
هادئ… دافئ… يوقظ شيئًا داخلي لم أعرف أنه كان نائمًا.
مرّ أسبوعان.
كل يومٍ فيها… كان أشبه بصفحة جديدة في كتابٍ لم أظن أنني سأقرأه يومًا.
لكن… اليوم؟
اليوم هو أحد تلك الأيام المقيتة.
اجتماع الوزراء.
حفنة من العجائز أصحاب الشعر الأبيض والقلوب الصدئة،
يصنعون من كل تفصيلة تافهة أزمة كونية،
وكأن الكون سينهار لو أن ورقة وقعت من شجرة دون إذنهم.
كنت على وشك تحمّل حماقاتهم مجددًا، حين…
طرقٌ على الباب.
تلاه صوت الحارس:
“سيدي الدوق، هناك ضيف يطلب رؤيتكم.”
قطبت حاجبي.
من الأحمق الذي يجرؤ على مقاطعة اجتماع رسمي؟
قلت بجفاء:
“أخبره أنني في اجتماع. وليعد من حيث أتى.”
لحظة صمت.
ثم… صوت الحارس مرة أخرى، هذه المرة بنبرة فيها شيء من الحرج:
“سمعتني يا آنسة أوريانا…
الدوق قال أن تعودي.”
تجمّدت في مكاني.
“أوريانا؟”
رددتها في ذهني، ثم بصوت مسموع:
“أوريانا…؟”
قفزت من مكاني، وكأن شيئًا اخترق ضجري.
“انتظر… لحظة!”
اندفعت نحو الباب، وفتحته بسرعة.
كانت تقف هناك.
أوريانا.
ثوبها الوردي القصير، شعرها الممشّط بعناية، ابتسامتها الصغيرة المرتبكة…
وعيناها البنيتان تنظران نحوي بتردد طفولي نقي.
قالت، بصوت خافت، مليء بالاعتذار:
“آسفة، أبي… لم أعلم أنك في اجتماع.”
تنهّدت.
كل الضوضاء في رأسي تلاشت بلحظة، وكأن صوتها وحده يكفي ليعيد توازني.
ربّتُ على رأسها بلطف، وابتسمتُ:
“لا بأس. هذا الاجتماع غير مهم.”
ثم أضفت، بنبرة ساخرة:
“مجرد حفنة من العجائز المملّين… وأنا أشعر بالملل فعلًا.
ما رأيك أن تنقذيني؟ تعالي معي.”
ترددت للحظة، ثم قالت بهدوء:
“ح… حسنًا.”
دخلنا معًا، وأغلقتُ الباب خلفنا.
جلست على مقعدي الكبير، ثم نظرت إليها مبتسمًا:
“أوريانا… تعالي، اجلسي على حجري.”
اتسعت عيناها قليلاً، لكنها اقتربت ببطء.
رفعتها برفق، وجلست على الكرسي وأنا أحتضنها كمن يمسك كنزًا.
وضعتها على ساقي، ولففت ذراعي حولها.
كانت خفيفة…
لكن ثقل هذا الشعور… لا يُقارن بشيء.
“كم من المرات رأيت آباءً يجلسون هكذا مع بناتهم،
وكنت أظن أنها لحظة عابرة…
والآن، فقط… أدرك كم هي ثمينة.”
نظرتُ إلى وجهها القريب، وهي تلمس طرف قميصي بخجل،
ثم تستند على صدري كأنها تبحث عن دفء لا يُقال… بل يُشعر.
“نعم…”
همستُ داخل قلبي:
“الآن أفهم ما عنته كاميلا تمامًا.”
“أحم… أحم…”
خرج الصوت المتردد من أحد الوزراء، قاطعًا لحظة السكون بيني وبين أوريانا، التي كانت لا تزال جالسة على حجري بهدوء كأنها لا تنتمي لهذا المكان المزدحم بالرؤوس الرمادية والقلوب المتصلبة.
رفع الوزير نظره إلي وقال، بصوت ثقيل يخالطه شيء من الحذر:
“سيدي الدوق… مع كامل الاحترام… هذا الاجتماع يُعقد لبحث أمور في غاية الأهمية،
وبينها ما لا يجب أن يسمعه أحد من خارج المجلس… أعني… هذه الأمور شديدة السرية، لذلك—”
“أحد؟”
قلتُها بصوتٍ منخفض… لكنه اخترق جدران القاعة كصفعة.
انحنى جسده قليلاً، والعرق بدأ يظهر على جبينه:
“سـ…سيدي، لم أقصد إهانتها، أقسم… أنا فقط أعني أن—”
لكن آخر تدخل، وقد بدا وكأنه وجد ثغرة ليفتح بها بابًا مغلقًا:
“ما يقصده يا سيدي… هو أن هذه… الطفلة، مع احترامنا الكامل،
انضمت للدوقية منذ وقت قصير فقط…
وليس هناك ما يضمن ولاءها، أو حتى هويتها الحقيقية…
ربما… قد تكون أداة تجسس، أو وسيلة لاختراقنا، لذا—”
نظرتُ إلى أوريانا، كانت تتابع حديثهم بعينين قَلِقتين، يدها تمسك طرف ردائها بخوف مكتوم.
ابتسمتُ لها برقة، وربّتُّ على يدها الصغيرة.
“أوريانا، عزيزتي… هل يمكنك وضع يديك على أذنيك للحظة؟”
أومأت بخفة.
“حسناً، أبي.”
رفعت يديها الصغيرتين، وغطّت أذنيها كما طلبت منها…
لكن عيناها ظلت تحدّقان نحوي بثقة، وكأنها… تعرف أني سأحميها.
وهنا تغيّرت نبرتي.
رفعت رأسي، وجعلت صوتي يرتفع بنغمة لا تقبل الجدل:
“هذا الكلام… لا يجوز أن تسمعه طفلة.”
ثم نظرت إلى الوزراء جميعًا، بعينين كالثلج المحترق:
“أيها الحفنة من العجائز المتخشبة… من تظنون أنفسكم لتتطاولوا على فرد من عائلة سريوس؟
هل تظنون أنني سأسمح لكم بأن تلقوا بتفاهاتكم على طفلتي؟”
ضربت الطاولة بقوة، فاهتزّت الأوراق والكؤوس، وصمت المكان فجأة.
“أم أنكم تريدون اختبار شيء جديد؟
مثل أن أقطع ألسنتكم، وأرميها للكلاب؟”
صمت.
“رغم أنني أشك… أن الكلاب سترضى بتلك القذارة.”
أحدهم فتح فمه، ثم أغلقه فور أن التقت عيناه بعيني.
أوراق في الخلف سقطت. أحدهم كتم شهقة.
كل شيء أصبح صامتًا كجنازة.
“إن كانت هذه أمنيتكم،”
قلت بهدوء ساخر،
“فسيكون من دواعي سروري تنفيذها.”
تراجعت إلى الخلف، وضعت يدي بهدوء على كتف أوريانا، وأشرت لها.
“حسنًا، يمكنكِ أن تزيلي يديكِ الآن.”
فعلت ذلك ببطء، ثم نظرت إلي… وابتسمت.
ثم نظرت إلى الوزراء مجددًا، بصوت كالسيف:
“إن كنتم ستلوذون بالصمت هكذا،
فما كان يجب أن تتكلموا من البداية.”
وقفت، وأنا أحمل أوريانا بين ذراعيّ كأنها تاج لا يُمسّ.
“انتهى الاجتماع.”
ثم أضفت، بصوت أثقل، أخفض… لكن أشد وقعًا:
“وفكروا في أخطائكم.
وليعلم كل من في القصر…
أي كلمة تُقال عن ابنتي بعد اليوم… لن تمر.”
“أوريانا ليست مجرد فتاة في قصرنا.”
“بل هي… ابنتي العزيزة.”
سرتُ بخطوات هادئة، تحمل أوريانا بين ذراعي، متجهًا نحو خارج القاعة.
كانت متشبثة بي بخفة، رأسها الصغير مستند إلى كتفي، وصوتها جاء ناعمًا، فيه شيء من القلق:
“أبي… هل أغلقتَ الاجتماع بسببي؟”
نظرت إليها جانبًا، وربّتُّ على شعرها البنفسجي بحنان.
“ماذا؟ بالطبع لا يا صغيرة. قلت فقط إنني أشعر بالملل، ولهذا لم أرغب بالبقاء.”
نظرت إليّ بخفة، ثم سألت، بنظرة تُخفي شوقًا بريئًا:
“لكن… ألم تكن مشغولًا؟ لماذا خرجتَ إليّ إذن؟”
ابتسمت وأنا أضعها برفق على الأرض.
“أوريانا… أنتِ أتيتِ إليّ، إذن لا بد أنكِ كنتِ تريدين شيئًا، أليس كذلك؟”
هزّت رأسها بحماسة طفلة:
“أجل! أردت فقط… أن نتمشى أنا وأبي.”
انحنيت قليلًا، ومددت يدي:
“إذن فلنتمشى، صغيرتي.”
خرجنا إلى الحديقة الواسعة، حيث تتفتح الزهور على جانبي الطريق المرصوف،
والشمس ترسل خيوطها على العشب الأخضر بلطف،
كانت أوريانا تسير إلى جانبي، تمسك إصبعي بإحكام كأنها تخشى أن يفلت منها.
“إذاً، أوريانا… ماذا كنتِ تفعلين في هذه الأيام؟”
ابتسمت ابتسامة صغيرة، ثم رفعت رأسها تنظر إلى السماء وكأنها تسترجع ذكرياتها القريبة:
“أخي ليونارد ظل يلعب معي كثيرًا! مرة… هرب من درس المبارزة فقط ليلعب معي!”
ضحكت وهي تكمل:
“وعندما علمت أمي… عاقبته بشدة!”
ضحكتُ معها بخفة:
“ليونارد؟ يهرب من دروسه؟! كان أكثر أبنائي التزامًا… يا له من تحول.”
هزّت رأسها بسعادة:
“وأخي أوسكار… كان دائمًا يحضر لي الحلوى والملابس.
علّمني القراءة بطريقة ممتعة، ويرسم معي كل يوم.”
نظرتُ إليها بدهشة هادئة:
“أوسكار أيضًا؟”
“نعم!” هزّت رأسها بحماسة.
“كان في البداية يبدو… جادًا جدًا، لكن عندما نكون وحدنا، يكون لطيفًا جدًا!”
ابتسمتُ برضا داخلي.
“ذلك الطفلان… كانا دومًا جامدين، لا يُظهران الكثير من العاطفة.
لكني سعيد… أنهما تغيرا معك.”
نظرت إليّ فجأة، وعيناها تتأملني بشيء من الفضول:
“وأيضًا، أخبرني أخي عن أخي الأصغر… إيثان.
قال إنه يمتلك طاقة سحرية ضخمة، لذلك تم نقله لأكاديمية سحر بعيدة…
كنت أريد أن أراه، ألعب معه… وأحميه.”
انخفض صوتها في النهاية، وكأن شيئًا من الحزن سكن نبرتها.
أطرقتُ للحظة، ثم نظرت إليها:
“إيثان… نعم، هو بالفعل يمتلك طاقة سحرية خارجة عن السيطرة.
أكبر من طاقتي أنا، حتى…
لهذا نُقل لتلك الأكاديمية الخاصة، ليحافظ على توازنه.”
نظرت إليّ برجاء طفولي:
“هل… هل يمكنني رؤيته قريبًا؟”
انحنيت، وربّتُّ على خدها بلطف:
“أعدكِ، صغيرتي… سأجعلكِ ترينه قريبًا.”
ابتسمت بعينين تتلألآن بالفرح:
“حقًا؟! شكرًا، أبي!”
وفي داخلي، همست…
“يا كاميلا… ربما كنتِ محقة.”
“هذه المشاعر… لا تأتي إلا عندما… تكون لأبٍ، فتاة.”
“وأبي… لديّ مفاجأة لك!”
قالتها أوريانا بابتسامة فيها حماس طفل صغير، ثم أمسكت بيدي وسحبتني بخفة.
“هيا!”
ركضت أمامي، وأنا أتابعها بخطوات هادئة، حتى أوصلتني إلى شجرة كبيرة في نهاية الحديقة. هناك… كانت كاميلا واقفة.
توقفتُ في مكاني.
قلبي خفق لحظة.
وجهها ما زال كما هو… لكن في عينيها شيء مختلف.
شوق، وعتاب… وصمت طويل بيننا يُخيّم كضباب كثيف.
أخفضت أوريانا رأسها، تمسّكت بطرف ثوبي، وقالت بصوت منخفض، خجول… لكن مملوء بالحزن:
“أبي… أنا أعرف أنك تشاجرتَ مع أمي…
وأعتقد أن ذلك كان بسببي.
لكن أرجوك… أرجوك، تصالح معها.”
رفعت رأسها ونظرت إليّ بعينين لامعتين من التوسّل الصادق:
“لا أستطيع أن أعيش هكذا… ووالداي متشاجران.
من فضلك، إن كنت تحبني… سامحها.”
كلماتها… كانت ضربة ناعمة في قلبي.
نظرتُ إلى كاميلا، ثم إليها…
ورأيت في تلك الطفلة رابطًا نحته القدر، لا يمكن تجاهله.
اقتربت من كاميلا ببطء، خطواتي تحمل ثقل الكلمات،
وقفت أمامها مباشرة، نظرت في عينيها، ثم همست:
“أنا آسف، كاميلا…
الآن فقط، أدركت سبب إحضارك لها.”
نظرتُ نحو أوريانا للحظة، ثم عدت إليها:
“كان عليكِ أن تُشكري، لا أن تُعاتبي.
أحضرتِ شيئًا… لم أعرفه من قبل.
أحضرتِ الحب، والعاطفة… إلى هذا المكان البارد.”
هزّت رأسها بخفة، ودمعة لامعة انزلقت على خدها، ثم ابتسمت بتلك الابتسامة الهادئة التي أحببتها يومًا.
قالت بصوت خافت:
“وأنا آسفة أيضًا، إدوارد…
لقد كنتُ متهورة.
لم أفكر بالعواقب، رغم أنها كانت واضحة.
لكني أخبرتك… أنها تمنحني مشاعر… لا توصف.”
انحنت أوريانا بيننا، ثم ضمتنا بقوة إلى بعضنا:
“إذًا… أنتما تصالحتم، أليس كذلك؟!
رائع! أبي… أحبك!”
ضحكت وأنا أنحني لعناقها، وقلت:
“وأنا أحبك أيضًا، صغيرتي.”
قالت كاميلا وهي تضمنا بدورها:
“وماذا عني، أوريانا؟”
أجابت بابتسامة مشرقة:
“أحبك أيضًا، أمي!”
في تلك اللحظة… شعرت أن العالم كله صغر حتى لم يتسع إلا لهذه اللحظة.
هدأت الحرب داخل قلبي، وساد الدفء بيننا كما لم يحدث منذ سنوات.
قالت كاميلا بخفة وهي تمسك يدي:
“بما أننا تصالحنا… ما رأيك، يا إدوارد، أن تنام معنا الليلة؟ أنا وأوريانا؟”
نظرتُ إليها، ثم إلى الطفلة التي بيننا، وابتسمت.
“أجل… هذا يبدو جيدًا.”
تلك الليلة… نمنا نحن الثلاثة معًا.
كنت في أحد الجانبين، كاميلا في الجانب الآخر… وفي المنتصف، كانت أوريانا.
طفلة صغيرة، لكن وجودها جعل الغرفة بأكملها دافئة،
كأنها شمعة أضاءت ظلامًا قديمًا في القلب.
نظرتُ إليهما للحظات… ثم أغمضتُ عيني على تلك الطمأنينة.
لكن…
لم أكن أعلم أن هذه السعادة،
لن تدوم طويلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 27"
سؤال يا جماعة معلش ضروري عشان مهم ليا
هي الرواية بقت مملة انا خلتها ممله ولا انا بس متهيقلي انها بقت مملة