في ذلك الوقت، بعد أن رزقنا بآيثان، طفلي الثالث،
هرعتُ من الاجتماع فورًا إلى جناح كاميلا ما إن وصلني الخبر.
لم أكن أسمع شيئًا سوى دقات قلبي،
كل خطوة في الممر كانت تزداد ثقلًا، كأنني أعبر الزمن نفسه.
دفعت باب غرفتها بقوة،
وعيناي تبحثان عنها بجنون.
“كاميلا! أين المولود؟!”
رفعت كاميلا رأسها بهدوء،
وضعت إصبعها برقة على شفتيها، تشير لي أن أخفّض صوتي.
“هشش… ستوقظ الطفل.”
كان صوتها رقيقًا، لكنه مشوب بتعبٍ خافت،
وتعبير وجهها، رغم هدوئه، كان يحمل شيئًا خفيًا…
مزيجًا بين الإرهاق والشيء الذي لم أستطع تفسيره فورًا… هل هو خيبة؟ أو خذلان خافت؟
اقتربتُ منها بخطوات حذرة،
وقلبي لا يزال ينبض بقوة.
عندما وصلت إلى السرير،
رأيت الطفل…
نائمًا بهدوء،
غارقًا في بطانية صغيرة،
وشعره الوردي ينسدل بنعومة فوق جبينه الصغير.
شهقت بهدوء، وانخفض صوتي دون وعي:
“جميل… يا له من طفل جميل…
شعره يشبهك، كاميلا… ويشبه ليونارد…”
لم تردّ على الفور،
فقط نظرت إليه للحظة طويلة، ثم همست:
“أجل…”
نظرت إليها مطولًا،
وجهها لم يكن متعبًا فقط…
بل خاليًا من الفرح الذي توقّعته،
الوميض المعتاد في عينيها، لم يكن موجودًا.
جلست إلى جوارها، وضعت يدي فوق يدها وسألت بلطف:
“كاميلا… ما الأمر يا عزيزتي؟
تبدين… لستِ سعيدة.”
رفعت كاميلا يدها إلى وجهها بصدمة خفيفة، وكأنها فوجئت بانعكاس مشاعرها على ملامحها.
“ماذا…؟ هل يبدو ذلك علي؟”
همست، ثم تنهدت وأضافت بنبرة هادئة، متعبة، تحمل خلفها شيئًا من الأسى:
“لم أستطع التحكم في مشاعري، هذا كل ما في الأمر…”
ابتسمت بعد لحظة، لكنها كانت ابتسامة رقيقة، تكسوها طبقة من الحنين:
“كنت أريده أن يكون فتاة…
تخيل فقط، فتاة صغيرة تجري في أرجاء المنزل، ضحكتها تملأ الممرات…
كانت ستصبح جميلة، بلا شك.
كنت أراها في أحلامي، تمسك بطرف فستاني، تطلب حضني، تلعب بزهور الحديقة…”
وضعت يدي بلطف على كتفها، وقلت بصوت منخفض:
“كاميلا، عليكِ أن ترضي بمولودنا. لا تفكّري هكذا…”
هزّت رأسها برفق، وقالت بسرعة وكأنها تخشى أن يساء فهمها:
“بالطبع أنا راضية به، وسأحبه من كل قلبي…
سأملأه بحناني، ولن يشعر يومًا بالنقص.
لكن… أردت فقط أن أجرّب إحساس وجود فتاة في المنزل…”
نظرت نحوي بعينين تلمعان من التعب، والصدق:
“أصدقائي لديهم بنات، يحمونهن ويهتمون بهن،
ليونارد… كان يقول دومًا إنه يغار من أصدقائه لأن لديهم أخوات صغار يرعونهن.
حتى أوسكار، الذي لا يتحدث كثيرًا…
قال لي مرة واحدة فقط، إنه يتمنى لو أن لدينا أختًا نهتم بها.”
اقتربت منها أكثر، وضعت جبيني على جبينها بلطف،
ونظرت في عينيها:
“كاميلا… هذا ليس ذنبك.
نحن لا نقرر ما يكون…
وإن أتى ولدًا، فهو نعمة، كما كانت الفتاة ستكون نعمة.
اهدئي، كل شيء سيكون جميلًا.”
صمتت لحظة، ثم التمعت عيناها من جديد، وقالت بابتسامة خفيفة:
“لحظة… ما رأيك في فكرة؟”
رفعت رأسها قليلًا، ونظرت إليّ بعينين فيهما أمل:
“ما رأيك… عندما يكبر إيثان قليلاً، أن نتبنّى طفلة؟
أتذكر؟ كنا سنسمي الفتاة أوريانا، لو وُلدت فتاة…
فلم لا؟ ننتظر فقط أن يكبر قليلاً، وسأبحث عن طفلة… نرعاها ونحبها.”
نظرتُ إليها، وقلبي امتلأ بدفء نادر،
ثم مدت يدها وأمسكت بيدي بقوة، ابتسامة صادقة على شفتيها:
“هل لديك مانع؟”
هززت رأسي بهدوء، وربتُّ على يدها.
“كلا… بل هذا سيسعدني،
وسيسعد إيثان أيضًا…
وسأسعد أنا، وأنا أراكم جميعًا…
أطفالي، والفتاة التي ستنضم إلينا،
كأنها كانت دائمًا جزءًا من هذا البيت.”
ضحكت كاميلا برقة، وهمست وهي تنظر إلى الطفل النائم:
“فقط ليكبر قليلاً…
أريد أن أرى فتاة بين أولادي،
فتاة واحدة فقط…
وسط ثلاثة أولاد يحبونها ويحتمون حولها،
يا له من مشهد جميل.”
بعد مرور أربع سنوات…
صباحٌ دافئ من شتاء ناعم،
النسيم يحرّك أطراف معطفي،
واليوم… أخيرًا، هو اليوم الذي انتظرناه طويلًا.
اليوم، سأذهب إلى دار أيتام جيد.
أنا وكاميلا، كما اتفقنا منذ سنوات،
قررنا أن يكون هذا اليوم هو بداية البحث عن “أوريانا”… الطفلة التي ستكون جزءًا من عائلتنا.
خطوتُ باتجاه العربة التي كانت تنتظر أمام بوابة القصر،
حذائي يطرق على الأرض الحجرية بصوت خافت.
ثم… سمعت صوتًا يناديني.
رفعت رأسي نحو الشرفة.
كانت كاميلا.
تقف هناك، شعرها يتطاير قليلًا مع الريح،
كانت تلوّح لي بيدها من الشرفة،
وابتسامتها الواسعة تملأ وجهها حماسًا وفرحًا نقيًا،
كما لو كانت طفلة تنتظر هدية وعدوها بها منذ سنوات.
“عد بسرعة!”
صرخت وهي تضحك، وكأن قلبها لا يتسع ليومٍ كهذا.
ابتسمتُ لها من الأسفل،
ثم تابعت طريقي نحو العربة، خطواتي هادئة،
لكن قلبي… لم يكن صاخبًا كما توقعت.
صعدتُ العربة بهدوء،
وجلستُ على المقعد المقابل للنافذة،
وضعت رأسي على يدي المستندة إلى طرف النافذة،
وتركت أفكاري تأخذني في صمت.
بصراحة؟
أنا لا أشعر بذات المشاعر التي تغمر كاميلا…
لا أجد في داخلي ذلك التوق العاطفي الشديد لوجود فتاة،
ولا أرى نفسي أملأ المنزل بضحكاتها أو ألاحقها في الممرات.
لكن… رؤية كاميلا تبتسم بهذا الشكل؟
هذا وحده يكفيني.
ورغم هدوئي الظاهري، أنا لا أستخفّ بهذه الخطوة.
بل بالعكس…
أنا آخذ الأمر على محمل الجد الكامل.
إن كنت سأتخذ قرارًا بتبني فتاة،
فلا بد أن أراعيها تمامًا،
أحميها، أحرص ألا تُهمل أو تُؤذى،
ما دامت ستكون جزءًا من هذه العائلة…
فهي أمانة في عنقي، مثل أطفالي تمامًا.
وصلت إلى دار الأيتام “جيد”،
نزلت من العربة، وقبل أن أدخل، رفعت نظري لثانية نحو السماء الرمادية…
“كاميلا، انتظري… قد أعود اليوم بابنتنا.”
دخلت إلى المبنى بهدوء.
رحّبت بي المديرة باحترام، وأشارت لي بالجلوس.
“أخبرتني السيدة كاميلا أنكم ترغبون في تبنّي فتاة، بين سن الرابعة والعاشرة؟”
هززت رأسي موافقًا.
“أجل… نريد أن تكون قادرة على التفاعل واللعب، لا صغيرة جدًا فتكون عبئًا، ولا كبيرة جدًا فتغلق على قلبها أبوابًا يصعب فتحها.”
أومأت المديرة بابتسامة دافئة.
“سأبحث عن فتاة تناسب هذا الوصف… لدي واحدة على بالي.
لحظات فقط، سيادة الدوق.”
وغابت المديرة خلف الباب الخشبي الثقيل،
تركتني وحدي وسط غرفة صامتة، إلا من صوت عقارب الساعة الذي بدا فجأة أكثر إزعاجًا.
لحظات،
ثم عاد الباب لينفتح ببطء…
وصوت خطوات صغيرة مترددة تسلّل إلى المكان.
دخلت المديرة، وفي يدها فتاة صغيرة تمسك بأطراف فستانها بخجل واضح.
كانت ذات شعر أحمر ناعم ينسدل فوق كتفيها،
وعينين خضراوين، واسعتين، لكنهما منطفئتان كغصن بلا ماء.
كانت تختبئ خلف المديرة، ترفع عينيها نحوي للحظات ثم تعاود الانسحاب خلفها بخجل غريزي.
قالت المديرة بلطف وهي تضع يدًا حنونة على رأس الفتاة:
“هذه هي الطفلة، يا سيادة الدوق…
فتاة هادئة، طيبة، الجميع يحبها في هذا المكان.”
نظرتُ إليها…
لكن فجأة،
كأن قلبًا ثقيلاً أُلقي في صدري،
كأن الهواء في الغرفة بات أثقل من أن يُتنفّس.
شعور خانق… ثقيل… لا يمكن تفسيره.
كأنني أواجه ظلًا من ماضٍ لا أعرفه…
كأن هناك شيئًا خاطئًا، رغم براءتها.
حدّقت في الفتاة،
ملامحها رقيقة… نظراتها منكسرة…
لكن الإحساس داخلي لم يتراجع، بل ازداد سوءًا.
برودة تسري في أطرافي، وغصة تتشكل في حلقي.
نهضت من مقعدي فجأة،
محاولًا إخفاء انفعالي تحت قناع اللباقة:
“أعتذر منكِ، سيدتي…
أظن أني بحاجة إلى مناقشة الأمر مع زوجتي.
ربما يكون من الأفضل أن تأتي هي المرة القادمة،
لأني… لست بارعًا في هذه الأمور.”
مددت ابتسامة مجاملة مصطنعة،
ثم استدرت بخطوات سريعة نحو الباب،
أريد فقط الخروج… الهروب من هذا الإحساس الذي يُطبق على صدري كالكماشة.
لكن فجأة…
“ههئ… ههئ… ههئ…”
ذلك الصوت… صغير، لكنه مسموع بوضوح.
صوت بكاء حقيقي… هشّ، صادق… لكنه مشحون بشيء أبعد من الحزن.
توقفتُ… جمدت قدماي في مكانهما.
استدرت ببطء، وإذا بي أراها…
الطفلة، واقفة وحدها، ترتجف، ودموعها تنساب على وجنتيها بصمت.
عيناها تحدقان بي… مباشرة.
ليست بنظرة عتاب، ولا حتى رجاء…
بل نظرة خيبة عميقة… كسرة من الداخل… تمزّق القلب.
انحنيت على ركبتيّ، ببطء، كأن ثقلًا يجذبني إلى الأرض،
اقتربت منها، صوتي منخفض، يكاد لا يُسمع:
“يا صغيرة… ما بكِ؟ لماذا تبكين؟”
ارتجفت شفتاها، وخرج صوتها متهدجًا كأن الكلمات تؤلمها:
“هل… هل أنا سَيئة؟
هل… لست جميلة؟
لهذا… تكرهني يا دوق؟”
شهقتُ في داخلي، كأن خنجرًا زُرع في صدري.
اتسعت عيناي، ولم أجد أي كلمات كافية.
هززت رأسي سريعًا:
“لا! لا، هذا ليس صحيحًا إطلاقًا…
أنا فقط… لم أكن مستعدًا، هذا كل ما في الأمر…
لا تبكي، أرجوكِ…”
لكنها لم تتوقف.
قالت بصوت مخنوق، تتنفس بصعوبة وسط البكاء:
“عندما قالت لي المديرة إن أحدًا قادم… ليأخذني…
كنت سعيدة… للمرة الأولى منذ شهور.
صففت شعري وحدي، ووقفت عند الباب منتظرة…
ظننت أن هناك من… يريدني.”
خفضت رأسها، كتفاها يرتجفان،
ثم رفعت نظرها إليّ مجددًا:
“لكن…
نظرتك… كانت مثل كل النظرات الأخرى…
كأنك رأيتني… ولم تعجبك.
لو لم تكن تريدني…
فلماذا استدعيتني؟
لماذا… أعطيتني أملاً كاذبًا؟”
شعرتُ بثقلٍ غريب يهوي فوق صدري…
كأن كلماتها سكنت داخلي ورفضت الرحيل.
كل حرف نطقته لم يكن مجرد عتاب،
بل مرآة… مرآة صافية كشفت خطئي، دون مجاملة.
وقفتُ ببطء، شعرت بركبتيّ تتثاقلان،
لكن قلبي كان أثقل.
حتى وإن لم أشعر بالراحة تجاه هذه الفتاة…
حتى وإن ظل شيء داخلي يرفضها بصمت…
لا يمكنني أن أكون سببًا في كسرها مرتين.
أخذت نفسًا عميقًا،
ثم التفتّ نحو المديرة، وقلت بنبرة ثابتة:
“حسنًا… سأتبنّى هذه الطفلة.
من فضلك، جهزي أوراقها وكل ما يخصها.”
ابتسمت المديرة ابتسامة ناعمة، وكأنها كانت تنتظر هذا القرار،
وربتت على رأس الفتاة بحنان وهي تقول:
“أرأيتِ؟ قلت لكِ يا آنسة فيكتوريا،
الدوق رجل طيب… وسيحبك.”
فيكتوريا.
هذا اسمها.
لكنني شعرت بشيءٍ ينفر من الاسم…
كأنه يحمل ثقلًا غريبًا لا أستطيع تفسيره.
“هل يمكنني تغيير اسمها؟”
سألت بهدوء.
أجابت المديرة:
“بالطبع، يا سيدي. لكن عليك مراجعة قسم المحاكمة لتغيير أوراقها الرسمية وملف هويتها بالكامل.
فعند التبني، الاسم الأخير يُستبدل باسم الأسرة الجديدة، أما الاسم الأول… فهو يحتاج إجراء قانوني خاص.”
هززت رأسي بإيماءة صغيرة:
“حسنًا، سأهتم بهذا لاحقًا.”
ثم التفتُّ نحو الفتاة وقلت بصوت هادئ، مجهودي ظاهر في كل نبرة:
“هيا بنا، فيكتوريا.”
استدرتُ مغادرًا، والطفلة تمشي خلفي بخطى مترددة،
كل خطوة منها كانت تحمل وزنًا لم أستطع قياسه…
وأنا؟ لا زال داخلي غارقًا في خليط من الانقباض، والتردد، والمسؤولية.
لكن فجأة، سمعت صوتها:
“أبي! انتظر!”
توقفت.
التفتُّ إليها بدهشة خفيفة، وحاجباي يرتفعان.
“ماذا…؟”
سألتها.
رفعت رأسها إليّ، ابتسامة خجولة ترتسم على وجهها الصغير:
“ألم تتبنّني؟ إذًا… أنت والدي، أليس كذلك؟”
لم أجب.
قلبي انقبض لوهلة… ثم تحرك شيء خافت في داخلي.
تابعت هي، بنبرة خافتة:
“كنت أتساءل… يا أبي،
هل يمكنني… أن أمسك يدك؟”
كانت نظراتها تنظر إلى يدي، ثم إلى عينيّ،
وفي عينيها لمعة من تردد طفولي…
لا يجرؤ على الرجاء، لكنه لا يقدر على الكتمان.
رغم شعوري الخانق… الذي لا يزال عالقًا في صدري،
أومأت بالموافقة.
مدت يدها الصغيرة، وتسللت إلى كفّي.
أصابعها كانت ناعمة… دافئة… مترددة.
شعرتُ باختناقٍ أشد،
كأن يدي تُسحب إلى حفرة لا أعرف عمقها.
كان الإحساس خانقًا لدرجة يصعب تجاهلها.
لكن ماذا لو…؟
تذكرت تعويذة تهدئة نفسية، كنت أستخدمها في لحظات القتال الحادة.
تمتمت بها همسًا، وشعرت بطاقة دافئة تنساب في عروقي،
تهدئ عقلي، وتكبح تلك الفوضى المشوشة في صدري.
هدأ صدري قليلًا…
لكنه لم ينفتح بعد.
ليس تمامًا.
نظرتُ إلى الطفلة الواقفة إلى جواري، وقلت بنبرة هادئة، لكن حازمة:
“هيا، أسرعي. لنعد إلى الدوقية.”
ركبنا العربة معًا.
جلستُ على المقعد المقابل لها، وراقبتها وهي تحدّق من النافذة، ملامحها شاحبة، وصمتها يبتلع كل شيء.
كنت أحاول أن أكتم ذلك الضيق العالق داخلي…
ذلك الشعور الثقيل الذي لم يختفِ رغم السحر.
أجبرت شفتي على الابتسام، فقط لأخفي ما لا يُقال.
عند بوابة الدوقية، كانت كاميلا واقفة في انتظاري.
ملابسها المنزلية الأنيقة تتمايل مع النسيم، والخدم مصطفون خلفها،
لكنها كانت تبتسم — تلك الابتسامة الهادئة التي لا تزال تضيء كل شيء حولها.
ترجلتُ من العربة، وألقيت عليها نظرة دافئة كاذبة.
ثم التفتّ خلفي، ومددت يدي للفتاة.
نزلت ببطء… خطواتها صغيرة، خجولة،
ثم اختبأت خلفي كليًا، تمسك بطرف معطفي كدرع تحتمي به.
ترددتُ، ثم نظرتُ إلى كاميلا وقلت باعتذار خافت:
“يبدو… أنها خجولة قليلاً.”
لكن كاميلا لم تنزعج، بل اقتربت بخطوات ناعمة، وانحنت قليلًا ونادت الفتاة بصوت دافئ مشرق:
“أيتها الطفلة… تعالي.
أنا أمك الآن… تعالي إلى أمك، صغيرتي.”
كلماتها خرجت كما لو كانت دعوة من عالم آمن،
صادقة، حنونة… كأنها حضن قبل أن يُفتح.
لكن ما إن نظرت الفتاة إلى كاميلا…
حتى تغيّر كل شيء.
كاميلا، التي كانت تبتسم،
جمدت ملامحها فجأة.
اتّسعت عيناها ببطء… ثم ارتجفت رموشها…
كأن شيئًا غير مرئي صفع قلبها فجأة.
وفي لحظة… انهارت.
“كاميلا!”
صرختُ، ومددت يدي قبل أن تسقط تمامًا،
لكنها كانت قد سقطت أرضًا، بلا حراك.
الخدم هرعوا نحوها.
ركعت بجانبها، أمسكت وجهها المرتبك…
لكنها لم تستجب.
بعد دقائق، كانت في غرفتها، مستلقية على سريرها،
الطبيب أنهى فحصه ونظر إليّ قائلاً:
“لا شيء ظاهر، سيادة الدوق… لا حمى، لا خلل جسدي.
جسدها بخير… لكن ربما أصيبت بصدمة عاطفية مفاجئة.
الأمر… نفسي.”
شكرته بصمت، وطلبت منه المغادرة.
جلستُ بجانبها.
كانت كاميلا هادئة، تنفّسها منتظم، لكن جبهتها متعرّقة وكأنها شهدت شيئًا لا نعرفه.
نظرتُ نحوها طويلاً…
وبداخلي سؤال واحد يتردد بلا إجابة:
“ما الذي رأته في عيني تلك الطفلة…؟”
مرت دقائق ثقيلة في الغرفة،
ثم… بدأت جفون كاميلا ترتجف بخفة.
فتحت عينيها ببطء، كأنها تعود من حلم غارق بالضباب،
تأملتُ وجهها بشيء من الارتياح، لكن قلبي لم يتوقف عن الخفقان.
اقتربت منها، وجلست على حافة السرير،
وصوتي يخرج هادئًا… لكنه مشحون بالقلق:
“كاميلا… هل أنتِ بخير؟”
رمشت بعينيها مرتين، كأنها تحاول استيعاب ما جرى، ثم تمتمت:
“ما الذي… حدث؟”
أجبتها برفق، دون أن أضغط عليها:
“كنتِ تقفين أمام الطفلة… ثم فجأة تجمدتِ،
لم تنطقي بكلمة… ثم سقطتِ مغشيًا عليك.
كاميلا… هل رأيتِ شيئًا؟ هل شعرتِ بشيء؟”
صمتت.
تردّد ظهر في تعابيرها، ثم عقدت حاجبيها وقالت ببطء:
“لا أعلم…
شعرت بخوف… غريب… وكأن شيئًا ضخمًا كان يجثم فوق صدري.
كانت مجرد لحظة،
لكنها لم تكن طبيعية.”
ثم نظرت حولها فجأة، ونبرة التوتر تصاعدت في صوتها:
“أين… الطفلة؟”
قلت بهدوء:
“طلبت من الخدم أن يأخذوها إلى الغرفة التي جهزناها مسبقًا.”
كاميلا اتسعت عيناها، ثم نظرت إليّ بذعر خافت:
“ماذا؟! أهي… لا تزال هنا؟
إدوارد… أرجوك، أعدها من حيث جاءت.
أنا… لا أرتاح لها.
لا أريد هذه الطفلة. أريد فتاة أخرى.”
كانت كلماتها كطعنة غير متوقعة،
لكنني أمسكت بيدها برفق، ضغطت عليها بهدوء، ونظرت في عينيها:
“كاميلا…
اهدئي. رجاءً، افهميني.
لا يمكنني أن أعيدها الآن… لقد أخذتها، ووضعت الأمل في قلبها،
أتريدين أن أكون الشخص الذي يكسر طفلة أخرى؟”
ارتجفت شفتاها، كأنها تريد الاعتراض،
لكنني تابعت:
“إن كنتِ لا تستطيعين التعامل معها… لا بأس.
فقط لا تؤذيها، ولا تقتربي… دعيني أتكفل بكل شيء.”
ثم أضفت بنبرة أهدأ، وأنا أنظر إلى النافذة:
“بالمناسبة… اسمها فيكتوريا،
لكنني كنت أنوي تغييره إلى أوريانا… كما اتفقنا سابقًا.”
وقبل أن أنهي الجملة، قاطعتني كاميلا فجأة،
نبرة صوتها منخفضة… لكنها مليئة برعب غامض:
“لا… لا تفعل…
لا تعطيها الاسم.
أرجوك، فقط… اتركه كما هو.”
نظرت إليها لحظة، ثم أومأت:
“كما تشائين.”
ومرّت الأيام…
كاميلا كانت تحاول.
تبتسم للطفلة، تسألها بلطف، تضع لها الحلوى أحيانًا…
لكنّ شيئًا فيها بقي حذرًا، متراجعًا، وكأنها تلمس جدارًا زجاجيًا بينها وبينها.
رغم لطفها، لم تقترب منها يومًا كأمّ.
أما أنا،
فقد أغدقت عليها بكل ما تحتاجه — ملابس، كتب، ألعاب، دروس خاصة،
وكنت أتحجج بالعمل دائمًا لأتفادى الاحتكاك الطويل بها…
لكني في داخلي، لم أردها أن تشعر بأنها غريبة أو منبوذة.
ليونارد…
لم يُعرها اهتمامًا يُذكر، بل مرة واحدة، رأيته ينظر إليها من بعيد، عيناه تعكسان شكًا لم ينطق به، رغم أنه كان من طلب أختًا صغيرة يومًا.
تجاهلها، كأن وجودها لم يغيّر شيئًا في حياته.
أوسكار، على عكسهم،
كان يظهر بعض اللين أحيانًا.
يبادلها الحديث، يسألها إن كانت أكلت،
يحاول أن يقترب منها، لكن ببرود واضح،
دون أن يمنحها دفء الأخوة الحقيقي.
ومع مرور السنوات الثلاث…
ظلت هي كما كانت:
هادئة، مطيعة، ذكية…
لكن عينيها ظلّتا تائهتين،
كأن شيئًا في داخلها يرفض أن يشفى، أو أن يثق، أو أن ينسى.
أما اليوم…
فقلبي لم يعرف الطمأنينة.
كانت كاميلا قد قررت الخروج بجولة في أنحاء مقاطعة سيريوس.
قالت إنها “تريد الاطمئنان على أحوال الناس”،
لكنني كنت أعرف…
أن كاميلا، بلطفها وطيبتها، لا تدرك قسوة العالم من حولها كما ينبغي.
لذا أرسلت معها عددًا مضاعفًا من الحراس.
ورغم ذلك، لم أستطع التركيز،
وظلت يدي ترتجف فوق الأوراق دون أن أقرأ منها سطرًا.
كل دقيقة تمر كانت ثقيلة…
حتى سُمِع صوت العربة في ساحة الدوقية.
نهضت من مقعدي بعنف، ودون تفكير،
ركضت نحو المدخل، خطواتي تُحدث صدى في أروقة القصر.
فتحت الباب، ووقفت أمام العربة قبل أن يتمكن أحد من إعلان قدومها.
وبلحظة… فُتح الباب.
نزلت كاميلا أولًا، وعلى وجهها ابتسامة مطمئنة.
“كاميلا!”
صحتُ باسمها، وقلبي يكاد يخرج من صدري.
“هل أنتِ بخير؟ لقد أقلقتني بحق—”
لكني لم أُكمل.
إذ ظهر من خلفها شخصٌ آخر.
فتاة صغيرة
وقفت بجانبها بهدوء.
نظرت الي الفتاة ثم كاميلا و بصوت متماسك ظاهريًا:
“كاميلا… من هذه؟ ولماذا… هذه الفتاة معك؟”
_______________________________________
صورة للحية وهي صغيرة لو عجبكم الموضوع احط صورة لأوريانا وهي صغيرة المرة الجاية

التعليقات لهذا الفصل " 25"
اشتقت لهالروايه🥺🥺 امم كيف تقدرون تشوفون الصور مو ظاهره لي😭