نزلت من العربة بخطى بطيئة، مترددة…
فتاة نحيلة للغاية، بشعر بنفسجي طويل منسدل على كتفيها كستارٍ يخفي وجهها،
وعينان واسعتان بلون البُني، فيهما نظرة لا تُفهم بسهولة – لا هي خائفة، ولا مرتاحة،
كأنها ضائعة في مكان لا تعرفه، لكنها… ليست غريبة عليه تمامًا.
ملابسها كانت ممزقة، بالكاد تغطي جسدها الصغير،
أطراف قماشها بالية، متسخة، وملتصقة بجلدها النحيل.
بدت وكأنها خرجت للتو من مكان مهجور… أو من جحيم.
وقفتُ في مكاني، متجمدًا للحظة، قبل أن أوجه نظري لكاميلا باستغراب واضح:
“كاميلا… من هذه؟ ولماذا هي معك؟ ماذا حدث؟!”
كانت واقفة أمامي، أنفاسها شبه متقطعة من التعب، ووجهها شاحب بعض الشيء،
لكنّ نظرتها كانت حازمة، على غير عادتها.
رفعت يدها بلطف، وقالت بصوت خافت لكنه جاد:
“إدوارد… دعنا ندخل أولًا، سأشرح لك كل شيء.”
ثم التفتت مباشرة نحو إحدى الخادمات الواقفات،
وهي تشير للفتاة التي كانت واقفة خلفها بصمت:
“أنتِ، خذيها. ألبسيها ملابس نظيفة، وجهّزي لها طعامًا دافئًا.
اجعليها تستحم، و… أعطها الغرفة التي بجانب غرفتي لتنام وترتاح فيها الليلة.”
هزّت الخادمة رأسها بسرعة، وتقدّمت.
لكن الفتاة… لم تتحرك.
كانت لا تزال تنظر نحوي، دون أن ترمش تقريبًا،
عينان فارغتان من الدهشة… ممتلئتان بصمتٍ ثقيل.
كأنها تقيسني… أو تنتظر مني شيئًا… لا أعرفه.
التفتُّ لكاميلا مرة أخرى، نبرتي هذه المرة منخفضة لكن مشحونة:
“كاميلا… هل أنقذتها من شيء؟ هل حدث لكِ مكروه؟”
نظرت إليّ… عيناها ارتجفت للحظة، ثم همست:
“لا، لم يصبني مكروه… لكنها كانت وحدها، إدوارد.
في مكانٍ لا يجب أن تكون فيه أي طفلة بهذا الشكل.
رأيتها… وقلبي لم يسمح لي أن أتجاهلها.”
ثم أضافت بهدوء أكثر:
“أرجوك… دعها تبقى الليلة فقط. وبعدها… نتحدث.”
لم أرد.
نظرتُ إلى الطفلة مرة أخيرة، وهي تمشي ببطء خلف الخادمة،
شعرها المتشابك يتمايل مع خطواتها الصغيرة، وصوت قدميها بالكاد يُسمع،
لكن رغم بعدها… كنت أشعر بثقل وجودها.
شيء لا يُقال… ولا يُفهم.
التفتُّ إلى كاميلا، وصوتي هادئ… لكن فيه نبرة لا تحتمل التردد:
“فلنذهب إلى غرفتك. يجب أن نتحدث في هذا الأمر بجدية أكبر.”
سرنا معًا في ممرات القصر، خطواتنا تلامس الرخام بهدوء،
لكن قلبي… لم يكن هادئًا أبدًا.
دخلنا غرفة كاميلا – المألوفة، الهادئة، بعطرها الخفيف وألوانها الوردية.
جلستُ على الكرسي المقابل للطاولة المستديرة الصغيرة،
ولحقت بي كاميلا، وجلست بهدوء، يديها في حجرها.
دخلت الخادمة بعد لحظات، وضعت إبريق الشاي وبعض المرطبات، وانسحبت.
أخذت رشفة من الشاي، ثم وضعت الكوب على الطاولة، ونظرت إليها مباشرة.
“كاميلا… سأطرح سؤالي مرة واحدة.
من هي؟ ولماذا أحضرتِها معك؟
أريد شرحًا دقيقًا، وبدون عاطفة هذه المرة.”
ارتجفت يد كاميلا قليلًا… لكنها تماسكت.
قالت بصوت ناعم، هادئ لكنه متوتر:
“عندما كنت أتجوّل بين القرى…
مررت بزقاق ضيق في إحدى النهايات، ورأيتها هناك.
كانت نائمة… أو ربما مغشيًا عليها.
اقتربت منها، حاولت إيقاظها، وعندما فتحت عينيها…
بدأت ترتعش، كأنها كانت تهرب من شيء.
قلت لها بلطف: (سآخذك إلى دار أيتام آمنة)، لكنها…”
توقفت للحظة، وعضّت شفتها.
“… لكنها نظرت إليّ بعينين… كسيرتين.
وقالت فقط: (أرجوكِ، لا تتركيني).
ثم بدأت تبكي، كما لو أني خذلتها بالفعل.
لم أحتمل ذلك… لم أستطع.
لذا… أخذتها معي.
وضعت كوب الشاي من يدها على الطاولة ببطء،
ثم رفعت عينيها إليّ وقالت:
“إدوارد… أريد أن تنضم الفتاة إلى عائلتنا.
كفرد منّا… كابنتنا.”
تجمدت لحظة.
ثم نهضت واقفًا، ببطء،
وخبطت كفي على الطاولة، صفعة خشبٍ هزّت المكان.
“كاميلا… ما الذي تقولينه؟!”
نبرة صوتي ارتفعت دون قصد، لكنها خرجت دون رحمة.
“أنتِ تحضرين طفلة من الشارع، مجهولة النسب، مجهولة الأصل،
وكل ما تملكينه كدليل هو دمعة وارتجافة؟!”
ارتبكت كاميلا، لكنها تماسكت.
“إدوارد… أنا لا أطلب منك أن تصدّقها… فقط أن تمنحها فرصة.
طفلة لا تملك شيئًا، وجدتني، وتمسكت بي… ألا يعني هذا شيئًا؟”
تقدّمتُ ببطء، وضعت يدي على ظهر الكرسي، صوتي أخف قليلًا، لكن حاد:
“وإذا كانت هاربة من خطر؟ أو مطاردة؟ أو حتى تحمل لعنة ما لا نعرفها؟”
تقدّمت خطوة، وصوتي يزداد حدة مع كل كلمة:
“أنتِ لا تعرفين شيئًا عنها، كاميلا!
ونحن لا نعيش في قصر مفتوح على الغرباء… نحن عائلة دوقية!
لدينا أبناء، لدينا مسؤوليات، ولدينا أعداء يتربصون!”
ارتجفت كاميلا قليلًا، لكنها لم تتراجع. رفعت عينيها نحوي، بعناد نادرًا ما رأيته منها.
قالت بصوتٍ خافت… لكنه يحمل إصرارًا:
“أفهم قلقك، إدوارد… لكن ليس كل من أبدى ضعفًا يكون كاذبًا.
ماذا لو كانت تحتاجنا حقًا؟ ماذا لو كانت صادقة؟”
أطلقت تنهيدة ثقيلة، وسرت ببطء حول الطاولة، أضغط على صدغي بإصبعيّ.
ثم التفت نحوها من جديد:
“كاميلا… افهمي لطفك.
لكنه أحيانًا… يتحوّل إلى سذاجة!”
صرخت الكلمة الأخيرة بنبرة أشد، ما جعلها ترتجف في مكانها.
صوتي بدأ يعلو، ويداي ترتجف من الغضب:
“ماذا لو كانت قاتلة؟
ماذا لو كانت تستخدمك؟
ليس كل من يبكي أمامك يستحق الشفقة!
العالم ليس نزيهًا يا كاميلا! كان عليكِ التفكير في العواقب!”
شهقت كاميلا، وكأن كلماتي صفعتها، لكنها تشبثت بموقفها:
“ما الخطأ الكبير؟! فقط فتاة… أريد تسجيلها كفردٍ من العائلة، أهذا كثير؟”
لحظة صمت…
ثم ضربت الطاولة بكفي، تنهيدة غليظة خرجت من صدري:
“آه… كاميلا، هل تمزحين معي؟!
ألا ترين ما قد يتبع هذا القرار؟
كل خطوة لها تبعات، وهذا القرار… أنتِ لم تحسبي أبعاده أبدًا!”
مرت لحظة توتر ثقيلة. ثم قالت، ببراءة مربكة:
“أنا فقط… أردت أن يكون لها اسم… منزل… عائلة.
سألتها عن اسمها، ولم يكن لديها واحد.
فأعطيتها الاسم الذي كنتُ أتمنّاه… أوريانا.”
توقفتُ عن الحركة. حدّقت بها طويلاً.
ثم… ضحكت.
ضحكة باردة، قصيرة… كأنها سخرية من قَدرٍ يُعاد كتابته من جديد.
“أوريانا؟”
قلتُها وكأنها تُذبح من بين شفتي.
“الاسم الذي رفضتِ إعطاءه لفيكتوريا؟
الاسم الذي كنتِ تعتبرينه خاصًا… لنا فقط؟
وأعطيتِه الآن… لطفلة التقطتِها من الزقاق؟”
لم ترد.
فهززت رأسي، وأغمضت عيني بمرارة، وضغطت على صدغي من جديد.
“آه… لا فائدة.
لقد اتخذتِ قرارك منذ البداية، أليس كذلك؟
لم تكن رحلة عابرة…
كنتِ تنوين إحضارها مهما حدث.”
استدرت نحو الباب، وقلت بصوتٍ خافت لكنه حاد:
“سأُشرف على تسجيلها… سأفعل ما أستطيع.
لكن لا تحدثيني عن هذا الأمر مجددًا…
ولا تحدثيني إطلاقًا، لبضعة أيام.”
ثم نظرت إليها للحظة، بعينين مرهقتين من كل شيء…
“أنتِ لم تنقذي طفلة يا كاميلا…
أنتِ فتحتِ بابًا لن نستطيع إغلاقه لاحقًا.”
ومضيت نحو الباب.
فتحتُه بقوة، ثم أغلقته خلفي بعنف،
وصوت ارتطام الخشب العنيف دوّى في أرجاء الغرفة،
…مخلّفًا وراءه كاميلا.
جالسة على الكرسي،
صوت الباب لا يزال يتردد في أذنيها كصفعة.
صمت يطبق على الغرفة… حتى أن أنفاسها بدت وكأنها تخشى الخروج.
كانت عيناها شاخصتين نحو الباب المغلق.
وفي أعماقها… كانت هناك همسة لا تكفّ عن التكرار:
“ما الخطأ الذي ارتكبته؟”
وضعت يدها على صدرها، فوق قلبها مباشرة،
كأنها تحاول أن تطمئن أن شيئًا لا يزال ينبض هناك.
همست لنفسها:
“أنا… لم أرد فيكتوريا…
ليس لأنني سيئة… بل لأنني لم أر فيها إنسانًا.”
شهقت ببطء، وكأنها تعترف بذنبٍ دفين.
“منذ اللحظة الأولى… هناك شيء خاطئ.
شيء جعل كل كياني ينفر…
لكني كذبت نفسي. قلت إنها فتاة صغيرة، وقد أظلمها لو اتبعت شعوري فقط.”
أغمضت عينيها بقوة.
“لكن… هل أخطأت؟
هل كان تبني فتاة أخرى… جريمة؟
أنا فقط… أردت طفلة، أحبها، وأملأها بالحنان الذي لم أستطع منحه لغيرها.”
تنهدت تنهيدة طويلة، ووقفت ببطء.
نظرت إلى النافذة.
ضوء الشمس يتسلل من بين الستائر، يلامس الأرض بهدوء.
“أوريانا…”
قالتها كأنها تنادي أملاً في الغد، لا اسمًا.
“ابنتي… أنا متأكدة أنك ستكونين جميلة… مهما كانت البداية.”
وفي مكتب الدوق، على الطرف الآخر من القصر…
فتح الباب بعنف، دخل إدوارد بخطواتٍ ثقيلة.
صوته قاطع:
“اخرجوا جميعًا.”
انحنى الخدم، وخرجوا بصمت، يغلقون الباب خلفهم برفق.
وقف وسط الغرفة للحظة، ثم وضع يده على رأسه، وكأن الأفكار تكاد تخنقه.
“سحقًا…”
قالها وهو يضغط على صدغه.
“المشاكل تأتيني من حيث لا أحتسب.”
تقدّم بخطوتين، ثم جلس على الكرسي الجلدي خلف مكتبه،
وأرخى جسده على مسنده، مطبقًا عينيه.
“لو كنتُ بقيت في ساحة المعركة…
لو قبلت أن أكون ذلك الشيطان القاتل الذي يخشونه…
لربما كان أفضل.”
فتح عينيه ونظر إلى السقف.
“لكنني… وقعت في الحب. فكرت في الزواج.
وهنا… بدأ كل شيء ينقلب.”
ضرب الطاولة بقبضته بصوت مكتوم.
“كاميلا… لا تدرك أن هذا القرار لن يؤذي أحدًا سواهما.
فيكتوريا… وأوريانا.”
نهض من مكانه، وبدأ يتمشى داخل المكتب بخطوات حادة:
“صحيح… قد تكون هناك فجوة بيننا وبين فيكتوريا…
لكنها بنت الدوقية أمام الجميع.
كسبت ثقة النبلاء، وولاء من حولها.
أن نحضر فتاة أخرى؟ أكبر سنًا؟!
سيبدأ الجميع بالمقارنة.
سيظنون أنها الوريثة الجديدة… البديلة.”
أغلق قبضته.
“وهكذا… ستُظلم الاثنتان.
الأولى لأننا بدأنا نتراجع عنها…
والثانية لأنهم سيكرهونها من اللحظة الأولى.”
صمت.
ثم جلس على طرف المكتب، يحدّق في الأرض.
“أحيانًا، الرحمة… تكون بداية النار.”
أسند رأسي على ظهر الكرسي،
أغمضت عينيّ للحظة…
لكن داخلي لم يهدأ.
“أخشى أن أوريانا ستكون مكروهة…”
جالت الفكرة في رأسي كطعنة بطيئة.
“هؤلاء الذين أحبّوا فيكتوريا،
سيكرهون أوريانا لا لشيء… فقط لأنها ليست هي.”
فتحت عينيّ ببطء، نظرت إلى السقف، ثم تركت تنهيدة ثقيلة تهرب مني.
“وفيكتوريا…”
مرارة تسللت إلى حلقي.
“إن هي رأت الحنان موجهًا نحو أوريانا…
وهي التي لم تنله قط، منّا نحن بالذات…
هل ستكون تلك ضربة موجعة لها؟”
بلعت ريقي، وأغمضت عينيّ من جديد.
“كاميلا… ذلك التعبير على وجهها حين نظرت إلى أوريانا…
لم يكن عاديًا.
كان حنانًا صادقًا، عميقًا،
حنانًا لم أره منها بهذا الشكل منذ سنوات.”
ضربت مسند الكرسي براحة يدي، وضغطت عليها.
“آخخخخخخخ… لماذا عليّ تحمّل كل هذا؟!”
نهضت واقفًا فجأة، وبدأت أتمشى داخل المكتب كذئب محاصر.
“لقد تحمّلت سابقًا اتهامات النبلاء عندما أحضرت فيكتوريا،
قالوا إنني تبنيتها فقط لأزوجها لاحقًا لعائلة نبيلة.
تحمّلت الشائعات… أخبرت نفسي: لا بأس.”
توقّفت، أطلقت تنهيدة.
“لكن الآن؟!
الآن، الشائعات ستكون أسوأ.”
عدت إلى الكرسي، وجلست بقوة، وأسندت رأسي إلى الوراء.
“ليس الأمر أنني أهتم كثيرًا…
فأنا قادر على قطع ألسنة الجميع…
ولا أحد يجرؤ على التحدث في حضوري.”
لكن نبرتي خفتت.
“المشكلة ليست أنا.
إنها تلك الطفلة… أوريانا.”
رفعت يدي ببطء، مررت بها فوق وجهي كأنني أزيل طبقات من التعب.
“الخدم رأوها…
ملابسها البالية، شعرها المتشابك،
منظرها سيُطلق الشائعات في كل زاوية من القصر.
(فتاة من الشوارع… ليست من دار أيتام نبيل مثل فيكتوريا).”
ضغطت على أصابعي.
“المقارنة ستبدأ.
الكلمات ستُقال.
النظرات… القسوة…
وسيُلقى بثقل ذلك كله على كاهل فتاة صغيرة لم تختر شيئًا من هذا.”
صمتّ للحظة.
ثم همست، ببطء:
“سأبذل جهدي لحمايتها…
لكنني لا أستطيع كتم كل الألسنة.”
نظرت نحو الجدار أمامي، وكأنني أرى فيه جدران قصرٍ يُخفي أكثر مما يُظهر.
“سأُصدر تحذيرًا رسميًا.
أي كلمة تُقال…
سيدفع صاحبها الثمن غاليًا.”
بعد مرور ثلاثة أيام.
دفعت باب مكتبي ببطء، وكأن الهواء نفسه يُقاوم دخولي.
دخلت وجلست على مقعدي الثقيل خلف المكتب،
أسندت ظهري، أغمضت عينيّ لثوانٍ، ثم تمتمت:
“آهاها…”
ضحكة قصيرة، لا تحمل أي سرور. أشبه بضحكة من شارف على الجنون من كثرة الضغط.
فتحت عينيّ، ثم ناديت:
“سيلاس!”
دخل كبير الخدم على الفور، وانحنى بأدب.
“رجاءً… أحضر لي كوبًا من الشاي الأخضر، أريد تهدئة أعصابي.”
“حاضر، سيدي الدوق.”
انحنى مجددًا، وغادر بخطوات هادئة.
أسندت مرفقيّ على سطح المكتب، ومررت أصابعي بين شعري المعقود بالتوتر.
“سحقًا… مرت ثلاثة أيام…”
نظرت إلى الأوراق أمامي، لكن الحروف تراقصت على الصفحات وكأنها تسخر مني.
“ثلاثة أيام، وأنا أحاول السيطرة على الوضع.”
زفرت بقوة.
“الوزراء؟ حفنة من الجبناء المتغطرسين… يرفضون ويعارضون،
لكنهم ليسوا شيئًا يُذكر، نفخة واحدة من سلطتي… وسيُرمون بعيدًا.”
لكن عيناي انعكست فيهما مرارة.
“أنا لا أخشاهم… بل أخشى الكلمات.
الكلمات التي قد تُقال أمام تلك الفتاة… الكلمات التي تجرح ولا تداوي.”
نهضت من مقعدي، بدأت أتجول داخل المكتب.
“في النهاية، تمكّنت من تسجيلها.
رسمتُ الحدود، وفرضتُ السكوت، ولم يجرؤ أحد على التدخل.”
لكنني توقفت، وحدّقت في الأرض.
“المشكلة الآن…”
نظرت إلى النافذة، حيث يمر ضوء النهار باهتًا عبر الزجاج.
“… أني لا أعرف عمرها.”
مررت يدي على وجهي، وأطلقت تنهيدة ثقيلة.
“والمشكلة الأكبر…”
سكتّ لحظة.
“أني لا أتكلم مع كاميلا منذ تلك الليلة.
أتجاهلها كلما حاولت التحدث… وأعرف أنها تفعل المثل.”
أعدت جلوسي، ببطء.
“ولا أحد غيرها يعرف عمر الطفلة…
وليس بإمكاني أن أسألها الآن.”
أطرقت برأسي، ثم تمتمت، بصوت خافت فيه شيء من العبث واليأس:
“هل أسجّل عمرها هكذا… بالنظر فقط؟”
رفعت بصري نحو السقف، وتساءلت:
“تبدو في الحادية عشرة، ربما…
لكن، هل يكفي هذا؟”
همستُ لنفسي، والنظرة تائهة في الفراغ.
لم يجبني أحد…
فقط الصمت، هذا الصديق الثقيل الذي يرافقنا حين نُترك وحدنا أمام قراراتنا.
وفجأة-
طرقٌ خفيف على الباب.
رفعت رأسي، شاردًا.
“ادخل.”
فتح الباب بهدوء، ودخل سيلاس وهو يحمل صينية صغيرة عليها إبريق الشاي وفنجانان.
“سيدي الدوق، أحضرت الشاي.”
لكني لم أجب، لأن شيئًا آخر شدّ بصري…
خلف سيلاس، كانت خطوات صغيرة تتقدّم، وشيء من الحركة الخافتة ينساب على الأرضية…
فتاة.
كانت تتمايل بخفة خلفه، كمن يتردّد… ثم ثبتت في منتصف الغرفة، مترددة بين الرجوع والتقدم.
قال سيلاس بخفوت، وهو يلتفت إلى الوراء:
“هيا آنستي، تشجّعي…”
ثم ابتعد جانبًا، كاشفًا إياها تمامًا.
وبينما كانت تتقدّم ببطء، وقف الزمن لوهلة.
شعر بنفسجي داكن، كالجمشت تحت ضوء غروب.
عينان بنيتان، دافئتان كالأرض…
وبشرةٌ صافية، بلون الحليب والضوء…
ولم تكن تلك الطفلة التي رأيتها في أول يوم. لا.
كانت تقف هناك… وكأنها خرجت من إحدى لوحات القصور الملكية، بملابس بسيطة لكنها نظيفة، مرتبة، أظهرت أناقة طبيعية لم تُجبر.
جميلة.
تلك الكلمة عبرت في خاطري دون استئذان.
لكنها ليست فقط جميلة…
إنها تحمل شيئًا في وقفتها…
ذلك الحذر الهادئ، وتلك الرهبة المكبوتة خلف ابتسامة خفيفة…
كأنها اعتادت أن تخشى، لكنها اليوم تحاول… أن تُصدق.
وقفت أمامي دون أن ترفع رأسها كثيرًا.
أمسكت بيديها أمامها، تتشابك أصابعها بارتباك.
“سيدي الدوق…”
قالت بصوت خافت، كأنه يكاد يُسمع.
“أردت فقط أن… أشكرك.”
تلعثمت، ثم انحنت قليلاً، بكل تهذيب.
سكتّ.
لم أعرف… ماذا أقول.
نظرت إليها طويلًا.
وفي داخلي، انبعث شعور جديد… لا يشبه ما شعرت به في دار الأيتام، ولا عند رؤية كاميلا تنهار.
بل شعور بأن هذه الطفلة…
قد تغيّر شيئًا… حتى فيّ.
مدّت يدها الصغيرة ببطء، وكأنها تخشى أن يُرفض منها حتى الهواء…
كيس قماشي صغير، بسيط، محكم الربط، يبدو أنه خُيّط بخيط خشن وبإبرة قديمة.
رفعت يدها به نحوي… وانحنت أكثر، حتى لامس شعرها أطراف أصابعها، وعيناها مطرقتان في الأرض.
ثم جاء صوتها…
“أنا آسفة… لمقاطعتك، سيدي الدوق.”
صوتها كان خافتًا، مرتعشًا، كمن يقاوم دموعًا لا تُقال، وكسورًا لا تُجبر.
“لكن… عندما سمعت أنك تشاجرت مع أمي، ظننت… أن ذلك بسببي.
أنا… آسفة جدًا…
لو كنتُ أسبب لك المتاعب، فقط… دعني أرحل بهدوء، لن أزعج أحدًا…”
“لكني… صنعتُ هذا لك.”
رفعت الكيس أكثر، بإصرار ضعيف، كمن يقدم قلبه داخل قطعة قماش.
“رجاءً… فقط، خُذْه… حتى لو لم ترغب بي.”
وفجأة…
قطرات.
سقطت على الأرض، ببطء… رنّ صوتها في أذني كجرس خطر.
نظرت إلى يدها… ثم حدقت جيدًا:
حروق.
نخرت أنفاسي، واهتز شيء بداخلي…
أمسكت يدها بسرعة، بقوة ربما أرعبتها للحظة، لكني لم أستطع التماسك.
“ما هذا؟!”
صوتي خرج أجش، محمّلًا بالغضب والقلق في آن واحد.
“لماذا يداك هكذا؟ من فعل هذا؟!”
التعليقات لهذا الفصل " 26"
كاميلا 😢😢 ياقلبي عليها اعشقهاا يارب اوريانا تقدر تنقذها ولا بنهبببببل انا