بعدَ قليلٍ.
تمكّنتُ أخيرًا من الهدوءِ، وبدأتُ أتجنّبُ نظراتِ أختي بشدّة.
‘أواااه، لم أعُدْ أحتمل!’
رغم أنّي استرجعتُ منظرَ أختي وهي تُحرَق حيّة…
إلّا أنّ فقداني لصوابي والتشبّث بها بهذا الشكل!
لقد أصبحتُ مشبوهةً تمامًا!
بدليل أنّ أختي كانت تسندُ ذقنها بيدها، وتحدّقُ فيّ بصمتٍ.
“ما كنتُ أعلم أنّ مي تخاف من النّار.”
ثمّ بدأتْ تُتمتِمُ مع نفسها بوجهٍ مريب.
“غريبٌ، كنتِ بخيرٍ تمامًا في السّابق.”
طبعًا، لا بدّ أنّ الأمر غريب.
ففي حياتي السابقة، لم يكن لديّ أيُّ نفورٍ من النّار.
لكنّ ذلك شيء لا أستطيعُ أن أشرحَه، لذا اكتفيتُ بتجاهل ما قالته وركّزتُ على وعاءِ الماء أمامي.
“على كلٍّ، يبدو أنّها مصيبة. لقد نفدَ منّي الدّقيق كلّه…”
ثمّ تمتمتْ أختي بصوتٍ خافت:
“بهذا لن أتمكّن من صنع شيءٍ لذيذ لمي.”
عينُها كانت تتأمّلُ المطبخَ الذي يتطاير فيه الرّمادُ الأسود.
‘آه؟’
في تلك اللّحظة، لمعتْ في ذهني ذكرى كنتُ قد نسيتُها.
كانت تلك الحادثة في مثل هذا الوقت من العام تمامًا.
كنتُ آنذاك أتناول فقط علف أختي الخاص يومًا بعد يوم.
نعم، العلف ذاته الذي أكلتُه اليوم.
بعد أيّامٍ من تناوله، أصبح طعمه المُرّ يملأ فمي كلّما تنفّست!
“لا أريد أكل هذا العلف بعد الآن! لقد مللتُه!”
كنتُ أضربُ الوعاءَ بمخالبِي، ثم أستديرُ عنه متجهمةً.
ظهرَ الحرجُ واضحًا على وجه أختي.
“لكن عليكِ أن تأكلي، حسنًا؟”
حاولتْ مرارًا أن تُرضيني، لكنّني كنتُ وقتها طفلةً مدللَة.
“كلّ يوم نفس العلف! هل تظنّينني أرنبًا؟!”
“مي…”
“أريد أن آكلَ لحمًا مجفّفًا! أريد نقانق! أريد فخذ دجاج أيضًا! وأيضًا…!”
صببتُ جامَ غضبي على أختي.
كانت تستمعُ إلى ثورتي بصمتٍ، وشفاهُها مضمومةٌ.
ثمّ، دون أن تخبرني، خرجتْ من المنزل.
وفي مساء ذلك اليوم…
“واااو، ما كلُّ هذا؟!”
حدّقتُ في مائدة الطعام المليئة بكلّ شيءٍ تمنّيتُه بعينَي أرنبٍ مذهولتَين.
النّقانق، أفخاذ الدّجاج، وغيرُها كانت مكدّسةً فوقَ المائدة.
وكانت أختي تبتسمُ لي بلُطف.
“كُلي كثيرًا، يا مي.”
ظننتُ للحظة أنّ ابتسامتها كانت تحمل شيئًا من الحزن… لكنّني سرعان ما نسيتُ ذلكَ.
فقد انشغلتُ عن كلّ شيءٍ بأطباق الطعام الدّسمةِ التي لم أتناولْ مثلها منذ زمن.
وربّما لهذا السّبب…
لم أُعِر أيّ اهتمامٍ لكلماتِ أختي في ذلكَ الحين.
“لو بعتُ تلك الأشياء السّخيفة باكرًا دون تردّد… لكان أفضل.”
…لماذا أتذكّرُ هذا الآن فقط؟
تجمّدتُ في مكاني.
بعد ذلك اليوم، بدأ وضعُنا المالي يتحسّن تدريجيًّا.
كانت الطّاولة دومًا عامرةً بالأطعمةِ، وبعد أن نجحتُ في التّحوُّل البشري، أصبحتُ أرتدي ملابسَ نظيفةً وجميلةً دائمًا.
لكن، ما الذي ضحّتْ به أختي لتحقيق ذلك؟
ما الذي كانت تملكهُ لتبيعهُ، من أجل كسبَ المال…؟
‘لم تكن تملك سوى أدواتٍ سحريّة، وكتبًا قديمة عن السّحر.’
أدواتُ البحث السّحري، والكتب النّادرة التي لا تُباع في أيّ مكان.
كلُّها كانت من القليل الذي ورثتهُ عن والدينا.
…ومع مرور الوقت، بدأتْ تختفي شيئًا فشيئًا.
‘لا… مستحيلٌ.’
نهضتُ فجأةً.
ركضتُ إلى غرفة التّجارب، فتبعتني أختي مُرتبكة:
“مي! ما بكِ فجأةً؟!”
لكنّني تجاهلتُها وبدأتُ أفتّش الغرفة بجنون.
و…
‘فيوه.’
تنفّستُ الصّعداء.
كانت الكتب القديمة ما زالتَ في مَكانها، وأدواتِ البحث المُعتنى بها جيّدًا كانت تلمعُ تحت الضّوء.
“ما بكِ؟ ما الأمر؟”
سألتني أختي بوجهٍ مرتبكٍ.
نظرتُ إليها بصمت، يُراودني شعورٌ ثقيل.
‘لقد عشتُ طوال الوقت على حِسابها…’
في اللحظة التي فهمتُ فيها ذلك…
شعرتُ كأنّ حجرًا ضخمًا سقط على قلبي.
“مياا. (لا شيء.)”
أنا آسفة، أختي…
كنتُ حمقاء جدًّا… لم أفهمَ شيئًا.
غمرني شعورٌ غامر بالذّنبِ.
فمسحتُ برأسي على جسدها بانكسارٍ.
أمّا أختي، التي لم تكن تدري بشيءٍ، فقد ربّتت على ظهري بلُطفٍ.
“غريب، ما بكِ اليوم يا مي؟ مدلّلةٌ هكذا فجأة؟”
كنتُ أستسلمُ للمسةُ أختي الحنونِ، وداخلي مليءٌ بالحزن… حينها، لمعت عيناي فجأةً.
‘هناك أمرٌ مريب.’
أتذكّر جيّدًا…
أنّ أخي أَدريان قد وعدَنا بتقديم الدّعم إنْ انتَقلنا إلى العاصمة.
ذلك الدّعم يشمل الموادّ الغذائيّة، والأموالَ، وكلّ ما نحتاج إليه.
أي أنّنا لم نكن يجب أن نُعاني.
لكنّ كلمات أختي قبل قليل، وتذكُّري للأحداث الماضية… تُثبت أنّنا لم نحصل على ذلك الدّعم.
‘لا يمكن أن يكون أخي قد كذبَ عَلينا.’
هل كان هناك سببٌ آخر لعدم وصول الإمدادات؟
كنتُ أغرقُ في التفكيرِ حين…
رنّ الجرس فجأة بصوتٍ عالٍ.
كان ذلك بفعل التّعويذة الوقائيّة التي نشَرتها أختي حول القصر، والتي تكشف أيّ وجودٍ يقترب دون إشعارٍ مسبق.
والأشخاص القادرون على تجاوز التّعويذة هم: أنا، أختي، وأخي أَدريان فقط.
“…مَن يكون؟”
تحوّل وجه أختي من السّكون إلى الصّرامة في لحظة، واستدارتْ نحو مصدرِ الصّوَت بعيْنَين باردتين.
كان السّبب في تشغيل التّعويذة… عربةُ شحن من قِبل دوقيّة فالينسيا.
بدون إشعارٍ مسبق!
أيّ نوعٍ من الوقاحةِ هذهِ؟!
“مي، انتظريني قليلًا، حسنًا؟”
قالت أختي بابتسامةٍ لطيفةٍ، ثمّ خرجتَ وَحدها من القصر.
راقبتُ ملامحها عن كثب.
بمجرّد أن تجاوزت الباب، لاحظتُ برودةً تُغطيَ ملامحها.
‘الأمر مريب حتمًا.’
قفزتُ بسرعة نحو النّافذة.
كانت أختي تتّجه مباشرةً نحو العربة.
‘من الأفضل أن أتأكّدَ بنفسي.’
فتحتُ النّافذة بهدوءٍ، وقفزتُ منها.
اختبأتُ بين الأعشاب، وبدأتُ أتابع أختي بهدوء.
‘ها هي.’
استلقيتُ بين الأعشاب، أحدّقُ في العربة.
‘بما أنّ عربة الشّحن وصلت، فلا بدّ أنّهم يُرسلون لنا إمدادات فعلاً…’
لكن، لماذا كانت أختي تُضطرّ لبيع تركةَ والديها من أجل تدبير المعيشة؟
وكان الجواب واضحًا جدًّا.
“الإمدادات ناقصة جدًّا هذا اليَوم أيضًا.”
قالت أختي وهي تُفحص الصناديق بوجهٍ متجمّدٍ.
“المواد الغذائيّة قليلة، والأعشابِ والموادِ التي طلبناها لم تُرسَل أيضًا.”
ماذااا؟!
اتّسعتَ عيناي في صدمةٍ.
‘حتى الأعشابُ والسّوائل الطّبّية لم يرسلُوها؟!’
أختي جاءت إلى العاصمة لأجل سببٍ واحدٍ.
الوحوش بدأت تزداد بشكلٍ كبيرٍ في الفترة الأخيرة.
وكانت أختي تبحثُ عن حلٍّ لإيقافِ تلكَ الظاهرةِ.
وبالطّبع، كانت تلكَ الأبحاثِ تحتاجِ إلى الكثيرِ من الأعشابَ والسّوائلِ.
وكانت هذه مهمّةً أوكلها إليها أخَي أَدريان بنفسهِ، وأكّد أنّه سيسهّلُ لها كلَّ شيءٍ.
فلماذا؟…
“هاه، يبدو أنّ من يعيش بفضل إحسان الدّوقيّة، يُكثرُ الكلام!”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 5"